إن الصراع بين الإعلام والسلطة السياسية حقيقة ثابتة وديمومة تاريخية لم يخل منها جيل ولا أمّة ولا الأنظمة الديمقراطية أو الدكتاتورية لذلك فلا غرابة أن يتواصل ذاك الصراع عندنا قبل وبعد نجاح الثورة التونسية. إن هذا الصراع ثابت ودائم لأن ما يتوق له الإعلامي هو تكريس إعلام حر ومستقل محايد ونزيه على خلاف السياسي الذي يريد تكريس إعلام تابع يبرز السياسات ويمجّد البرامج حتى في أعرق الديمقراطيات ويكفيك أن تعود إلى التغطيات الإعلامية التي قامت بها قناة - الساي أن أن – الأمريكية لتبييض صورة الحروب الأمريكية في المنطقة العربية وسيطرة العسكريين ورجال المخابرات على الصورة والمعلومة التي يجب أن تنتشر للعموم لذلك صوّرت حروب التدمير على أنها حروب تحرير. لذلك فالإعلام الحر هو صانع الديمقراطيات وأوّل مدافع عن الحريات ، كاشفا للعورات وفاضحا لفساد السياسيين والمتنفّذين ومسقط الإمبراطوريات والدكتاتوريات لذلك فهو دوما معرّض للمضايقات والملاحقات والتتبعات في إطار سياسة تكبيل الأقلام وتكميم الأفواه وهنا تختبر قوة الإعلام فإما ثبات ومواجهة ورفع تحديات وإما خنوع وركوع وتبعية ومساومات: أما الإعلام التابع فهو فاقد لأي رسالة خائن للأمانة صانع وممّجد الدكتاتوريات متاجر بالحريات مستعطفا السّاسة مقابل أمان ذليل وأتاوى وجرايات وهبات من الدنانير والدولارات لستر العورات والزلاّت وتجميل الفساد وانتهاك الحرمات.
وحينئذ فلا غرابة أن يكون الإعلام سلطة رابعة ولكن ليس لها باب مستقل صلب دساتير العالم كالأبواب التي تخصص لسلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية ولربما تكون تونس أوّل دولة تكرّس صراحة صلب الدستور المرتقب بابا رابعا خاصا بالسلطة الإعلامية بعد الباب الأول والثاني والثالث المخصصين للسلطات الثلاث الأخرى .
لكن إذا كان الإعلام سلطة ، فإنه ليس كباقي السلطات لأنه سلطة دائمة لا تغيرها الانقلابات ولا الانتخابات ولا تدخل أصلا في التحالفات والحسابات والمزايدات والمحاولات ويداها طائلة إلى ما وراء الحدود والى ابعد المسافات فتنقد وتفضح وتكشف جميع السياسات في مشارق الأرض ومغاربها على خلاف باقي السلطات التي يتحدّد اختصاصها بإقليم الدولة التي تسوسه ولا يمكنها تجاوزه .
لذلك فالحب والودّ الدائم بين الإعلام والسلطة السياسية عادة ما يكون ضربا من النفاق الذي لا يخدم الديمقراطية أما الصراع فهو ظاهرة صحية مطلوبة لبناء أسس الحرية والعدالة الاجتماعية وبين هذا وذاك ترفع السلطة شعارها الشهير في وجه الإعلام إما أن تكون معنا وأطلب ما تريد وإمّا أن تكون ضدّنا وتحمّل تبعات ذلك – لذلك تستكثر السلطة القوانين والمراسيم المنظمة للإعلام ظاهرها حرية وباطنها زجرية لذلك ينشىء الصراع ويتجدّد ويدوم كدوام الصراع بين الموج والصخر فلا الموج تراجع عن لطم الصخر ولا الصخر ينسحب تفاديا للطم الموج وذلك في إطار المدّ والجزر.
غير أن الصراع بين الإعلام والسلطة السياسية لن يكون بنّاء ما لم يلتزم الإعلام برسالته الخالدة ومبادئه السامية فالإعلام الحر والمستقل لا يكفي إن لم يكن محايدا ونزيها .وهذا لن يتحقق إذا لم تكن المسافة الفاصلة بين الإعلام من ناحية والسلطة والمعارضة من ناحية أخرى متساوية لأن سلطة اليوم هي معارضة الأمس ومعارضة اليوم قد تكون سلطة المستقبل وهذا ما يجعل من الإعلام سلطة رابعة شعبية تخرج عن إطار السلطات الثلاث الأخرى السياسية لذلك تبقى دوما تدافع عن الحرية والعدالة الاجتماعية وتقيّم البرامج السياسية والاقتصادية وتبسط المشاكل الوطنية والجهوية بحسب الأولوية وتبلّغ صوت جميع الفئات الشعبية دون تمييز أو محاباة أو فئوية.
ختاما إما حرية وإما تبعية تلك هي إحدى نتائج الصراع بين السلطة والإعلام الذي يندرج في إطار الجذب إلى الخلف والدفع إلى الأمام وتلك هي أصل العلاقة بين السلطة والإعلام على الدوام.