كيف يمكن للتونسيين ان يدخلوا التاريخ وان لا يبقوا خارجه؟ هذا ما تحاول الدكتورة امال قرامي ان تجيب عنه عبر هذا الحوار الشامل حول ظاهرة السلفية وتنامي الفكر التكفيري المتشدد. عندما تقرا اعمال امال قرامي ستكتشف بلا شك ان هذه الباحثة التونسية نجحت في استلهام الموروث الإصلاحي والتنويري التونسي وهو ما جعلها عرضة لحملات تشويه منظمة من ناشطين على الشبكات الاجتماعية. بكثير من الهدوء والتواضع تتحدث امال قرامي لتعبر عن رؤية تونسية متجذرة في تربتها الثقافية العربية الإسلامية التي تتعرض الان لمحاولات تشويه ممنهجة لتغيير وجه تونس. هناك صعود متنامي لم تعرفه تونس طيلة تاريخها المتسامح للتيارات السلفية المتشددة كيف تقرئين هذه الظاهرة؟ من الملاحظ انّ الثورة ازاحت الستار عن الفئات التي كانت غير مرئية، تعيش مهمّشة وممنوعة من التعبير عن افكارها وتصوّراتها بشان المشروع المجتمعي المنشود، وتنظّم صفوفها بطريقة سريّة ومن هنا كان ظهور بعض المجموعات المتطرفة مفاجئا للتونسيين لانّهم لم ينتبهوا إلى التحوّلات الطارئة على المجتمع التونسي بتاثير البرامج الدينية في الفضائيات ذات التوجه الوهابي والهجرة إلى بلدان الخليج والاتصال ببعض المجموعات المتشددة دينيّا إلى غير ذلك من العوامل. وما كان بإمكان الدارسين في ظلّ النظام السابق، كشف النقاب عن وجود هذه المجموعات والتعريف بطروحاتها والنفاذ إليها بسبب الضغوط الامنية والحظر وسريّة التنظيم. وليس يخفى انّ الاستبداد والتهميش وضعف مستوى التعليم وتفشّي البطالة وانسداد الافق، خاصّة امام عدد كبير من الشبّان والتضييق على حريات المتدينين وقمع عدد كبير من قيادات الإسلاميين قد افرز التطرّف في السلوك والفكر والممارسة. وفي اعتقادي، ليس من اليسير الحكم على الآخر قبل معرفته ودراسة فكره وفهم الظروف التي ادّت إلى اختياره هذا المسار او ذاك. فهذه المجموعات المتطرّفة عاشت في عزلة محافظة على قناعاتها واحكامها رافضة التواصل مع الغير، وهي اليوم تريد ان تعبّر عن حضورها في «المشهد» وان تفرض ما تؤمن به بالقوّة، وهذا هو الإشكال وإن كان متوقّعا، فالمحروم والمكبوت يتلهف لتنفيذ ما يرنو إليه وليس له استعداد لتاجيل مطالبه، ومن هنا استغلّت هذه الفئات المتطرفة الظرف الذي تمرّ به البلاد وهشاشة «دولة المؤسسات» لتحاول فرض مشروعها وسيلتها في ذلك التكفير والعنف والإقصاء بيد انّه لا يمكن إرساء قواعد العيش معا بهذه الطريقة الصدامية التي تتنافى مع منظومة قيمية الفها اغلب التونسيين منها التسامح والتوادد والرحمة والتضامن واحترام التنّوع واعتباره عامل ثراء. إنّنا نطمح ، من خلال العمل الجمعياتي في هندسة فضاء اجتماعي يسع الجميع ، يحقق الوصل لا الفصل ، والدمج لا الإقصاء. شهدت الكليات التونسية وخاصة كليات الآداب والفنون «غزوات» سلفية على حد تعبير النشطاء السلفيين هل تعتقدين ان هناك برنامج متكامل لضرب التفكير من اجل صياغة نمط اجتماعي جديد على غرار دول الخليج بتاثير من بعض الدول التي تدعم هذه الحركات؟ كلّ مشروع لابدّ ان يستند إلى خطط واستراتيجيات قريبة المدى واخرى بعيدة المدى ومن هنا فإنّ رغبة البعض في «اسلمة» البلاد و«تطبيق الشريعة» وإرساء «الخلافة» مخطّط ممنهج وليس عملا تلقائيا او عشوائيا. وقد اظهرت الاحداث التي عاشتها ولازالت تعيشها عدد من المؤسسات التعليمية :الجامعية والثانوية والإعدادية انّ الحريات الفكرية والاكاديمية مستهدفة ، وهو امر مفهوم لانّ ما تطمح إليه هذه الجماعات المتطرفة هو تنميط المجتمع التونسي ونسف التعددية والتنوع والقضاء على مظاهر الاختلاف فكرا وسلوكا ومعتقدا فضلا عن خلق نماذج جديدة من التونسيين همهم الاول الطاعة والتسليم ، وهي عبوديّة جديدة تنتشر باسم الدين، وهذه العبودية اختيارية قائمة على التعلّق بمنهج التلقين بدل التفكير، الانقياد بدل الاختيار، الاستهلاك بدل الإنتاج، التسليم بدل إعمال العقل والاستقالة امام الناطقين نيابة عن الله.... واذهب إلى انّنا نعيش عمليات «اختطاف ديني» واحتكار الخطاب الديني لفائدة من يعتبرون انّهم خير من يمثّل الإسلام والمسلمين في تونس. إلى أي حد يمكن اعتبار ان المجتمع التونسي مهدد في وحدته واستقراره بسبب هذه الحركات التكفيرية البعيدة عن الإسلام؟ تثبت التجارب التي مرّت بها بعض البلدان، وخاصة لبنان والجزائر انّ انتشار ظاهرة التكفير وممارسة الغلوّ وانتهاج الإرهاب الفكري ومحاولة تصميت المغاير والمختلف ستؤدي حتما إلى الصدام واستشراء العنف والتناحر والبغضاء والفرقة والنبذ والإقصاء، وهي علامات دالة على تصدّع في البناء الاجتماعي. فنحن إزاء فئات لا همّ لها سوى «صناعة الاعداء» لانها غير قادرة على العطاء وعلى المساهمة في نحت معالم المستقبل ولذلك فإنّها تعمل جاهدة على إنتاج ثقافة الكره وتشتيت الجهود ونسف الوحدة الوطنية وإلهاء العباد بحرب ايديولوجية والحال انّ الرهان الاكبر هو إنجاح مسار التحوّل نحو الديمقراطية المنشودة والقضاء على البطالة وتحقيق التنمية والعدالة الاجتماعية والقضاء على مظاهر التمييز في كافة المجالات.وإذا كانت الثورة التونسية قد استطاعت لفت انظار كلّ السياسيين والدارسين وغيرهم بفضل مميّزاتها فإنّ ما نشهده اليوم من انتهاكات لحقوق الإنسان تحت خلفيّة «اسلمة» البلاد سيساهم في تنفير عديد الجهات الاجنبية وتشويه صورة الإسلام والمسلمين وسيثبّت مقولة التعارض بين الحكم الديمقراطي والإسلام. أي مسؤولية لحركة النهضة وحليفيها في هذا وخاصة الصمت على الداعية غنيم الذي دخل تونس فاتحا؟ لقد اختارت حركة النهضة ان تكون في موقع الحكم وان تتولى تسيير البلاد في مثل هذه الفترة الحرجة التي تمرّ بها تونس ،ومن هنا لا يمكن ان ترفض النهضة او تتاخّر عن الاضطلاع بمسؤولياتها مهما كانت المبررات المقدّمة. فاللذين انتخبوها واللذين وثقوا في وعودها واللذين راقبوا عملها وتتبعوا مواقفها ورصدوا خطواتها لهم توقعات ومطالب وانتظارات وحسابات وبناء على ذلك يتعيّن على قيادات النهضة، وخاصة المستنيرين ان يكونوا فاعلين على الساحة مساهمين في مدّ جسور التواصل بين جميع المواطنين وان يتوخوا طرقا واساليب جديدة في التواصل لا سيما وانّ خطابات «التطمين» التي ذاعت زمن الحملة الانتخابية فقدت بريقها وافلست ولم تعد تجدي إذ انعدمت نجاعتها. ويبدو لي انّنا نعيش ازمة علائقية بين الحكومة ومختلف مكونات المجتمع المدني ، بين الحكومة والإعلام، بين مختلف التيارات السياسية ... امّا فيما يتعلّق بدعوة الشيخ غنيم وعدد من الدعاة الإسلاميين المتشددين إلى تونس فإنّ الجدل الذي اثير حول هذا الموضوع يكشف النقاب عن حقيقة مفادها انّ السياسة ليست غائبة في خطابات عدد من الدعاة . إنّ المسالة مرتبطة في نظري، برغبة البعض في تركيز اسس «الحكم الرشيد» من خلال المناصرة والمؤازرة: مناصرة فئة من الدعاة الذين يحلمون ب«مشرقة تونس» وعولمة