راجت خلال الأيام الأخيرة من خلال وسائل الإعلام والاتصال نقاشات وجدل حول ما يسمّى « مجالس أو رابطات حماية الثورة « وأردنا أن ندلي بدلونا في الموضوع من خلال هذين النصين اللذين كتبناهما خلال شهر أوت وسبتمبر 2011 أي قبل ثمانية أشهر خلت حين كانت ظاهرة انتشار هذه الهياكل في أوجها وتؤدّي وظائف وأدوار هامّة وحيويّة ، مع المحافظة على الصيغة الأصلية للنص كما صيغت حينها بكل أمانة صحفية . ونردف في النهاية بتعليق إضافي بهذا التاريخ ( تاريخ نشر هذا المقال ) ونترك للقارئ الاستنتاج .
النص 1 أوت 2011 مجالس حماية الثورة.. بين الشرعية «الرمزية» والمشروعية «الضمنية»
ما فتئت المجالس المحلية والجهوية لحماية الثورة المنتشرة في كامل أنحاء البلاد التونسية ، والتي بادرت بمواقف وأعمال لأجل تنظيم «مشروع الثورة» المعلنة منذ 14 جانفي ومحاولة تنظيمها وتصحيح مساراتها وقد أنجز العديد من الأعمال طيلة الأشهر المنقضية ومازالت رغم بعض التعثرات والعراقيل هنا وهناك وحيث كثرت الانتقادات لأعمال بعض المجالس سواء كانت منها البناءة أو السلبية التي في رأينا لا تجد في النقد سوى عدم الرضاء أو عدم تقديم البدائل ، كما أن رضاء جميع الناس غاية لا تدرك ، ونريد من خلال هذا المقال المختزل والذي يحتاج إلى التعمق التحليلي ، أن نبين ما يمكن أن نجنيه من نتائج تفيدنا خلال هذه المرحلة السياسية الانتقالية بإبراز الجانب المملوء من الكأس بخصوص نظرتنا لهذه المجالس .
مجلس حماية الثورة .. خطوة نحو الوفاق ..
تجمع مجالس او هيئات او لجان حماية الثورة أفرادا يتميزون بالاختلاف في العديد من الخصوصيات والمتغيرات ..متغير السن حيث تجمع مختلف الأعمار دون أن يقع ذلك بشكل انتقائي ومتغير الجنس ومتغير الانتماء الطبقي والانتماء السياسي والحزبي ، هي طاقات لا يستهان بها يبحث كل طرف عن إبراز إمكانياته وتوظيفها لخدمة المجموعة وهو وفاق نحن في أمس الحاجة إليه خلال هذه المرحلة التي تسبق انتخابات 23/أكتوبر والمرحلة التي ستليها حيث سنكون بحاجة إلى هذا الوفاق قبل حتى حاجتنا إلى الحكومة وبقية السلط المنظمة للحياة السياسية اللذين سنختارهم . المجالس والنضج التنظيمي ..
من حيث طرق الحوار وأساليبه بين أطراف لم يكن بإمكانها أن تلتقي وتتحاور وتتفاعل وتطرح مشاغل وتبحث عن مخارج للأزمات وتقترح الحلول والبدائل ، هو نضج في التعامل مع الهياكل المنظمة للسلط وهو نضج في التعامل مع الحكومة وممثليها وهو نضج وتعوّد على ربط الصلة بين الدولة والمجتمع ، هذه الحلقة التي ظلت مفقودة ليس في بلدنا فقط بل هو الشأن لكل البلاد العربية وهو تمفصل ضروري لإرساء الدولة المدنية والوطنية والقوية وإرساء أسس قنوات التواصل بين كلّ هؤلاء الفاعلين في الشأن العام . المجالس والسلطة المضادة كما تؤسّس مجالس حماية الثورة لسلطة مضادة مهيكلة تحذق التعامل مع هياكل الدولة ومؤسساتها وتمارس وظيفة الرقابة الأدبية على الأقل والمدنية للمؤسسات الشرعية والقانونية حتى وان كانت منتخبة ، وسيبرز هذا الدور أكثر في القادم من المحطات السياسية.
