اقتحمت مجالا كان حكرا على الرجال وكسرت تلك الصورة النمطية للجزار صاحب العضلات المفتولة والمظهر المخيف والقلب الغليظ والصوت الأجش التي دأبت الأفلام على تصويرها، معلنة تحولا جذريا في شخصية المرأة التي أصبحت قادرة على منافسة الرجال في كل المجالات. ولعل القدر هو الذي وضع السدة سعاد محجوب وجها لوجه مع مهنة المشاق والمتاعب ورمى بها في ميدان «الجزارة» فتحملت بكل عزيمة قدرها ورفعت ساطورها ومضت في تقطيع اللحم وبيعه والذهاب الى المسلخ واحضار سلعها دون كلل أو ملل. السيدة سعاد هي أول امرأة تونسية تمتهن الجزارة وتأخذ مكانها وسط عدد من الجزارين بالسوق المركزية بتونس العاصمة. «الشروق» زارت هذه السيدة وأجرت معها الحوار التالي: تقول السيدة سعاد عن بداية دخولها ميدان الجزارة وعن الأسباب التي دفعتها الى العمل بهذه المهنة، أصيب زوجي بمرض السكري وأثر ذلك على بصره فوجد صعوبة في المضي في عمله ومسك الساطور وتقطيع اللحم فاضطررت الى الوقوف جانبه ومساعدته رغم رفضه في البداية لكن عند استفحال مرضه وتعطل عمله الذي يشكل مصدر رزقنا الوحيد وافق على عملي بشرط مرافقتي وتعيين صانع ليساعدني على التعامل مع الحرفاء ومدهم بما يحتاجونه. وبعد سنتين مات زوجي ليتركني وحيدة فقررت الاعتماد على نفسي وتحمّل مسؤولية حماية مورد رزق ابنائي الثلاثة. فاستعنت في البداية بجزار يحذق المهنة وأخذت أراقبه لأتعلم عنه تقنيات الجزارة وشيئا فشيئا أصبحت قادرة على فعل كل شيء بنفسي وتخلّيت عن «الصانع» لأنه أراد استعمال أسلوب الغشّ والاحتيال. * البعض يصف صاحب هذه المهنة بالقسوة والشدة وحدّة الطبع، هل أنت كذلك؟ على العكس تماما، فأنا انسانة شاعرية وفنانة درست الموسيقى بباريس واعزف على آلة القانون كما انني درست الخياطة الى جانب انني أم لثلاثة أطفال اصبحوا الآن شبابا ومسؤولين عن انفسهم فابني يعمل إطارا باحدى الشركات وابنتي الثانية تعمل مضيفة طيران وابنتي الثالثة متحصلة على الاستاذية. بذلت كل جهدي من أجل رعاية أبنائي واغدقت عليهم الحب والحنان وشجعتهم على مواصلة الدراسة والنجاح فيها. * ما هي أهم الصعوبات التي واجهتك؟ تحملت صعوبات جمّة من أجل فرض ذاتي وسط هذا الميدان الرجالي وواجهت تصرفات شرسة من قبل الرجال المحيطين بي فكنت أسمع وأرى تصرفات صادرة عن بقية الجزارين فيها من قلة الاحترام والتطاول الكثير فكانوا يحاربونني بطرقهم الخاصة حتى أغلق دكاني وأرحل عن هذا المكان لكنني صمّمت على البقاء ومواصلة المشوار الصعب الذي بدأته. كما انني أتحمل تعبا نفسيا كبيرا فأنا مضطرة للنهوض باكرا وتحديدا على الساعة الرابعة فجر الأجلب الخراف والعجول المذبوحة من المسلخ لتزويد دكاني. أمّا المشكل الثالث أو الصعوبة الثالثة فتتمثل في تحمّلي لتصرفات بعض الحرفاء المستفزة حيث يعمد عدد منه الى طلب كمية معينة من اللحم وبعد أن أحضرها له يعتذر عن شرائها ويمضي في حال سبيله الى جانب التعاليق التي أسمعها بين الحين والآخر. * ما هي أقسى التعليقات التي سمعتها وممن؟ سمعت كما هائلا من التعاليق الجارحة والتي أدمت قلبي ولا يمكن بحال من الأحوال اعادتها او نطقها، وكانت هذه التعاليق تمسّ شرفي وعائلتي ويطلقها «زملائي» الجزارين ونساء الحيّ اللاتي يجتمعن «لتقطيعي» والحديث عني بالسوء. * وكيف تتعاملين مع هذه التعاليق الجارحة؟ تعوّدت أن لا أعير أي اهتمام لهذه التعاليق ولانني واثقة من نفسي ومن أخلاقي لا أسعى لمعرفة مصدر هذه الأقاويل والبحث في تفاصيلها ومحاسبة من يطلقها بل اكتفي بالقول «حسبي الله ونعم الوكيل فيمن ظلمني». * وما هو موقف عائلتك من عملك بالجزارة؟ لقد شجعني أهلي وساندوني مساندة جيدة بل انهم يفتخرون بتربيتي العالية ووقوفي الى جانب زوجي ورعاية أبنائي بعد موته كما أن أبنائي يفتخرون بي ويتباهون أمام زملائهم في المعهد بكون والدتهم تعمل جزارة. * من هم أكثر زبائنك وما هي انطباعاتهم؟ حرفائي من النساء والرجال على حد سواء اما بخصوص انطباعاتهم فغالبا ما يفاجئهم وجودي وخاصة عند بداية مشواري أي قبل 14 عاما لكن بمرور الوقت تعودوا وجودي وخاصة النساء اللواتي يفرحن لوجودي بالدكان ويطلبن مشورتي في كيفية طبخ اللحم وتقطيعه. كما أن الرجال يقصدونني أيضا لانني اتعامل معهم بصبر وروية عكس بقية الجزارين الرجال. * هل تذكرين أول يوم عملت فيه الجزارة؟ بالطبع أذكره جيدا فكان في أحد أيام أفريل من سنة 1992 كنت يومها خجولة وأتعامل بصعوبة مع الحرفاء الى جانب عدم قدرتي على مسك الساطور وتقطيع اللحم بالكيفية المطلوبة. * هل تشجعين ابنك على اقتحام هذا الميدان؟ اعترف ان هذا الميدان صعب للغاية وصعوبته تكمن في المحيط الذي تعمل فيه وطباع أهل المهنة فأنا لم أشأ أن أحشر ابني في هذا الميدان وخشيت على مستقبله لانه بالتأكيد غير قادر على مواجهة المصاعب التي تفرزها هذه المهنة ولذلك حرصت على ان يتم تعليمه ويختار طريقه بنفسه.