حاول الأستاذ عدنان المنصر المتخصص في علم الاجتماع السياسي التفريق بين صنفين من الاعتصامات، صنف منها سياسي وصنف آخر اجتماعي وتحدّث مطوّلا عن دور الدولة في مواجهة موجة الاعتصامات والاحتجاجت وقطع الطرقات والمنافذ إلى مؤسسات الإنتاج والمرافق العمومية. هل يمكن تبين فوارق بين أنواع الاعتصامات التي تعرفها البلاد اليوم؟ هذا سؤال جيد، لأنه في زحمة ما يقع من إضرابات واعتصامات كثيرا ما تختلط علينا السبل، وفهم الواقع بطريقة صحيحة هو أول خطوة يجب القيام بها إزاء كل الظواهر المعقدة، وهذه إحداها. لنفرق أولا بين الاعتصامات السياسية والاعتصامات الاجتماعية. الاعتصام السياسي كان ممارسة نشأت في خضم الثورة من أجل إجبار النظام القديم على التراجع إلى الوراء ومنح النظام الجديد فرصا حقيقية لفرض نفسه. كان ذلك هو ما تم بالضبط في اعتصامي القصبة الأول والثاني، وتم قبل ذلك في شارع بورقيبة بالعاصمة يوم 14 جانفي، كان ذلك ضروريا جدا في تلك المرحلة. بعد ذلك تمكنّا من السير بخطى ثابتة من أجل إعادة بناء المؤسسات على أسس جديدة تعتمد على الشرعية الديمقراطية والتمثيل الحقيقي للإرادة الشعبية، وهو ما تم خاصة بانتخاب المجلس الوطني التأسيسي. الغريب أن كثيرا من الذين لم يحرّكوا شعرة واحدة ضد النظام القديم، وقد كان نظاما استبداديا لا يستند إلا إلى شرعية القوة، والكثير جدا من الذين أرادوا إعطاء النظام القديم فرصة للبقاء، بل شاركوا في تسويقه على أنه أمر واقع يجب القبول به عبر حكومة السيد محمد الغنوشي الأولى والثانية، لم يكتسبوا الجرأة على التحرك عن طريق الاعتصام إلا غداة الانتخابات، وبهدف التشكيك في شرعية المجلس المنتخب، هؤلاء خاسرون سيّؤون خاصة عندما يعتمدون خطابا واضح الازدواجية فهم مرة يقولون لنا أنهم جاؤوا كمعبّرين عن إرادة المجتمع المدني في مراقبة المجلس الوطني التأسيسي، محتكرين تمثيل المجتمع المدني، وتارة أخرى يعلنون أن الهدف هو إسقاط المجلس التأسيسي، لا أعتقد أن هذا النوع من الاعتصامات سيتواصل، لأنه يفتقد إلى المصداقية، وهو ما تبين بوضوح من خلال اعتصام باردو السياسي. في المقابل فإن ذلك من مقوّمات الحرية والتعامل مع مثل هذا النوع من التحركات يجب أن يكون دائما في ساحة الحقوق وليس في ساحة القانون لأن الهدف الرئيسي للقانون هو تنفيذ الحقوق. مع ذلك، هذا النوع من الاعتصام دليل على نجاح مسار الانتقال الديمقراطي، فقبل عشرة أشهر كان المعارضون لحكم الصناديق يحكمون، والمطالبون بتحكيم الصناديق يعتصمون، الآن انعكست الصورة تماما. مثل هذه الاعتصامات دليل على أننا نجحنا أخيرا في تأسيس المسار الصحيح، ولكن حسن التعامل مع هذه الاحتجاجات ووضعها في خانة حرية التعبير هو أيضا دليل على أننا لا ننوي العودة إلى الوراء في مجال الحريات. لكن في باردو، وقبل أن يأتي السياسيون للاعتصام، جاء معتصمو الحوض المنجمي للدفاع عن قضايا عادلة في جوهرها بغض النظر عن التفاصيل. جاء هؤلاء إلى باردو