الحدث الإعلامي البارز اليوم هو الدعوات للتظاهر أمام مقر التلفزة الوطنية التي ملأت منذ يومين صفحات عديدة من المواقع الاجتماعيّة وقال مطلقو تلك الدعوات إنّهم حصلوا على الترخيص القانوني لتظاهرهم، البعض يوجه اتهاما للفريق الحاكم بأنه يسعى من خلال هذا التحرك الذي لم تعلن أي جهة حزبية عن تبنيه بصورة واضحة ورسمية، للسيطرة على الخط التحريري للمؤسسة والنشرة الرئيسية للأخبار. انتقادات الأطراف السياسيّة وخاصة منها حركة النهضة وحزب المؤتمر من أجل الجمهوريّة والعديد من مكوّنات المجتمع المدني للتلفزة ونشرة الأخبار لا تخفى على أحد وقد جاءت صريحة وعلى لسان أكثر من مسؤول حزبي أو في حكومة السيد حمادي الجبالي. ولكن هذه المواقف ليست سوى امتداد لموقف حكومة محمد الغنوشي الذي استقال بسبب دعوة لإعدامه في برنامج تلفزي مباشر وكذلك الباجي قايد السبسي الذي هاجم الوطنية أكثر من مرة ووصل الأمر إلى حد إهانة الزميلة نعيمة عبد الله الجويني بعد خروجه من اجتماع هيئة تحقيق أهداف الثورة. التشكيك في نزاهة التلفزة جاء على لسان بعض السياسيين البارزين مثل الأستاذ احمد نجيب الشابي الذي اتهم الزميل ايهاب الشاوش في لقاء مباشًر بالتمييز بين الضيوف والانحياز لطرف سياسي على حساب طرف آخر ، النقد أيضا جاء على لسان بعض المهنيين حيث اتهم النقيب السابق للصحفيين الزميل ناجي البغوري الوطنية1 بأنها أصبحت «السلفية 1». فمن هذه المنطلقات المشكلة أعمق من أن ينظر إليها باعتبارها انحيازا ضد طرف معين ، بل هي مشكلة مؤسسة عمومية لم تجد توازنها بعد الثورة وتحررها من وصاية قصر قرطاج. صحيح أن في التلفزة بعض الأطراف الإيديولوجية التي قد تكون موجهة في مواقفها ولكن ذلك لا يعني أن نحكم على مؤسسة كاملة بالإعدام او أن نحملها مسؤولية فشل الحكومات بعد الثورة في الإدارة الجيدة لملف الإعلام العمومي. لا اعتقد أنّ «الهجمة» على التلفزة ستحل المشكلة بل ستزيدها تعقيدا لأنها ستطمس الملفات الحقيقية وستصرف الأنظار عن واقع جديد نشأ فيها بعد الثورة لم يوفر لها سبل تطوير أدائها بل حكم عليها بالدخول في منطق تصفية الحسابات الشخصية والإيديولوجية .والاتهام والمؤاخذة تكاد تتكرر وهي انحياز التغطية التلفزية وعدم تعاطيها بإيجابية مع أنشطة الحكومة ومع الوضع العام في البلاد . وهو ما انجرت عنه حسب منتقدي التلفزة صورة خاطئة عن تونس أثرت سلبا في مواقف المستثمرين الأجانب والجهات المانحة المساعدة لدعم التجربة الديمقراطية في البلاد. وهو أمر صحيح إلى حد كبير ولكنه الشجرة التي تخفي وراءها غابة. استقلاليّة التلفزة كمرفق عمومي الحكومة الحالية جادة في الحفاظ على استقلالية التلفزة كمرافق عمومي ولكنها لم تجد المدخل المناسب إلى حد الآن لتنفيذ ذلك وكسب ثقة العاملين في التلفزة من مختلف الأسلاك ، فالناطق الرسمي باسم الحكومة السيّد سمير ديلو أكّد مرارا على أنّ الحكومة لا ترغب في الهيمنة على الإعلام العمومي بل تؤكّد عليه أن يكون إعلاما نزيها وموضوعيا مقيّدا بأخلاقيات المهنة الإعلاميّة لا غير وأضاف أنّه ليس من مصلحة الفريق الحاكم أو الحزب الأغلبي السيطرة أو الهيمنة على هذا القطاع ومن بين مكوّناته التلفزة الوطنيّة. إذن، أين الإشكال؟ ، يبدو وكأنّ الحكومة لم تدرك إلى حد الآن أن جزءا كبيرا من الحل هو تخفيف الضغط على المؤسسة ، هذا الضغط الذي كان يسلطه عليها القصر قبل الثورة فأصبح مسلطا عليها من قبل لوبي يضم بعض الإداريين وبعض النقابيين الذي حاولوا استغلال سمعة المنظمة النقابية العتيدة ودورها التاريخي في الإطاحة بالدكتاتورية لتحقيق أهداف شخصية آو فئوية وهو ما ظهر جليا في الأيام الأخيرة بمحاولة التدخل في ترتيب البيت الداخلي لقسم الأخبار. الحكومة فاجأت الجميع بتعيين رئيس مدير عام لا خبرة له في إدارة مؤسسة وقد ذهب البعض إلى النبش في تاريخ الرجل للإشارة إلى انه