يوم امس ايضا تكلم السيد ريتشارد بيرل وهو من صقور اليمين المسيحي المتطرف المتنفذين جدا داخل إدارة بوش... تكلم لينفث سمومه ضد عديد الدول العربية وليحرّض الادارة الامريكية على مزيد استعمال العصا ولا شيء غير العصا في التعاطي مع هذه الدول... طالما ان هذه السياسة آتت أكلها في العراق.. السيد بيرل قال بصريح العبارة ان المملكة العربية السعودية تملك من المؤهلات ما هو كفيل... بادخالها الى محور الشرّ... وأن حكومة دمشق تخادع الولاياتالمتحدة وتسمح بتسرب من اسماهم «الارهابيين» الى العراق في حين اتهم مصر بالدكتاتورية وطالب بعدم المراهنة على التيار الاصلاحي في ايران لأن الاصلاحيين حسب رأيه لا يمثلون قوة تذكر وانه من العبث التعويل عليهم وانتظار تفوقهم في صراع القوة مع المحافظين.. فماذا يريد السيد بيرل؟ ولحساب من يتحرك ويحرّض؟ وهل من الصواب القول بأنه يغرّد خارج الإدارة الامريكية وان آراءه بالتالي لا تلزم هذه الإدارة ولا تشكل خطرا على الدول المعنية بهذه الآراء؟ بدءا لابدّ من الاشارة الى ان السيد ريتشارد بيرل وان كان لا يحتل منصبا رسميا في إدارة بوش حاليا فلا يجب ان ننسى انه كان من منتسبي هذه الإدارة قبل ان يغادرها قبل اشهر... ثم انه يمثل احد ركائز تيار اليمين المسيحي المتطرف المتمكن من مفاصل القرار حاليا صلب الإدارة الامريكية... وحين نذكر السادة رامسفيلد او ولفوويتز مثلا فكأنما ذكرنا السيد بيرل الذي يقاسمهم نفس القناعات ان لم يكن المنظّر الرئيسي لهذا التيار... بما يجعله استاذا ويجعل البقية تلاميذ في مدرسته التي يتربى المنتسبون اليها على السياسات الصهيونية ويرضعون كره العرب والمسلمين حدّ الثمالة. ليس هذا فقط، فالسيد ريتشارد بيرل كان مستشارا لرئىس الوزراء الاسرائىلي بنيامين نتانياهو المعروف بمواقفه المتطرفة وبحقده على الفلسطينيين وعلى العرب اجمعين... ومن موقعه هذا بلور السيد بيرل نظرياته الداعية الى البطش بالشعب الفلسطيني واستعمال العصا الغليظة للضرب ومزيد الضرب ومنع الفلسطينيين من التقاط انفاسهم وتلمّس طريقهم... وهي نفس السياسة التي ينفذها السفاح شارون بحذافيرها... هذا علاوة على ان السيد بيرل كان متزعم حملة التحريض على العراق وكان في طليعة الداعين الى الاستعمال المفرط للقوة بهدف اسقاط النظام العراقي واحتلال العراق لضمان امن اسرائىل وتأمين قاعدة متقدمة ل «إعادة تشكيل المنطقة» بما يخدم مصالح امريكا وحليفتها اسرائىل... وقد بات معروفا ان تيارا، آخر كان موجودا داخل إدارة بوش وكان يدعو للتريث مع العراق (ليس حبا في العراقيين ولا حرصا على العراق وانما في انتظار تأمين غطاء اخلاقي وقانوني للغزو)، لكنه سرعان ما انهار امام اصرار تيار الصقور وفي طليعته رامسفيلد وبيرل والداعي الى الاستخدام المفرط للقوة لتحقيق هدف احتلال العراق وترويع جواره الاقليمي بما يفتح الطريق أمام كرة النار لتتدحرج باتجاه عواصم عربية واسلامية أخرى. فماذا يريد السيد بيرل ولماذا يكرر التحريض هذه الايام على سوريا ومصر والسعودية؟ قلنا ان السيد بيرل هو من انصار سياسة العصا الغليظة... وانه من دعاة اسلوب الضرب ثم الضرب لمنع الخصوم او الفرائس من التقاط انفاسهم ومن تحسس طريق النجاة... وحين نعود الى ماضيه في التحريض على الفلسطينيين قيادة وشعبا وعلى العراق ندرك ان نظرياته تتحرك على شقيّن واحد يصب في تل ابيب والآخر يصب في واشنطن. بخصوص اسرائىل يدرك السيد بيرل (كزعيم لهذا التيار الذي يسيطر على إدارة بوش) ان عامل الوقت يخدم ضد مصالحه وضد مصالح اسرائىل، فلاشيء يضمن فوز الرئىس بوش بولاية ثانية ولاشيء يضمن وفاءه المطلق لنفس النهج حتى في صورة فوزه لانه سوف يكون في حلّ من مغازلة اللوبي الصهيوني طمعا في مدة رئاسية جديدة خاصة وان مثل هذه السياسات المتطرفة لم تعد تزعج العرب والمسلمين فقط من حلفاء امريكا بل باتت تزعج حتى حلفاءها الاوروبيين وتهدد باتساع الهوة بين حلفاء الامس... لأجل هذا فإن السيد بيرل يبدو كمن عيل صبره وبات على عجلة من امره.. ولأجل ذلك هو يريد من إدارة بوش التي تورطت في العراق والتي ارتبكت مخططاتها تحت ضربات المقاومة العراقية وتعثرت طبختها هناك، ان تسارع في تصفية باقي الحسابات وفق مخطط اعادة التشكيل الذي انطلقت بمقتضاه الدابة الامريكية لغزو واحتلال العراق.. وان تتحرك على الجبهات السورية والسعودية والمصرية ليس باعتماد القوة العسكرية بالضرورة، ولكن بمباشرة فتح الملف وعرض الفاتورة علنا على كل عاصمة من هذه العواصم لابتزازها بالضغط السياسي وبالتهديد العسكري وتحقيق نفس النتائج التي تم تحقيقها في العراق... ذلك ان دعاة اليمين المسيحي المتطرف كانوا واضحين منذ الاعداد لغزو العراق حين اكدوا ان الحرب على العراق سوف تكون آخر مرة تلجأ فيها امريكا الى القوة العسكرية لتغيير نظام الحكم في بغداد... وان بقية الاهداف سوف يجري احرازها بالضغط السياسي وبضغط الآلة الحربية الامريكية التي تكون قد احتلت العراق.. وعلى هذا الدرب، درب تحقيق الأهداف الصهيونية من الحملة الامريكية على العراق يأتي ارباك سوريا ودفعها الى تقديم التنازلات المطلوبة اسرائىليا بهدف طي صفحة الخلاف نهائىا على الاسس التي تريدها اسرائىل... وهي اجمالا اسس اعطاء العرب السلام مقابل احتفاظها بالاراضي المحتلة.. وليس غريبا ان يتزامن تصعيد السيد بيرل ضد سوريا مثلا مع توالي بالونات الاختبار التي يطلقها شارون وأعوانه في اتجاه دمشق لدعوتها الى التفاوض بدون شروط ومن نقطة الصفر.. مع ما يعنيه ذلك من رسائل تقول بأنه على السوريين ان ينسوا النتائج التي توصلوا اليها مع باراك وان يفاوضوا للحصول على السلام بما يضمن لهم حدودهم الحالية ويضمن عدم احتلال دمشق (كما هدد بذلك مسؤول صهيوني كبير قبل ايام).. اما الجولان فإن دابة التهويد بدأت تقضمها وسوف يكون الاستيطان كفيلا بتحويلها الى قطعة جبن شأنها شأن الاراضي الفلسطينية بما يجعل الانسحاب منها مستحيلا صهيونيا. اذا كان هذا اساسا هو المطلوب من سوريا اسرائيليا فماذا تطلب امريكا من سوريا ومصر والسعودية؟ واضح ان المطلوب امريكيا من سوريا هو التعاون الكامل لمساعدة امريكا على تأمين استقرار العراق وتأمين احتلال صريح لهذا البلد العربي... وفي هذا الاتجاه فإن واشنطن تدرك بأن دمشق تعي بأنها اصبحت بين فكي كماشة (امريكا من العراق واسرائيل من الجولان) وانها حرمت من عمقها الاستراتيجي الذي كان يمثله العراق ومن الدور الذي كان يلعبه في إحداث نوع من التوازن مع اسرائىل وفي مدّ دمشق ببعض اسباب الصمود زمن المواجهات المفتوحة مع اسرائىل... وانطلاقا من هذا الإدراك تتبجح امريكا بمسائل من قبيل غض دمشق الطرف عن تسرب مقاتلين الى العراق واحتفاظها بأموال تعود للنظام العراقي السابق... لكنها في الاصل تدرك ان هذه الحجج واهية