حسمت حركة «النهضة» مسألة مهمّة كانت محل جدل واسع على امتداد الأشهر والأسابيع الماضية وهي الموقف من الفصل الأول من الدستور... في أي إطار يتنزل هذا التحرك وبأيّ «ثمن» ولمصلحة من وما هي تداعياته على الحركة في الداخل ولماذا الآن؟\دعوات كثيرة إلى تحديد خارطة طريق للمرحلة القادمة ولحسم الجدل الدائر حول مصادر التشريع في الدستور الجديد والتنصيص على الشريعة كمصدر أساسي أو كمصدر من مصادر التشريع، وتجاذبات حول هذا الموضوع وضغوط من المعارضة وحتى من داخل الائتلاف الحاكم لضبط جدول زمني لعمل المجلس التأسيسي ورفع الغموض عن برنامج الحكومة بما يعنيه ذلك من تيسير عمل مختلف الأطراف وإنجاح دورها في تسيير هذه المرحلة الانتقالية والمرور إلى الانتخابات ودخول مرحلة الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي. موقف استراتيجي؟
زعيم «النهضة» راشد الغنوشي قال إن الحركة ناقشت مطولا مسألة إدراج الشريعة في الدستور وإن صياغة الدستور يجب أن تقوم على الإجماع أو شبه الإجماع» مضيفا أن هناك إجماعا على الإسلام و ليس هناك إجماعا على الشريعة بسبب غموض مفهومها لدى جزء من التونسيين . وأوضح أن اكتفاء الحركة بالفصل الأول من الدستور السابق يترجم فهم حركة النهضة لحقيقة أن فئة من التونسيين متخوفة من الشريعة بسبب ممارسات باسمها في دول أخرى منعت المرأة من العمل و من قيادة السيارة و منعت التلفاز وأغلقت محلات الحلاقة... كما يترجم ذلك أيضا رفض الحركة تقسيم التونسيين إلى قسم مع الشريعة و قسم ضدها. وقال الغنوشي «نحن لا نريد أن ندفع جزءا من التونسيين المسلمين أن يقولوا إنهم ضد الشريعة وهم لا يعرفون معناها ... يجب أن نمنحهم الوقت حتى يفهموا أن الشريعة عدل ورحمة وأن الشريعة هي الإسلام» موضحا أن «الشريعة ليست كما يروج لها البعض مجرد منظومة عقوبات زجرية من قطع للأيدي ورجم وغيرها بل هي خلافا لذلك عبادات ومعاملات وأخلاق ومنظومة حياة .
وأكد أن جميع من في حركة النهضة يؤمنون بالشريعة وأشار إلى أن ذلك لا يعني أن حركة النهضة تريد أن تفرض الإسلام من فوق وقال إن «الإجراءات الإسلامية ينبغي أن تصعد من تحت وعندما يطالب المجتمع بصفة توافقية بمسألة ما سيستجيب له المشرع».
ورأى عضو المكتب التنفيذي لحركة «النهضة» المكلف بالإعلام محمد نجيب الغربي أن قرار حركته اعتماد الفصل الأول من دستور 59، الذي ينص على أن «تونس دولة حرة، مستقلة، ذات سيادة، الإسلام دينها والعربية لغتها، والجمهورية نظامها»، يمثل موقفًا استراتيجيًا للحركة ولا يحمل أي تعارض مع الهوية العربية والإسلامية للبلاد.
في المقابل أكد القيادي في الحركة الحبيب اللوز أنه طلب من رئيس الهيئة التأسيسية للحركة مراجعة القرار المتعلق بالاكتفاء بالفصل الأول من دستور 59، وعبر اللوز عن رفضه لقرار الهيئة التأسيسية قائلا « أنا حزين لهذا القرار ولا أملك سوى أن أنضبط له وأدفع نحو التفاعل مع المطالبة الشعبية بتطبيق الشريعة».
