بقلم : ناجي بن جنات (كاتب وصحفي) عندما كان رئيسا للحكومة ثمّ رئيسا للجمهوريّة، وفي كلّ مواقع المسؤوليّة التي تقلدها على مدار عقود طويلة من النضال، لم يكن الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي من أصحاب الخطابات السياسيّة الاعتباطية أومن هواة التصريحات المتشنجة، بل كان رجل دولة عصري، عقلاني وبراغماتي يخاطب الناس بما يفهمون على أساس المصلحة الوطنيّة العليا والقيم الإنسانية العليا التي استفاد من معينها، وساهم في إثرائها من خلال مرجعيته الفكرية الواضحة وأسلوبه الفذ المميز في مخاطبة العقول ومقاربة كل القضايا بروح المفكر وإرادة السياسي. خلال كلّ مراحل ممارسته للسلطة لم يكن الباجي قائد السبسي من دعاة التطرف والتعصب والإقصاء والعنف، ولم يجنح لحظة واحدة إلى الانخراط في الأجندات الإقليميّة والدوليّة المريبة، ولم يعقد مؤتمرا واحدا أوساهم في لقاء تفوح منه رائحة التآمر على الشعوب الشقيقة أوالصديقة مثلما حدث أيام الترويكا عندما كان قصر قرطاج مرتعا لشيوخ المسيار والتطرف، وعندما كانت تونس الطيّبة حضنا لمؤتمرات مشبوهة مثل ما يعرف بمؤتمر «أصدقاء الشعب السوري» الذي يعرف التونسيون جيّدا من الذي موّله ونظمه وسهر على تنفيذه وتقاسم الأدوار فيه . الأجندا الوحيدة التي اعتنق الباجي قائد السبسي مذهبها هي الأجندا الوطنية التونسية الأصيلة التي تخدم البلاد وتفيد العباد رغم أنّ المرحلة في تونس وقتئذ كانت موغلة في الشعبوية والغوغائية والديماغوجيا التي اتخذها بعض الأدعياء من السياسويين والانتهازيين مطيّة للزج بتونس في لعبة الأمم والمصالح والتجاذبات . كان الرئيس الراحل صوت العقل والحكمة بامتياز كبير، مدافعا عن صورة تونس الوسطية المعتدلة، ومرآة ناصعة تعكس مشاغل الشعب وهمومه الاقتصادية والاجتماعية المتراكمة في سحب المرحلة، ناهيك دوره الحاسم في ترشيد مسار الانتقال الديمقراطي في تونس وتخليصه من مظاهر الانفلات التي رافقته. وحتى عندما انحاز إلى نهج التوافق كان غرضه الأسمي تحقيق معادلة الأمن والاستقرار والديمقراطية والنماء بعكس من تاجر بهذا التمشي، ومن أراد للتوافق أن يكون جسرا لخدمة مصالح حزبية مشينة وضيقة سرعان ما سقط قناع أصحابها وانكشفت شرورها واضحة وجلية أمام الباجي القائد السبسي فأعلن على الملأ نهاية هذا التوافق بشجاعة وجرأة وحكمة . سيرة الباجي قائد السبسي ينبغي أن تكون درسا للرئيس القادم الذي سينتخبه الشعب التونسي في الاستحقاق الرئاسي الوشيك، وعبرة لكلّ السياسيين الذي خذلوه في ذروة الأزمة وفي مفترق الطرق وأرادوا وضعه في آخر النفق. سيرة الباجي قائد السبسي يجب أن يتوقف عند دروسها أهل السياسية في تونس حتى يتأملوا ويتدبروا ويتعلموا منها ما ينفع الحاضر والمستقبل الوطني الشامل، كي يعيدوا تنقية نواياهم وترتيب خياراتهم ويضعوا النقاط على الحروف، ويدركوا بشكل نهائي قطعي أنّ الصناديق الحقيقية ليست صناديق الانتخابات فقط بل هي صناديق قلوب التونسيين وموضع محبتهم . ينبغي أن يكون رحيل الباجي قائد السبسي منطلقا جديا لبدايات صحيحة ونحن على أبواب انتخابات رئاسية وتشريعية حاسمة ستكون بكل المعايير والضرورات الفيصل الأخير بين أوهام الديمقراطية وحقائقها. الآن وتونس تعيش في غمرة أحزانها، من حق الجميع في الحكم وفي المعارضة أن يطرحوا على أنفسهم الأسئلة الأهم: - لماذا سكن الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي قلوب الناس قبل أن يسكن قصر قرطاج ؟ - لماذا بكاه الكبار والصغار واحتشدوا على قارعة الطرق والشوارع تحت حرارة لا تطاق ليودعونه بالزغاريد والهتافات وأكاليل المحبة والمشاعرالدافئة الصادقة ؟ - لماذا هرع العالم إلى تأبينه، ونكست في وفاته الأعلام وأعلنت أيام الحداد هنا وهناك؟ - لماذا ؟ ولماذا؟ ولماذا؟ إنها رسائل موته ..واضحة صادقة مثلما كانت رسائل حياته بذات الوضوح والصدق،نابضة بحب الوطن والناس.