«حرية» تلك هي الكلمة المفتاح التي خيّمت على المدونين العرب وتلبّست بأصابعهم وألسنتهم طوال الأيّام الثلاثة التي قضّوها في تونس في ملتقى عربي هو الثالث من نوعه. ولم ينغّص على المدوّنين شغفهم باللقاء خارج عالم الويب وشاشات الحواسيب غير منع عشرة مدوّنين فلسطينيين من دخول تونس ومشاركة زملائهم فرحة اللقاء دون أن توضّح وزارة الداخلية أسباب هذا المنع. يخطئ من يعتقد أن المدوّنين العرب لم يكونوا وقود الثورات العربية، لقد كانوا أمام حواسيبهم يتبادلون الأخبار عن القتل وزخّات الرصاص في الشوارع ويخبرون عن أماكن القتلى وفي كلّ خبر يعلنونه كانوا يسرّعون في سقوط النظام ورموزه، وقد كان المدوّنون المصريّون على خطى من سبقوهم من المدونين التونسيين في شحن نفوس أبناء الثورة يبثّون آخر أخبار الاعتقالات والقتل وقمع المظاهرات والاحتجاجات. لقاء خارج العالم الافتراضي زهاء المائة مدوّن عربي جاؤوا من بلدان عربية كثيرة وكان أكبر عدد من هؤلاء من جنسيات مصرية ويمنية وليبية إلى جانب خبراء أجانب في قضايا النشاط الالكتروني والحريات الرقمية ومناقشة ما تقوم به المواقع الاجتماعية من دور سياسي في الثورات العربية ودورها في إسقاط الدكتاتوريات العربية وأنظمتها القائمة. وناقش المدونون، الذين لم يتجاوز عمر أكبرهم الخمس وعشرين سنة، على امتداد الأيام الأربعة قضايا بدت أحيانا أكبر بكثير من سنّهم لكن نضج مستوى النقاش نسف هذا المعطى، فقد طرحوا إشكاليات تكنولوجيا المعلومات وسبل تطوير شبكات التواصل الاجتماعي عبر ال«فايسبوك» و«تويتر» لصناعة الربيع العربي وتحقيق الانتقال الديمقراطي الذي قالوا عنه إنّه لم يستكمل بعد. وقالت رزان الغزّاوي إحدى المدوّنات المصريات إنّ المدونات لم تكن الوحيدة التي واجهت القمع السياسي العربي قبل قيام الثورات العربية في تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا فقد لعبت شبكة «تويتر» الأمريكية هي أيضا دور الوسيط في هذه الثورات. وكان مستخدمو تويتر يعملون على مدار الساعة لمؤازرة محطات الإذاعة والتلفزيون، ناقلين أصوات المواطنين عبر العالم العربي وحاملين بوق كل ثورة بدءًا من تونس مرورا بمصر ووصولا إلى اليمن وسوريا وليبيا... لقد بدا وكأن المنطقة العربية بأكملها انفجرت أو خطّط لهذه البلدان أن تنفجر الواحدة تلو الأخرى وتسقط كأوراق الخريف أو كانت هناك أصابع محترفة تسقطها. من هم ومن أين جاؤوا؟ المصرية منال حسن روت حكايتها مع الثورة المصرية فقالت إنها قضت ليالي بأكملها في مديدان التحرير شاهدة ومستخدمة وموثقة للثورة المصرية عبر شبكة تويتر لمتابعيها الأصدقاء وتتيح لهم تصفّح مقاطع الفيديو عن موقعة الجمل يوم أمر الحزب الوطني الحاكم أعوانه برفس المتظاهرين تحت سيقان الجمال الهادرة، وكان مدوّنون آخرون على تويتر يخبرون روّاد المدوّنات عن الأعمال الوحشية المرتكبة من قبل النظام السوري. لكن من هم هؤلاء المدوّنين؟ كيف يعملون؟ من أين يأتون بأخبارهم وما مصادرهم؟ ما هي جودة أخبارهم؟ ماذا يفعلوا للتحقق من دقة أخبارهم؟ يقول بعض المدوّنين إنّهم تعوّدوا التعامل مع الحاسوب منذ الصّغر وكانت الشبكات الاجتماعية كال«فايس بوك» وتويتر ملاذهم من القرف الذي كان يميّز القنوات التلفزيونية والإذاعات والصحف الحكومية التي يستخدمها النظام في تلميع صورته والترويج لخطابه، فبدأت موجة إحداث المدوّنات والتقاط الصّور ومقاطع الفيديو والمعلومات الممنوعة من النشر في القنوات العادية من مصادر مختلفة من الخارج والداخل ومن أيّ مصدر ويجري التحقّق من صحّتها أحيانا وفي أحايين أخرى يترك هذا الأمر إلى حين. يمارس المدوّنون عملهم المفضّل أمام الحواسيب خلال الساعات الأولى من الليل ولهم أدواتهم التقنية الخاصّة للتخفّي عن أعين شرطة الأنترنت التي لا تعرف النوم ويحدث أحيانا أن يفاجأ مدوّنون بغلق فجئي لمدونتهم وهو أمر لا يبعث على القلق غالبا لأنّ البديل جاهز فبعد ساعات قليلة يفاجأ أعوان شرطة الأنترنت بظهور مدوّنات جديدة بدل التي أغلقوها وتواصل مسلسل المطاردات والملاحقات عبر العالم الافتراضي إلى أن نزل المدوّنون إلى الشوارع كاشفين عن وجوههم أمام أعين البوليس بعد أن قررت الشعوب العربية مواجهة الرصاص والإصرار على إسقاط الدكتاتوريات. الفضل لويكيليكس وقال أحد خبراء الأنترنت والشبكات الاجتماعية إن الكشف عن وثائق «ويكيليكس» التي فضحت الأنظمة العربية برمّتها كان له الأثر البالغ والمباشر في إلهام المدوّنين بأنّ ساعة العمل الجدّي قد بدأت وكأنها إشارة مشفّرة عن بداية سقوط الأنظمة السياسية العربية فانطلق تداولها سرّا عبر المدونات والمواقع الافتراضية. والغريب أنّ أغلب المدوّنين ليسوا من عتاة السياسة ولا هم من محترفيها وعشاقها ولا هم أعضاء في مكاتب سياسية لأحزاب عريقة، بل هم في أغلبهم من طلبة الجامعة عبّروا عن سخطهم على ممارسات الأنظمة وغلق منافذ الأنترنت بطريقتهم فراحوا يحدثون المدوّنات ويغامرون بأنفسهم في مواجهة القرصنة الشرسة. وتحدّث الرئيس المدير العام للوكالة التونسية للانترنت معز شقشوق أمام المدوّنين عن أهمية العمل مستقبلا لبناء خطة واضحة لتطوير الانترنت في تونس وفقا للمعايير الدولية التي تجبر السلطات على احترام حرية النفاذ إلى المواقع ودعا إلى وجوب إلغاء القيود التي أعاقت لأكثر من عقدين من الزمن كل مبادرة للتعبير عن الرأي والالتزام بقيم الحياد والحرية مؤكدا أن انفتاح الانترنت يقتضي رفع الرقابة عن المواقع الالكترونية والأخذ في الاعتبار قضايا الخصوصية. غير أنّ المدوّنين كانوا وكأنّهم يجيبونه بصوت واحد: دعوا المدوّنات تواصل عملها لإسقاط ما تبقّى من الدكتاتوريات العربية.