الإسلام وتنميط المجتمعات المعاصرة. بيد انّ دعم هذه الفئة من الدعاة للنموذج التونسي باللجوء إلى توظيف المعجم الحربي بهدف التعبئة وجلب المناصرين وتغيير المواقف والقيم قد ادّى إلى تراشق بالتهم بدل الحوار خاصة بعد تعمّد الشيخ غنيم «تحطيم» معنويات الخصوم عبر تحريك المشاعر و التاثير في الجموع من خلال «تسليع» الدين و«تسويق» افكار متطرفة وتكريس صور نمطية، وكلّ ذلك ادّى إلى تعرية الواقع التونسي وفضح المستور. فقد بدا واضحا عدم التجانس داخل حركة النهضة، والتضارب في التصورات وهكذا بدات اصوات «الاعتدال والوسطية» والعقلانية تتوارى لتفسح المجال امام خطابات متطرفة وهجينة تؤدي إلى التناحر والاحتقان، وبتنا نعاين فجوة بين ما تطرحه هذه الخطابات والاسئلة الجوهرية اليوم في تونس من قبيل التشغيل والعدالة الاجتماعية واستقلال القضاء وضمان الحريات وتحقيق الوحدة الوطنية. إنّ كلّ الشعارات المرفوعة، والخطب «العصماء» حول الدولة المدنية، والاقتداء بالنموذج التركي ودولة المؤسسات والقانون، وتونس التي تسع الجميع والضمانات المقدمة.... لم تتحوّل إلى واقع معيش. إنّنا مازلنا نتعلّم المبادئ الاولى للعمل الديمقراطي وشتّان بين التوظيف الفجّ للمفاهيم وبين التطبيق العملي للمبادئ. ماهو المطلوب اليوم من النخبة التونسية في مواجهة هذا المد الذي يهدد فعليا الاسلوب التونسي؟ تُبين هذه الاحداث إفلاس المشاريع التعليمية والثقافية فضلا عن تدنّي مستوى أداء بعض «المثقفين» والنخب السياسية. فنحن مع تراجع نسبة المقبلين على القراءة والمعرفة في مقابل سيادة ثقافة السماع ومحاولات ضرب الوصاية على الافراد وما ينجم عنهما من آثار خطيرة على مستوى الفكر والسلوك. كما انّنا مع مشادات يومية بين النخب تبعدهم اكثر فاكثر عن مواقعهم والادوار المنوطة بعهدتهم. وهنا ينتظر من كلّ مكونات المجتمع المدني ان تكون متحمّلة للمسؤولية وان تساهم في نشر التوعية ومدّ جسور التواصل مع جميع الفئات الاجتماعية. وليس يخفى انّ الحوار و«النزول إلى الميدان» وإرساء قواعد العيش معا ونسج خطابات رصينة ومعتدلة من بين الوسائل المتاحة اليوم امام جميع الفاعلين الاجتماعيين والقانونيين والناشطين الحقوقيين، خاصّة بعد ان «فتحت» الفضاءات العامة امامهم . وفي اعتقادي، إنّ ركون بعض «المثقفين» إلى وسائل الإعلام الجديد كالشبكة الاجتماعية ال«فايس بوك» لممارسة «النضال» او «التعبئة» الايديولوجية قد اثبت مرّة اخرى صعوبة الالتحام بالجماهير في الفضاءات العامة وكانّ هذا الصنف من المثقفين مازال «يخشى» قرب المسافات.... ماهو المطلوب حتى لا يتحول الربيع العربي الى شتاء من القتل والتكفير ومصادرة الحريات؟ نأمل انّه من خلال: تفعيل الحسّ المدنيّ والوعي الوطني وتوخي اليقظة والحذر و«مراقبة» اداء جميع الفاعلين بما في ذلك الحكومة فضلا عن الرغبة الجديّة والصادقة في الخروج من النفق وتجاوز الخلافات والمصالح الآنية، قد نتوصّل إلى تجاوز التحديات والرهانات وتحقيق الثورة الفعلية لا سيما وانّ التجربة المصرية تتجه نحو الفشل. واعتقد انّه ليس امامنا إلاّ حسم خياراتنا: إمّا الدخول في التاريخ او البقاء خارجه، والتاريخ لن يرحم التونسيين الذين يعبثون بمقومات العيش معا ويسعون إلى نسف منظومة القيم النبيلة التي ارستها الثورة. إنّنا قادرون على إنجاح المسار شريطة ان تلتحم الجهود والمساعي وان نقاوم كلّ محاولات إعادة إنتاج الاستبداد.