وكان الحبيب اللوز من أبرز المطالبين داخل حركة «النهضة» بالتنصيص على الشريعة كأحد مصادر التشريع في الدستور الجديد وكان قد طالب باستفتاء في هذا الخصوص وقال «إنه متأكد من أن 80 بالمائة سيصوتون مع تضمين الشريعة الإسلامية في الدستور» .
ويرى بعض المراقبين أنّ هذا الموقف أدخل ارتباكا وانقساما داخل الحركة وأنّه سيزيد من احتمالات الصّدام مع السلفيين وغيرهم من مكونات الاتجاه الإسلامي في تونس ممّن يتمسّكون بالاحتكام إلى الشريعة في التشريع وتصريف شؤون الناس... لكنّ قيادة «النهضة» تنفي ذلك وتؤكّد أنّ القرارات داخلها تُتّخذ بالتوافق وأنّ الجميع سيحترم الموقف الذي اتخذته الهيئة التأسيسية في اجتماعها الأخير.
توضيح الرؤية
الناشط الحقوقي والمحلل السياسي صلاح الدين الجورشي اعتبر أنّ موقف «النهضة» من شأنه أن يساعد على توضيح الرؤية، ويجعل النخب الحداثية تطمئن لإمكانية تجاوز هذه القضية الخلافية التي من شأنها أن تغذي حالة الاستقطاب الثنائي حول مسائل ايديولوجية معقدة من شأنها أن تربك المسار الانتقالي في البلاد، وتدخل التونسيين في جدل هم اليوم في غنى عنه.
ورأى الجورشي أنّ الفصل الأول من دستور 1959 يتميز بثلاث نقاط قوة وهي أنه:
ينهي الجدل حول هوية تونس التي لن تكون إلا عربية اللغة والانتماء الثقافي، وإسلامية من حيث الديانة السائدة، دون أن يلغي ذلك بقية الأبعاد المكونة للشخصية التونسية عبر تاريخها وموقعها الجغرافي، مثل الانتماء المغاربي، والإفريقي والمتوسطي، إلى جانب احتواء التنوع الديني مثل اليهودية والمسيحية أو التنوع اللغوي التراثي مثل الأمازيغية.
يؤكد الحيوية والحركية التي تمتع بها التشريع التونسي، منذ انطلاق الحركة الإصلاحية، وذلك بجمعه بين مصادر متعددة، وفي مقدمتها التشريع الإسلامي. وهكذا يتم المحافظة على الاستمرارية والتكامل والانفتاح على التشريعات العالمية.
يجنبنا هذا الفصل الدخول في معارك وهمية حول من هو أكثر إسلاما من الآخر. وهو ما أحدث أضرارا فادحة في مجتمعات أخرى، لأن الإسلام لن يكون إلا مع الحرية والكرامة والعدالة والمساواة والعلم، هذه هي روح الإسلام، وهي مقاصده التي مكنته من الانتشار في مختلف القارات، وضمنت له البقاء والتأثير في مسارات التاريخ والحضارة.
وأكّد الجورشي أنّ التونسيين في أشد الحاجة للوضوح ودعم المصالحة بين هويتهم ومصالحهم الحيوية القائمة على الشغل والصحة والتعليم والأمل في المستقبل.
ضغط الشارع و الخارج
من جانبه اعتبر الناشط الحقوقي عبد العزيز المزوغي أنّ هذه المسألة حُسمت بصعوبة متهما حركة «النهضة» بأنها هي التي أحدثت هذا الجدل على امتداد أشهر وتركت الأبواب مفتوحة قبل أن تحسم الأمر بصفة متأخرة مشيرا إلى أن هناك انقسامات داخل حركة «النهضة» حول المسألة.
ورأى المزوغي أن قرار «النهضة» أمر إيجابي لكنه حذّر من أن «ما خرج من الباب قد يدخل من الشباك» أي أنّ «ما لن يتم التنصيص عليه في الفصل الأول قد يتم تضمينه في الديباجة».
وأضاف المزوغي أنّ «النهضة» تقع تحت ضغط الشارع وتحت ضغط السلفيين فضلا عن وجود ضغوط خارجية.