في الحلقة الماضية رأينا كيف خرب نبوخذ نصر بيت المقدس وسبى خيرة اليهود إلى بابل التي أذهلتهم بعظمتها إلى حد أن بعضهم اعتنق دينها ولغتها فيما كرهها أغلبهم وجعلها رمزا لكل ما هو شر وكافر. أنتجت مرحلة السبي في تاريخ بني إسرائيل ثقافة الشتات ومفهوم العقاب الإلهي والعزلة اليهودية التي نرى أثرها في ثقافة هذا العصر، أما بابل فقد استمرت حضارة كونية عظيمة ليس لها ما يضاهيها. استمر نبوخذ نصر ملكا عليها مخلفا إنجازات نادرة إلى أن توفي عام 562 قبل الميلاد. والغريب أن حضارة بابل هذه المرة لم تدم طويلا إذ في عام 548 قبل الميلاد تعرضت إلى محنة الغزو ثانية من أعداء يقلونها تقدما وحضارة. وكما في المرات السابقة فإن أرض العراق تتعرض لمحنة التخريب من عدو لا يفوقها إلا بالقوة العسكرية، وكان عدوها هذه المرة هم الفرس المجاورين. وفي عام 539 قبل الميلاد ظهر «قورش الأكبر» ملك الفرس الذي أخضع ما حوله من الممالك شرق بلاده وشمالها وغربها حتى طمع في بابل. ورغم أن عهد نبوخذ نصر ومجد بابل ليسا ببعيدين فقد تمكن قورش من السيطرة على هذه المنطقة في وقت وجيز فكان أن هزم ملكها وحرر اليهود أخيرا من الأسر لكنه لن يحررهم من عقيدة الشتات والعزلة التي ستصبح من مميزاتهم إلى الآن، كما لن يخلصهم من ذكريات الأسر وما يحيط به من ذل جعلهم لا يذكرون بابل إلا بصفتها محنتهم الإلهية وموقع عقوبتهم. مع انهيار مملكة بابل أصبح قورش سيد المنطقة الفارسية وما حولها وخصوصا بلاد ما بين النهرين وأهمل دور بابل التي ستصبح مدينة عادية في مملكته الواسعة وستفقد دورها الريادي مدة من الزمن. غير أن قدر العراق لا يقبل أن يكون مملكة منسية إذ كان عبر القرون مركز الحضارة الكونية وقلب العالم بأديانه وعقائده، كما أن مدينة بابل ستستعيد أملها في قيادة العالم من جديد مع ظهور الإسكندر الأكبر بعد ذلك بقرنين من الزمن. والحقيقة أن الكثير من الأساطير تحيط بهذا الملك الشاب تتراوح بين الآثار التاريخية والعقائد الدينية والوثنية، فالكثير من المؤرخين المسلمين يعتقدون أنه هو ذو القرنين المذكور في القرآن، كما يذكر في الروايات اليهودية بصفات تتجاوز الصفات العادية لأي ملك. غير أن ما يهمنا في قصته هنا هي علاقته الكبيرة بالعراق وتأثره الشديد بهذه المنطقة التي شهدت بداية مجده ونهايته حيث قضى نحبه فيها وكانت أخر وصاياه هي جعلها عاصمة مملكته الواسعة. لا يقدر المؤرخون على ذكر الإسكندر الأكبر دون ذكر بابل والعراق، إذ بعد أن طاف العالم المعروف آنذاك وأخضعه قرر أن يجعل من مدينة بابل عاصمة العالم وملتقى الحضارات والأديان والدول وقلب إمبراطورية كونية تمتد من الصين إلى آخر أطراف أوروبا. وسنرى في الحلقات الموالية مسيرة هذا الملك الشاب وخصوصا علاقته بمدينة بابل وبالعراق.