لأنهم يعتبرون أن ذلك أفضل مكان للتعبير عن إصرارهم على الدفاع عن حقوقهم منطلقين في الأصل من اعتراف في محلّه بشرعية المجلس الوطني التأسيسي، وبناء على ذلك فإنهم يعتقدون أن على نواب الشعب الحرص على تحقيق مطالب الشعب في الكرامة والعدالة الاجتماعية. هناك أيضا الاعتصامات في أماكن العمل، وهي نوعان مؤطرة وغير مؤطرة، وهناك الاعتصامات على الطرقات بهدف قطعها لفرض مطالب معينة. لكل تحرك من هذا النوع حقيقته والشكل الذي يتخذه، ولا يجب في نظري أن نبحث لها عن حل واحد ونطمع في الوقت نفسه في النجاح في تجاوزها. الأمور على أرض الواقع أكثر تعقيدا مما هي عليه في أحلامنا ! لكن يبدو أن ظاهرة الاعتصامات والاحتجاجات والإضرابات تتواصل بشكل يكاد يكون يوميا في ظل وضع اقتصادي يتميز بالهشاشة، فهل تحوّلت هذه الظاهرة إلى سلوك وعقلية لدى المواطن؟ هذه الظاهرة خطيرة بالفعل، ولكن يجب فهمها في إطارها الطبيعي أولا لأن تلك هي الخطوة الضرورية الأولى قبل مواجهتها بحلول حقيقية ودائمة. لو رجعنا قليلا إلى الفترة التي تلت الثورة مباشرة في عهد حكومة محمد الغنوشي لرأينا أنه حصلت تحرّكات اجتماعية كثيرة في عدة قطاعات بهدف الحصول على مكاسب اجتماعية. آنذاك اعتقد كثير من التونسيين أن الفرصة سانحة من أجل فرض أمر واقع جديد على دولة تمرّ بمرحلة ضعف غير مسبوقة، حيث لم يكن بوسع أحد اتخاذ قرارات غير الاستجابة لتلك المطالب من أجل المحافظة على حد أدنى من الاستقرار الاجتماعي الضروري لاستمرار الحياة. هناك مطالب مشروعة جدا بالنسبة لعدة قطاعات لم تنل شيئا مما وعدت به طيلة سنوات عديدة، غير أن استغلال ظرفية استثنائية لفرض تنازلات مؤلمة على بقية الأطراف الاجتماعية يعبر عن درجة عالية من الانتهازية، وهو سلوك لا يمكن في نظرنا تبريره مهما كانت درجة تفهمنا لعدالة تلك المطالب. في حالات عديدة كانت تلك القطاعات تسير كالقطيع تحت سيطرة الديكتاتورية، ولم يكن لها أي دور في إسقاط الاستبداد والنضال ضده حتى على المستوى الاجتماعي، وعندما اضطربت الأوضاع وجدناها السباقة لاستغلال الفرصة للحصول على مكاسب فئوية وإن على حساب الوضع العام بالبلاد. نتذكر جميعا أن إضرابات واعتصامات عديدة انطلقت واستمرت مدة طويلة لأسباب واهية جدا أحيانا، ومطالب كان يمكن أن تنتظر أحيانا أخرى. عودة الاعتصامات والإضرابات العشوائية في الفترة الأخيرة، أي بعد الانتخابات، وهي فترة يمكن وصفها بانعدام الوزن وضعف القرار، يجعلنا نفهم أن نفس الأسباب تفضي إلى النتائج نفسها إذا ما تشابهت الظرفية. وهنا فإن المسؤولية السياسية أمر لا يمكن التغاضي عنه. حكومة السيد محمد الغنوشي، وكذلك حكومة السيد الباجي قايد السبسي في الفترة الأخيرة، أخطأتا أخطاء مميتة. فبالنسبة لحكومة السيد الغنوشي فإنها وعدت الجميع بكل شيء، أما الثانية فقد ماطلت في تحقيق ما وعدت به الدولة وراكمت وضعا متعفنا في الأصل دون أن تبحث له عن حلول عميقة، أو دون حتى الالتزام بما قررته