كم من مرة ردّدت وأنا أستمع الى أحد الأصوات النسائية التونسية بأن ي هذا البلد كنزا من الأصوات التي لا يوجد شبيه لها في أي بلد عربي آخر (رغم الكمّ من الأصوات التي تضخّها الكليبات المتقنة لأصوات لبنانية ومثلها الأصوات المصرية). الأصوات التونسية وإن شئنا أن نتوسّع نقول المغاربية، وردة الجزائرية مثلا وسميرة سعيد وغيرهما، لكن مستقرّ الكنز هنا في تونس. لا نعود الى الوراء كثيرا فصليحة مازالت تتجدّد ولكن من يجدّدها صبايا مازلن في بداية حياتهن الفنية ويسجل لهن أنهن بأن المشوار من المحطة الأولى إذ التحقت بمعاهد الموسيقى ويخرجن منها بتفوق. كان عدد كبير من مطربات تلك الأيام لا يعرفن قراءة النوتة الموسيقية لا بل أن بعضهن لم يكن يعرفن حتى القراءة والكتابة. لكن هذا الجيل من المطربات جيل مثقف موسيقيا، وأقول لكم أن أجمل اكتشاف بالنسبة إليّ كان صوت الفنانة درصاف الحمداني التي أحيت ليلة مليئة بأجمل الألحان وأروع أداء في قبّة النحاس بمنوبة ضمن فعاليات مهرجان المدينة. كنت أسمع أو أستمع لدرصاف الحمداني وأخريات غيرها، ولكن هناك فرقا بين أن تستمع لصوت بشكل عابر عن طريق راديو سيارة أو برنامج تلفزي وبيّن أن تتفرّغ لسماع صوت معين كما حصل مع درصاف ولمدة قاربت الساعتين. لقد اكتشفت فيها واحدة من أجمل الأصوات، بل وأكثرها اتقانا وأمانة لأداء أغان خلدت في ذاكرة الطرب العربي وخاصة أغاني اسمهان التي أدّت عددا منها. وكذلك انتقالها الى أجمل ما في الموروث الموسيقي التونسي (أغاني صليحة والهادي الجويني). وقد منح اللّه هذه الفنانة ليس جمال الصوت والأداء فقط بل وبهاء الطلعة التي تحتاجها المطربة لتحقق حضورها الفاتن وهي على الركح. كنت أتساءل في سري وأنا أستمع لها: لماذا ليس لمطربة مثقفة مثل درصاف ألحان خاصة بها؟ وأواصل تساؤلي: وهل هناك كلمات تساغ بلحن يناسب صوتها؟ وأقول: هل يئست من العثور على ألحان تطمح لأن تؤديها وتضع عليها بصمتها فتخلد كما خلدت الأغاني التي أدتها سعاد محمد وشهرزاد وصليحة وفائزة أحمد لذا لجأت الى ذاكرة الأغاني الباقية ومازالت تطرب سامعيها كأنّ عدة عقود من الزمن لم تمرّ عليها؟ أذكر هنا أن فائزة أحمد قد جاءت الى بغداد في خمسينات اقرن الماضي من الشام لتعمل في أحد الملاهي الليلية مؤدية أغنيات ومواويل شامية شائعة، وكان من الممكن أن تبقى بذلك الحجم مطربة في ملهى ليلي يؤمّه السكارى لو لم يستمع إليها مغنّ وموسيقي عراقي هو المرحوم رضا علي فأعجب بصوتها وسجّل لها عددا من الأغنيات التي كان يوديها هو مثل أغنية «خي لا تسد الباب بوجه الأحباب» وأغنية «ما يكفّي دمع العين يا بوية». وربما بمثل هذه الأغاني ذهبت الى القاهرة فكانت انطلاقتها لتكون فائزة أحمد التي نعرفها. درصاف الحمداني شأنها شأن أمينة فاخت تؤدي ألحانا لأخريات فتبرع فيها، بل وأستطيع القول أنها تضيف لها من داخلها، من نبض وجدانها ومشاعرها هي فكأننا أمام اسمهان أخرى. كانت لية لا تُنسى، ومرّ الوقت ونحن نحلق في فضاء حالم صوت درصاف كان ربّانه. تحية لها بل وشكرا من القلب.