وانما تستند الى موازين القوى الجديدة والواقع الاستراتيجي الذي خلقه احتلالها للعراق ل «اعادة تشكيل» الاوضاع في سوريا بشكل يؤمّن مصالحها ومصالح حليفتها اسرائىل... وفي نهاية المطاف وعلاوة على طلب انخراط سوريا في تهدئة الاوضاع في العراق، فإن ما سوف تطلبه واشنطن على درب «الاصلاح وادخال جرعات ديمقراطية» سوف لن يتوقف قبل ان يطال مؤسسة الجيش السوري وحزب البعث الحاكم في دمشق علاوة على التطبيع مع اسرائىل... وهي تقريبا نفس المطالب التي ذبح بسببها العراق.. اما بالنسبة الى المملكة العربية السعودية فإن التضييق عليها والتلويح بالزج بها في خانة محور الشر كما يطالب بذلك السيد بيرل يأتي في السياق العام الذي حدده صقور واشنطن.. والذي صنفوا المملكة بمقتضاه ك «هدف استراتيجي» للحملة الامريكية على العراق... وكنقطة استقطاب هامة لعجلة اعادة تشكيل المنطقة .. ذلك ان هذه الجماعة التي تحرّكها في ما تحركها احقاد صهيونية تدرك ان حربها على الاسلام من خلال ما يسمى الحرب على الارهاب سوف تكون غير ذات جدوى ما لم تستهدف المملكة وهي مهبط الرسالة وموطن الحرمين الشريفين وصاحبة الدور البارز في نصرة الاسلام والمسلمين في الساحة الدولية... ثم انها مع مصر وسوريا تمثل اعمدة العالم العربي بعد احتلال بغداد... ومن خلال الارباك وممارسة الضغوط بالامكان ابتزازها وانتزاع تنازلات موجعة قد تفضي على المدى البعيد وبالاعتماد على «آليات اعادة التشكيل» الى بلورة عقلية جديدة تقبل بالرضوخ للاهداف الامريكية وبالتطبيع مع اسرائىل. وحين تتجه الكرة باتجاه الملعب المصري فإننا نجد هذه الجماعة وقد حددت القاهرة بمثابة «جائزة كبرى» لهذه الحملة... ذلك ان هؤلاء ومن وراءهم يدركون الدور المحوري لمصر في محيطها العربي، ويدركون ان بلدا بذلك الوزن، وبذلك الموروث الحضاري والسياسي وبذلك الثقل البشري، لا يمكن ان يبقى بدون دور في المنطقة ولا يمكن ان يقبل على المدى الاستراتيجي بالانطواء تحت هيمنة اسرائىل ذلك الكيان الهجين الذي يرفض الشعب المصري تطبيع العلاقات معه وهي اشارة تكفي لاقناع الصهاينة والامريكان بان الاوضاع الحالية ظرفية وان مصر ستعود في اللحظة التاريخية الملائمة للعب دورها المحوري متى هبّت الرياح الدولية في اتجاهات أخرى... ومتى مرّت فترة الاعصار هذه الناتجة عن تفرد امريكا بسياسة شؤون العالم.. وليس ادلّ على ذلك من تمسّك القاهرة بدورها في قضية فلسطين وبعلاقات وطيدة مع سوريا... ومن تحرّكها لتسوية خلافاتها مع ايران وإعادة العلاقات الديبلوماسية مع طهران مع ما يوفره ذلك من فرص للطرفين للعودة بقوة الى معادلات المنطقة وشجونها... وقد حصلت قناعة لدى كل من مصر وايران بأن القطيعة بينهما تضر بالطرفين وتقصيهما من معادلات المنطقة لحساب اسرائىل. لأجل كل هذا فإن كرة النار التي يريد بيرل وجماعته دحرجتها باتجاه دمشق والرياض والقاهرة ليست مجرّد شطحات فكرية ولا هي احلام يقظة يأتيها رجل يغرّد خارج السرب.. فقد سبق له ولجماعته ان حرّضوا على العراق ونحن نرى النتيجة.. وسوف يكون من قبيل الانتحار البطيء اعتماد سياسة النعامة في انتظار مرور الاعصار.. لان الاعصار قد يقتلع كل شيء و قد يحيلنا الى مجرّد ارقام في معادلة تمسك بكامل خيوطها امريكا واسرائىل... بالتأكيد مثل هذه الامور تعالج بالصبر والحكمة ولكنها في كل الاحوال لا تعالج بالغياب وباللامبالاة.