كما كان متوقّعا وكما توافقت على تأكيده كل التقديرات والاستطلاعات قبل انطلاق الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية، تفوّق مرشح الحزب الاشتراكي فرانسوا هولاند على منافسه الرئيسي المتخلّي نيكولا ساركوزي بعد أن تقدم عليه بفارق نقطة ونصف في النتائج النهائية لهذا الشوط الأول من السباق نحو قصر الإيليزيه.
وهي المرة الأولى في تاريخ الجمهورية الخامسة الفرنسية التي قامت على يد الجنرال دي غول في أكتوبر 1958، يتأخر فيها الرئيس المتخلّي في الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية على منافسه المباشر. فهل في هذا نذير شؤم على رئيس ساركوزي؟ الكثير يرون ذلك كذلك ماعدا ساركوزي وفريق حملته الانتخابية الذين تعتبرون أن الرئيس المتخلّي خسر معركة لكنه لم يخسر الحرب بعد.
لكن التفاؤل اليوم استقرّ بشارع «سولفيرينو» حيث مقرّ الحزب الاشتراكي الفرنسي الذي يعرف فرنسوا هولاند كل أركانه وهو الذي شغل مهمة السكرتير الأول لما يزيد على العشر سنوات.
لم يتحمّل هولاند أية مسؤولية تنفيذية ولم يشغل خطة وزير لكنه نجح خلال حملته الانتخابية في أن يقلب الموازين ويحوّل غياب تجربته الوزارية الى مزيّة للتأكيد على إرادته في تحقيق التغيير.
«التغيير الآن» هو شعار فرانسوا هولاند الذي يعود نجاحه في هذه الجولة الأولى الى عوامل ثلاثة أولها دون شكّ حاجة الشعب الفرنسي الى التغيير بعد أن أرهقته خمس سنوات من سياسة التقشّف التي فرضها الرئيس ساركوزي والتي ترجمت على أرض الواقع بتدنّ متواصل للطاقة الشرائية وتفاقم البطالة وانحياز مفروض للسياسة الاقتصادية لألمانيا المعروفة بتشبّثها الأسطوري بعملة قوية على حساب التشغيل والمكتسبات الاجتماعية. أما العامل الثاني لنجاح هولاند فهو ذكاؤه بل دهاؤه السياسي الذي مكّنه من عكس اتجاه الحملة الانتخابية برمّتها لتكون حملة ضد الرئيس المتخلي نفسه تبرز ابتعاده عن الشعب الفرنسي وميله الى المظاهر البرّاقة والباهرة وتنكّره لعهوده ووعوده ومحاذاته لمصالح الأغنياء والأثرياء.
ويبقى العامل الثالث ولربما الأساسي الذي مكّن هولاند من كسب الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية متعلّقا ببرنامجه الانتخابي الجامع لستين مقترحا يحوم أهمها حول السياسة الأوروبية التي يدعو هولاند الى مراجعتها حتى تكون ملائمة لبعث المشاريع الاقتصادية وإتاحة فرص التشغيل خاصة للشباب وتحسين القدرة الشرائية وتوسيع قاعدة الموظفين في التعليم والعدل والمساعدة الاجتماعية.
إن معرفة فرنسوا هولاند بالجهاز الحزبي وتمكّنه منه ساعداه دون ريب في وضع خطة ناجعة للاتصال بكل جهات وفئات الشعب الفرنسي وتقديم خطاب هادئ ولكنه قاطع في ذات الوقت يتماشى وشخصية الرجل.
هولاند الذي تتلمذ على كبار زعماء الاشتراكية الفرنسية ومنهم بالأخص فرنسوا ميتران الرئيس الاشتراكي الأول والوحيد الى حدّ الآن لفرنسا وليونال جوسبان الوزير الأول الأسبق.
لقد انطلق هولاند في حملته الانتخابية منذ سنة كاملة وعقد مئات الاجتماعات الانتخابية معتمدا في المقام الأول على صورته الجديدة كرجل متواضع دون ضعة، قريب من الشعب دون تزلّف، أنيق دون بهرج، أي على طرفي نقيض مع منافسه ساركوزي وعلى عكسه تماما. ولم يكتف هولاند بصورته وإن كانت الصورة اليوم سلاح السياسي الأول، فقد نفذ الى قلوب الجماهير بفضل خطاب إرادي يقطع مع الاستكانة ويفتح أبواب الأمل.
لكن هولاند لم يصل بعد الى كرسي الرئاسة وإن خطا خطوة جادة نحوه، فمنافسه مقاتل عنيد ويزداد ضراوة حين يداهمه الخطر كما هو الحال اليوم. لذلك ستشهد الساحة السياسية على امتداد الأسبوعين المقبلين «صراعا داميا» بين المرشحين الاثنين وسيعمد ساركوزي الى مهاجمة هولاند مركّزا على قلّة تجربة الأخير في إدارة الشؤون العامة ومحدودية معرفته بالملفات الخارجية لا سيما أن فرنسا تسعى منذ سنوات الى استرداد دورها على الساحة الاقليمية والجهوية كما برز ذلك في الثورة الليبية.
مهمة ساركوزي تبدو عسيرة وقد يحتاج الي معجزة للحفاظ على كرسيه، المعجزة اسمها أصوات «الجبهة الوطنية» التي بدأ الرئيس المتخلّي في مغازلتها تحت أنظار مارين لوبان رئيسة هذا الحزب اليميني المتطرّف والتي أعلنت عداءها للرئيس ساركوزي وعزمها على الاطاحة نهائيا ب«الاتحاد من أجل حركة شعبية» حزب ساركوزي المضطلع بمسؤولية الحكم اليوم.
مارين لوبان هي أكبر مستفيدة من هذه الجولة الانتخابية الرئاسية الأولى بحصولها على حوالي 18٪ من أصوات المنتخبين وهي نسبة لم يحصل عليها حتى لوبان الأب مؤسّس هذا الحزب المتطرّف المعروف بمعاداته لعرب فرنسا ومسلميها وبدعوته المتكرّرة الى طرد المهاجرين وإيقاف العمل بالقوانين التي تمنحهم ذات الحقوق الاجتماعية التي يتمتع بها المواطنون الفرنسيون.
مارين سارت في حملتها الانتخابية على آثار أبيها وأطلقت خطاب رفض مطلق ينادي بالوقوف ضد العولمة والاتحاد الأوروبي والهجرة واستطاعت أن تجرّ ساركوزي الى مشاجرات هامشية ولكنها عدائية لكسب أصوات المهمّشين والسّاخطين والغاضبين على سياسة الحكومة وكل المتطرّفين على اختلاف مآربهم والتي بيّنت نتائج هذه الجولة الأولى أنهم أصبحوا يمثلون خمس شعب فرنسا.
ساركوزي سيحاول كذلك استجلاب أصوات حزب الوسط الذي يترأسه فرنسوا بايرو لقلب الدينامية الانتخابية التي تبدو في صالح المرشح الاشتراكي فرنسوا هولاند الذي ضمن هو الآخر ولاء أنصار «حزب اليسار» الذي يقوده جان لوك ميلوشان والذي حصل علي ما يزيد على 11٪ من أصوات الناخبين وكذلك أصوات حزب الخضر الذي يتجاوز نسبة 2.3٪.
كل المؤشرات تؤكد الفوز القادم لمرشح الحزب الاشتراكي الفرنسي فرنسوا هولاند.. وبداية عهد جديد للاشتراكية الأوروبية. فهل ستلبس فرنسا فستانها الوردي يوم 6 ماي المقبل، وللمرة الثانية في تاريخ الجمهورية الخامسة ؟