الحكومة. عندما عرف الجميع أن هذه الحكومة على رحيل، استفاقت نفس النزعة القديمة وهي استغلال الفراغ لفرض واقع جديد على الحكومة القادمة في حالات عديدة، بل قل في كل الحالات تقريبا، وعندما تعلق الأمر بقطع الطرقات، اتبعت الدولة سياسة النعامة وماطلت في اتخاذ إجراءات كان يمكن أن تضع حدا لهذه الظاهرة الخطيرة. لا يمكن لأية حكومة تحترم نفسها أن تسمح بقطع الطرقات، مهما كانت مبرّرات ذلك، وإلا لما بقي شيء اسمه الدولة. هناك ميزان قوى في التحرّكات الاجتماعية وهناك أدوات ضغط يمكن استعمالها. استعمال أدوات ضغط من خارج السياق هو خروج عن قواعد اللعبة، وعندما يقع الخروج عن قواعد اللعبة فلا حلّ أمام الدولة إلا أن تثبت أنها موجودة، وأن بيدها قوة عامة يتوجّب عليها استعمالها من أجل فرض الحق في الحركة الحرة للمواطنين. لا يمكن أن يختلف عاقلان في ذلك. كيف تفسّر بعض الاعتصامات التي تبدو عشوائية الهدف منها محاولة لتعطيل مصالح اقتصادية ومرافق عمومية وغالبا ما تكون غير مؤطّرة نقابيا؟ كما أسلفت، عدالة المطالب الاجتماعية شيء وتعطيل مصالح البلد من أجل فرض تلك المطالب شيء آخر، وهنا أعود بإسهاب أكثر إلى قوانين اللعبة. أنت تشتغل في مصنع ولديك مطالب عادلة ترفعها في وجه صاحب المصنع وعندما يرفض التفاوض حولها تبدأ في التلويح بالإضراب وعندما يواصل رفضه فإنك تعلن الإضراب وتقوم به. هذا أمر تقليدي في كل المجتمعات المنظمة. في الحالة التي تتم فيها الأمور بصفة عشوائية يحصل أمر مختلف تماما، أي أن إضرابات يقع شنها دون سابق إعلان وأنها تتحول إلى اعتصامات بموطن العمل لتعطيل كل العملية الإنتاجية واحتلال أدوات العمل. في كثير من الأحيان تم ذلك دون أية مساع للتفاوض. هذا يسمى خروجا عن قواعد اللعبة وكل خروج عن قواعد اللعبة يستوجب من الطرف المقابل أن يخرج عنها أيضا. هنا يتعلق الأمر بقطاعات مؤطرة نقابيا، لكن التحرّك كان عشوائيا. هذه الحالة يمكن التعامل معها، أما الحالة التي يكون فيها القطاع غير مؤطر نقابيا فإن الوضع يصبح أكثر خطورة وتصعب السيطرة عليه. لنوضّح بداية أن وجود النقابات في كل قطاع ليس أمرا جيدا للعمال فقط، وإنما لرأس المال أيضا وهذا درس لأصحاب المؤسسات الذين كانوا يرفضون وجود نقابات في مؤسّساتهم باستمرار وكانوا يقومون بطرد النقابيين بتهمة التشويش على مناخ العمل. العدالة الاجتماعية هي من أهم مقومات مناخ العمل السليم لكن جشع رأس المال جعله لا يفهم ذلك. سيخسر الجميع كثيرا من إضعاف النقابات، لأنه بإضعافها فإنك تضعف الطرف الذي تحتاج إليه للوصول إلى حلول للمشاكل في بيئة العمل. هذا يستوجب تحوير قواعد السلوك داخل المؤسسة الاقتصادية، وتفهّم رأس المال أن مصلحة طويلة المدى أفضل من ربح آني قد تعصف به أية أزمة ظرفية. كيف يمكن الخروج من المأزق الاجتماعي الذي ستجد الحكومة الجديدة فيه نفسها إذا تواصل هذا السلوك؟ هناك مرحلتان في أي عمل يستهدف حل هذا المشكل:
