في مثل يوم غد (21 نوفمبر) من عام 1694، ولد الرجل الذي سيطغى اسمه على القرن الثامن عشر كلّه، فرانسوا ماري أرويه الذي سيُعرف فيما بعد باسم فولتير. كانت اسرته الباريسية المتواضعة وثيقة الصلة بالاعيان والنبلاء، فعاش طفولة غريبة سمتها الرغبة في تجاوز وضعه الطبقيّ. كان في الثانية والعشرين من عمره حين نشر مجموعة أهجيات في الحكومة الفرنسية فتمّ حبسه في الباستيل لمدّة احد عشر شهرا. ولم تمرّ على خروجه من السجن ستّ سنوات حتى اختلف مع احد اعيان البلاط، ولم يكن امامه سوى السجن من جديد أو المنفى فاختار الرحيل الى انقلترة ليعيش هناك بين 1726 و1729، وما أن عاد الى باريس حتى ظهرت له عدّة مسرحيات وأشعار، اضافة الى كتاب «رسائل فلسفية» (1734) الذي اعتبر بمثابة البيان الرسميّ لما سُمّي بعصر الأنوار... اضطرّ فولتير بسبب هذا الكتاب الى التخفّي من جديد لكنّه لم ينقطع عن التأليف والنشر. من بين مؤلفاته الهامة في تلك الفترة نذكر كتابه حول فلسفة نيوتن. كان فولتير مع مونتسكيو من أول المهتمّين بتاريخ الشعوب والأمم بعد ان كان الاهتمام مقتصرا على تاريخ الملوك والعسكر. سنة 1759 نشر قصّة «كانديد» وفيها سخر من خطاب مفكّري عصره المغرق في الميتافيزيقا والتفاؤل الاعمى. عمّر فولتير وامتدّ انتاجه على قرابة الخمسين عاما، لذلك اعتبر رمزا على قرن كامل. بعد سنوات المنفى عاد الى باريس وقد تجاوز الثمانين من العمر. وتوفي سنة 1778، فرفضت الكنيسة أن يُدفن في مقابرها، ووري جثمانه التراب في أحد الأديرة قبل أن يُنقل الى البانتيون سنة 1791. وفي 1814 قام بعض المتطرّفين بسرقة رفاته وعُثر عليها بعد ذلك في مجمع للنفايات، ويُقال إن قلبه قد انتزع، وإنّ دماغه كذلك قد سُرق من الجثّة... وفيما كان يُمثّل بجثهته من جهة، كان يتحوّل الى اسطورة من الجهة الأخرى. جمع فولتير بين مختلف فنون الكتابة، كتب في الشعر وفي الفكر والسياسة والقصّة وترك أكثر من خمسين مسرحية (أكثر من راسين وكورناي مجتمعين) وكان أسلوبه حوارا بين الجد والسخرية ويعتبره البعض رائد الكتابة الصحفية لخوضه الجدل بلغة قريبة من لغة الحياة اليومة... كما اهتم بما اطلق عليه فيما بعد اسم أدب الخيال العلميّ، مثل ما جاء في حكاية ميكروميغاس التي نشرها سنة 1751، وكان بطلها الرحالة الهابط من كوكب سيريوس والذي يكتشف لدى وصوله الى الارض بشرا مرضى بالكبرياء. وقد اعلن منذ عامين احد مؤرّخي مدينة «ارنهايم» الألمانية أنه تم العثور على جزء من مخطوط هذه الرواية في أرشيف المدينة... أين كل ذلك الآن؟ لقد أنكر الكثيرون على فولتير صفة «الفيلسوف»، ونسي اكثر المتابعين اشعاره ومسرحياته ومعظم نصوصه، الا ان احدا لا ينسى حتى اليوم صورة المفكّر «بصوت عال» التي غلبت على ما سماه كانط «عصر الجرأة على المعرفة»، والتي أحيت مثال «الفيلسوف» كشخصية عامة، تجادل الاخرين في ساحاتهم اليومية وتهتمّ بمشاغل الساحة. لا أحد ينسى حتى اليوم «صوت» الكاتب الذي ارتفع بمناسبة قضية «كالاس» مستبقا نموذج «المثقّف الملتزم» كما تجلّى مع سارتر في ا لقرن العشرين. لا أحد ينسى صوت المدافع عن العقل، المؤمن بالتقدّم، المبشّر بانسانية ترفض الاستبداد الديني والسياسي وتدعو الى الحريّة والتسامح والعدل والمساواة.... الا ان هذه الصورة الفولتيرية لم تصل الا مشوبة بنقائضها التامة. شراسة في الجدل حدّ الفتك بالمنافس... العيش باستمرار في تناقض بين القول والفعل، بين الظاهر والباطن... المحافظة مع الظهور في مظهر المعارض... (يذهب البعض الى أن هذا هو جوهر الشخصية الفرنسية، وربّما لذلك اعتبرت فرنسا قولتير عنوانا من عناوينها البارزة...) الوصولية والحرص على خطب ودّ الدولة والعمل من اجل السيطرة والجاه والاشتغال بالمضاربة والتجارة والمقاولة وانشاء الضيعات والمعامل... مرّة أخرى إذن، يحتفل العالم بذكرى ميلاد احد الخالدين دون ان يطمئنّ اطمئنانا تاما الى أسرار خلودهم الحقيقية. أخالفك الرأي لكني أموت في سبيل ان تعبّر عن رأيك. تلك هي خلاصة الرجل لدى الكثيرين... الرجل نفسه الذي لم يرفض الالتحاق بخدمة فريديريك الثاني ملك بروسيا الطاغية المتجمّل بالفكر... «خليط غامض من الافكار الواضحة» هكذا سمّاه Emile Faguet. «نهاية عالم» هكذا وصفه غوته جاعلا من «غريمه» جان جاك روسو نقطة بداية عالم جديد. «آخر الكتّاب السعداء» هكذا اعتبره بارط، ويعني اولئك الذين لا تشقيهم اللغة لأنها بالنسبة إليهم ليست سوى أداة في خدمة الفكر... شعاع من اجمل ما أطلق القرن الثامن عشر الذي امتد تأثيره حتى نهايات الالفية الثانية. مما يسمح بالسؤال: ماذا بقي منه؟ ماذا بقي من افكار عصره التي ادّعى روّاد النهضة غربا وشرقا بأنهم استلهموها؟ أليس في اعتداد الانواريين المفرط بالعقل والتقدّم، بذور التطرّف الذي يعيشه العالم اليوم؟ أليس في وسعنا البحث في عصر الأنوار عن جذور الكثير من الظلمات التي اعتمت القرن العشرين؟ ثم ألا نستطيع العثور لدى نموذج المثقّف «الأنواري» على منابع نقائص مثقفينا اليوم، في تمزّقهم بين الحرية والارتزاق؟ كتب بودلير في يومياته، وخاصة في شذرات «قلبي عاريا» الكتاب الذي كان يعتزم تأليفه وتحدّث عنه منذ سنة 1861: اشعر بالسأم في فرنسا، خاصة لأن الجميع يشبه فولتير... كان الشاعر الداندي يضع فولتير في خانة اعداء الشعر والجمال، ويعتبره من أصحاب الفكر السطحي غير القادر على الامساك بالحقيقة من جوانبها المتعدّدة... فماذا يمكن ان يقال اليوم عن «مثقّف» يواصل سيرة الازدواج نفسه؟ كان فريدريك الثاني يميل الى الشعر ويكتب قصائد ركيكة، ثم يطلب من فولتير أن يقوم أبياتها، فلما اختلفا قرر الملك طرده وهو يقول: سوف نقذف بقشرة البرتقال بعد ان اعتصرناها، فردّ فولتير على الفور: لقد كنت اغسل للامبراطور ملابسه القذرة. تُرى، هل تخلّص فكر القرن العشرين (لدينا تحديدا) من تلك المهمة الفولتيرية، مهمة غسل الملابس الامبراطورية القذرة؟