قال واحد من الصحابة في مكة: والله ما سمعت قريش هذا القرآن يجهر به قط، فمن رجل يجهر به؟ فقال ابن مسعود: أنا أجهر به، وكان عبد الله بن مسعود صغير الجسم ولم يكن له عشيرة تحميه. ومضى الى مجلس قريش بجانب الكعبة وبدأ يقرأ: «الرحمان علّم القرآن» ومضى في تلاوتها، ورجال قريش يسمعون ولما أتم قراءته انهالوا على ابن مسعود يضربونه ويسبونه وقام أبو جهل فرفع ابن مسعود من أذنه. ثم تركوه فرجع الى أصحابه وقال لهم: والله ما كان أعداء الله أهون عليّ منهم اليوم، ولئن شئتم غاديتهم بمثلها غدا فأسمعهم ما يكرهونه فقالوا له: يكفيك هذا». هكذا ترخص النفوس في سبيل الله وابتغاء نشر رسالة الاسلام، لان عظمة هذا الدين بحاجة الى عظماء النفوس وأهل العزة والغيرة على دين الله، وهو سبحانه يوصل صوت الاسلام الى العالم بواسطة الملائكة أو غيرهم من خلق الله، بل بهؤلاء البشر، فإن قاموا بهذه المسؤولية فقد أوصلوا الدعوة الى مشارق الارض ومغاربها. وإن قعدوا وتقاعسوا واثاقلوا الى الارض انطفأت شعلة الاسلام لا سمح الله وتقلصت دولة الدين رويدا رويدا. إن ابن مسعود هذا ذو الجسم النحيل والقوة الضعيفة استطاع أن يوصل القرآن الى إسماع صناديد قريش بما لا يستطيع الصنديد الجبار الشجاع أن يجرؤ على ذلك، ومن يجرؤ على مخاصمة ومعاداة أبي جهل وأمثاله ممن اشتهر عنهم الظلم والبطش بما لا حدود له، وقد علم ابن مسعود عاقبة أمره. وكذلك عرف من حوله ووصفوه له الصورة التي سيلقاها، لكنه صمم على إسماع المشركين كتاب الله، وليكن ما يكون. لم يكن لابن مسعود استطاعة بإشهار السيف في وجوههم، ولا رميهم بالنبال، فكل ذلك لا يستطيعه ولم يأمر به رسول الله، لكن المعركة في مكة كانت معركة الكلمة، ومجابهة اللسان باللسان لكن كفار مكة لم يكن عندهم أدنى مستوى من الانسانية ليقاتلوا الكلمة بالكلمة. بل هم عجزوا عن الكلمة ان يقولوها في مقابل كلمة الحق، فما كان من بديل لها إلا البطش واللطم والشتم، وما يستطيع زعماء الباطل إلا ذلك، وهذا ديدنهم على طول خط الدعوة من آدم الى يوم القيامة. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أول المعذبين في الله، فكان يهون عليهم جسدهم وهم يرون سيد البشر ينال قسطه من العذاب، وهو من هو في الكرامة على الله، ولكن الذي كان يهوّن من إحساس رسول الله بالعذاب أنه قد رزق هؤلاء الاتباع الذين نهضوا معه في الدعوة على أتم وجه وأكمل حال، فرضي الله عنهم وأرضاهم.