- مرحلة قصيرة المدى تتدخل فيها مختلف الأطراف موضعيا بخلق خلية أزمة اجتماعية في كل ولاية على الأقل.- مرحلة بعيدة المدى بخلق تقاليد جديدة في التعامل بين الأطراف الاجتماعية، وهو ما يمكن أن نسميه بالعقد الاجتماعي الجديد. طبعا الأمر يتعلق هنا بالمؤسّسات الاقتصادية وليس بقطع الطرقات. قطع الطرقات لا يمكن أن يقع التعامل معه إلا باستعمال القوة العامة وبقرارات سياسية شجاعة من الدولة. لا شيء مطلقا يبرّر غلق الطرقات مهما كانت طبيعة المطالب المرفوعة، وهنا فإن على الجميع تحمل مسؤولياتهم ودون تردد. هناك أخطاء كثيرة تراكمت طيلة الفترات السابقة، ونحن الآن نواجه انعكاساتها دون أدوات فاعلة إجمالا. التفاوض فن يقع تدريسه في البلدان التي تحترم مواطنيها ولكن بما أن الإكراه كان السّمة الغالبة على سلوك الدولة طيلة خمسين سنة، فقد أهملنا ذلك. اليوم يجب أن نضع الأمر في اعتبارنا حتى نحسن التعامل مع ما ينتظرنا في المستقبل، لأن هذه الظاهرة لن تزول بقدرة قادر وبين عشية وضحاها إلا إذا اتخذنا من أحلامنا مطية لهضم واقع لا يهضم. هل يمكن أن تجتمع الأطراف الاجتماعية حول هدف واحد لإنقاذ البلاد من وضعها الاقتصادي والاجتماعي المتأزّم وما هو مطلوب من الحكومة لوقف موجة الاعتصامات والإضرابات؟ في هذا السياق، على الحكومة الجديدة أن تثبت أنها ستحمي الحقوق، حقوق العامل وحقوق صاحب العمل في الوقت نفسه، وأن يقتنع الجميع بدور الدولة الحيادي في الصراعات الاجتماعية لأننا تعوّدنا جميعا في السابق أن الدولة كانت دائما تخدم مصالح رأس المال ولا تمنح العمال إلا التسويف أو الهراوات. كما أن على الحكومة أن تكون شفافة في المعلومة الاقتصادية والاجتماعية، بالعمل على وضع هذه الصّراعات الاجتماعية على الساحة العامة يعاضدها في ذلك إعلام حرّ يذهب إلى أصل الأشياء ولا يعتمد الإثارة الرخيصة والتركيز على قضايا عديمة الأهمية. وكما ترى فإن الأمر يتعلق بحزمة سلوكات لا يوضع القيام بها على عاتق الدولة فقط وإنما على كاهل كل المجتمع. عندما يفهم الجميع أن الأمر يتعلق بحقوق مشروعة متفق عليها وأن الاختلاف هو فقط على أسلوب تحقيقها والمدى الزمني الذي يتطلبه ذلك نكون قد قطعنا خطوة حاسمة في إنجاز ذلك العقد الاجتماعي. أنا متأكد من أنه إذا تبين للجميع أن الدولة قررت الاعتراف بخطئها في إهمال المطالب المشروعة في العدالة الاجتماعية، وأنها قررت أن تبدأ بداية جديدة بأساليب جديدة عمادها الثقة في أدائها، فإن النتائج ستبدأ في الظهور بأسرع مما نتصور. في هذا السياق ينبغي أن يفهم رأس المال أن عليه تقديم تضحيات قد تكون مؤلمة أحيانا. لا يمكن توقع أن يواصل العمال القيام بأعباء التنمية دون غيرهم من الأطراف الاجتماعية. تحتاج الدولة أن تعبر عن توجه حاسم نحو الحياد في الصراع الاجتماعي، وأن دورها هو حماية العدالة والحريات، وهذه الحريات منظومة مترابطة ترابطا عضويا. ننتظر هذه الإشارات، ويجب عليها أن تكون واضحة، وأن يظهر ذلك في سياسة جبائية أكثر عدلا.