في مقابلة ضمن فيلم وثائقي عام 2018، يسأل الصحافي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عما إذ كان يمكنه أن يغفر؛ فيجيب بوتين: "نعم.. لكن ليس كلّ شيء"، فيسأله الصحفي: "ما الذي لا يمكنك أن تغفره؟"، فيجيب بوتين: "الخيانة". حركة مفاجئة وصادمة ليس لروسيا فحسب بل للعالم أجمع، هي التي قام بها رئيس مجموعة "فاغنر" العسكرية يفغيني بريغوجين "طبّاخ" بوتين ويده القوية في السياسة الخارجية. والمفاجأة والحيرة لم تقف عند اعلان "فاغنر" التمرّد لأسباب تبدو غير مقنعة الى حد ما، وهي تشكّيه من "عدم كفاءة " وزير الدفاع ورئيس الأركان، بل تجاوزتها لقبولها الصلح في نفس اليوم ودون أي قتال والذهاب نحو بيلاروسيا عبر وساطة رئيسها لوكاشينكو. لا يزال من الصعب حقيقة فهم أو حتى الاقتراب من فهم ما جرى في روسيا يوم السبت الماضي، فلا الروس شعبا ونخبة فهم ما جرى، ولا الغرب والعالم بأسره استطاع الوصول لحلّ لما وقع. يجمع الكثير ،على الأقل من المتابعين للشأن الروسي، على أن شخصين او ثلاثة فقط من يملكون حقيقة ما وقع السبت الماضي، أحدهما الرئيس الروسي والآخر هو صاحب التمرّد يفغيني بريغوجين. فالحادثة يحيط بها لبس كبير جدا، انطلاقا حتى من نوايا بريغوجين ومن تصرّف الجيش الروسي في مواجهة هذا التمرّد، حيث لم تقع مواجهات او التعرّض لعناصر "فاغنر" الذين سيطرو على مدينة استراتيجية بحجم روستوف، وهي مقرّ عمليات الحرب في أوكرانيا. يقول بريغوجين في البداية إنه سيكون لروسيا رئيس جديد، ثم يتراجع سريعا بعد وصف بوتين لما حدث ب"الخيانة" و"الطعنة في الظهر" ويقول إن مشكلته مع وزارة الدفاع وهيئة الأركان فقط. والسؤال المحوري هنا، هو ما الذي أراد بريغوجين فعله بالضبط، فقرار التمرّد ليس سهلا ويعني في المطلق إما النصر المظفّر أو الهزيمة الساحقة، وهو الذي يعرف جيّدا ردّ فعل بوتين عن مثل هذه الأفعال. هل أراد إيصال صوته فعلا للشعب الروسي ولبوتين شخصيا ضدّ بيروقراطية وزارة الدفاع وهيئة الأركان وعدم كفاءة من يرأسهما وبالتالي تسهيل العمل على بوتين كي يحدث تغييرات جذرية في هاتين المؤسستين دون أي احراج؟ أم هل أراد احراج بوتين نفسه وقياس شعبيته لدى الشعب الروسي، منتشيا بصورة مجموعته العسكرية التي حققت شهرة واسعة داخل روسيا وخارجها وينظر لها الشعب وبعض القيادات العسكرية من الجيش الروسي باحترام كبير؟ في الحالتين وبصفة عامة يبدو أن ما وقع هو اختبار كبير، لبوتين أولا ، لبريغوجين ثانيا وللجيش والنخبة والشعب الروسي ثالثا، هذا داخليا طبعا، أما خارجيا فهو اختبار لأصدقاء روسيا بوتين ولأعداء روسيا بوتين أيضا. خبايا هذه الحادثة كما قلنا سابقا، يصعب تقديم توضيح صريح لها، وهو ما عجزت عنه جل العواصم الغربية أيضا، لكن الأكيد أن الأسابيع والأشهر القادمة ستبوح بأسرارها وستكشف حقيقة ما وقع بالضبط. بدرالدّين السّيّاري