كان من أبناء الاتجاه الإسلامي والحقيقة انه ابن المناخ الجديد الذي شهدته التلفزة بعد الثورة بتحالفاته وحساباتهم وهي مدعوة إلى تعديل الأوتار واتخاذ إجراءات عاجلة لتحسين مناخ العمل داخل التلفزة ورفع المظالم التي سلطت على كثير من الإطارات من الصحفيين والتقنيين. الحكومة مدعوة إلى تطهير الوضعية المالية للتلفزة بإلغاء ديونها المتخلدة وتشكيل لجنة تحقيق رقابية مستقلة للوقوف على حقيقة التصرف المالي والإداري في المؤسسة قبل وبعد الثورة. وليس من المعقول هنا أن يتحدث الجميع عن فساد مالي ويبقى المسؤول المالي في مكانه الذي يشغله منذ سنوات عديدة . ولعله من المفيد ان نذكر بتقرير دائرة المحاسبات الذي شخص بدقة عديد الهنات والنقائص ولكنه ترك جانبا لينشغل الجميع بقضية تثار حولها عديد الأسئلة والشبهات خاصة وأنها حولت بعض من يفترض علاقتهم بالفساد المالي والإداري ان ثبت إلى شهود. الخطوة الثانية التي يجب أن تقوم بها الحكومة هي منح الحصانة والسلطات الفعلية للمشرفين على القطاعات لاتخاذ الإجراءات اللازمة ضد كل من يتهاون في أداء واجبه في إطار القانون وليس بمنطق المحاباة او تصفية الحسابات او محاكمة النوايا وتحويل ضحايا القمع المسلط على الإعلاميين في العهد السابق إلى مجرمين يحاكمون مثل جلاديهم. الخطوة الثالثة هي دعوة الوزارات المعنية إلى العمل بكل السبل لاستعادة القسط الثاني من القرض الياباني وإيجاد خط تمويل لاقتناء حافلات جديدة للنقل التلفزي بعدان تجاوزت الحافلات الموجودة فترة استغلالها وهي تهدد في أي لحظة بحرمان التلفزة من النقل الخارجي وإعطاء أولوية للحفاظ على المكاسب الاجتماعية للأعوان الذين يعمل الكثير منهم في ظروف سيئة قبل وبعد الثورة لا علاقة لها بالأموال الطائلة التي تنفق هدرا أحيانا ومنها ما انفق ليلة الانتخابات وهب القسط الأكبر فيه لتركيز ديكور وقتي كان من الممكن أن يرصد ثمنه لتغيير ديكورات كل البرامج التلفزية. منطق إقصاء وتهميش وتصعيد مجاني الحكومة ليست مسؤولة لوحدها فالأطراف لها مسؤولية اكبر لتنقية الأجواء فليس من المعقول أن تبقى التلفزة كغيرها من المؤسسات الإعلامية رهينة نفس منطق الإقصاء الذي همش الكفاءات وفرض على الصحفيين الوصاية والرضوخ . قبل الثورة همشت طاقات عديدة بدعوى انها «مناوئة» للنظام السابق والتجمع واليوم تهمش عديد الكفاءات لان ذنبها الوحيد هو أنها عملت في العهد السابق وكأنّ قطاع الإعلام هو القطاع الوحيد الذي عمل تحت إشراف النظام السابق في حين كانت القطاعات الأخرى تعمل تحت إشراف الأممالمتحدة. الدعوة موجهة للجميع للخروج من عنق الزجاجة وعدم دفع الأمور إلى تصعيد مجاني لا يصب في مصلحة احد بل يؤدي إلى تجاهل الملفات الحقيقية والعالقة وتكريس المغالطات. لا اعتقد ان حكومة حمادي الجبالي ولا حركة النهضة تريدان الهيمنة على التلفزة وهو ما أكده رئيس الحكومة وكذلك السيّد راشد الغنوشي ورموز الترويكا. وهو ما يفتح المجال للنوايا الصادقة للعمل في لحظة تحتاج فيها تونس لكل أبنائها وبناتها وخاصة من الإعلاميين في قطاع اكتشف الجميع الآن دوره الأساسي في التنمية وحاجة تونس إلى تحويله من آلة للدعاية للنظام الحاكم إلى مجال لتلميع صورة تونس في الخارج وإنارة سبيل الحاكم بالنقد البناء والنقل الأمين للواقع والمساعدة على إدارة حوار يؤدي إلى الخروج من الصعوبات عوض الدفع نحو المجهول. ومن المؤكّد أنّ على الأطراف السياسية في الحكم وفي المعارضة أن تعي أنّه لا صواب في البحث عن وصاية على الإعلام العمومي (والإعلام بصفة عامّة) كما أنّه لا فائدة ترجى من مساعي توجيه الإعلام والضغط عليه ، وعلى الجميع أن يقتنع بأنّ الالتزام بحدود الأخلاق الصحفيّة والتي من أبرزها الإنصاف والمهنيّة هو سبيل الخروج بالتلفزة الوطنيّة وغيرها من مؤسسات الإعلام من واقعها الحالي إلى الواقع الأفضل المنشود والمأمول.