لقد اتضح لنا من خلال الانتقادات التي توجه من حين لآخر وهنا وهناك حيث تتواجد المجالس المحلية والجهوية لحماية الثورة بان المشكل ليس في المجالس في حد ذاتها كإطار للعمل المحلي الاجتماعي والسياسي بل في الأفراد المكوّنين للمجالس ومدى تمثيليتهم للجهات ولمدنهم وغير ذلك من المآخذ ، وهو في رأينا مآخذ مفتعلة ، يدفعنا إلى التساؤل عن المشروعيات التي بها تتفاعل المجموعات في ما بينها من خلال المخزون الثقافي والاجتماعي الذي لا يزال يعشّش ضمن حياتنا اليومية بصفة معلنة أو مستبطنة ، فمشروعية شيخ أو «كبير الحومة» أو الحي أو الدوار مثلا الذي «يذعن» له الجميع احتراما وتقديرا( الظاهرة التي كانت سائدة أكثر في بلادنا وخارجها) يتم طوعيا دون شرعية ودون تقنين ما حيث يصل نفوذه إلى حد البت في العديد من الوضعيات الاجتماعية وفي التعاملات والتبادلات كمسائل الإرث والزواج والمصاهرة والطلاق .
كما أن عمليات التبادل المالي بين العائلات ضمن نظام الزيارات خلال مناسبات التهنئة والزواج والختان والنجاحات والأفراح عموما لا تخضع لقوانين مالية بالرغم من إلزاميتها ضمن نظام رمزي ماليّ تبادليّ صارم داخل مؤسسة العائلة الكبرى والجيرة . إن الشرعية المنشودة هنا لمجالس حماية الثورة هي شرعية رمزية تستمد مشروعيتها من النتائج التي تحققها ومن مدى الوصول إلى الأهداف التي رسمتها ومن أخلاقيات التوافق وقواعد العيش المشترك التي ترقى فوق كلّ المرجعيات التشريعية و القانونية ، دون أن تلغيها ، خاصة وان وجودها ظرفيا وانتهاؤها ينتهي بتحقيق أهدافها حين يقع انتخاب المجلس الوطني التأسيسي الذي لا يمكنه أن ينجح في تحقيق أهدافه إلاّ ضمن وفاق وعقد اجتماعي أخلاقي أيضا ، فعندما نردّ على تحيّة بالمثل أو بأحسن منها لن نحتاج إلى منشور أو قرار أو مرسوم أو قانون لفعل ذلك .
والمطلوب خلال هذه المرحلة التوجه نحو إنشاء هذا الوعي والفكر التوافقي الذي لا يمكن أن نصله إذا لم تساهم جملة مؤسسات المجتمع المدني في بنائه ، كالتربية الأسرية ، والمؤسسة التعليمية ، والصفحة الأولى للجريدة ، واللقاءات التلفزية ، والجمعيات ، والأحزاب .
لأجل هذا أردنا النظر إلى النصف المملوء من الكأس ونحن نتحدث عن مجالس حماية الثورة التي يعود إليها الفضل في تنشيط الحياة السياسية وإحداث التوازنات الاجتماعية خلال فترة الفراغ التي ظهرت حين تنحى النظام السابق الذي كان جاثما بكل ثقله على كاهل الدولة والمجتمع .
النص 2 سبتمبر 2011 لجان حماية الثورة: بدأ دورها ..
الآن وقد أصبح وطننا حظيرة مفتوحة « شانطي» للإصلاح تتطلب يد معونة من كلّ نفر فيه وبمساهمة كلّ قواه من رجال أعمال ..ورجال سياسة.. ورجال فكر..ورجال أمن..وجيش ..وعمّاّله..وبطّاليه ، كلّ من موقعه .
فالعاطل لا بدّ من المساهمة بصبره وبحثه الرصين عن موطن شغل لاحق وقد لا يلحق الدور جميع طالبي الشغل الحاليين نظرا لاستحالة ذلك لكلّ المعنيين ، والعامل والموظّف بالساعد أو الفكر بمثابرته وتكثيف الجهد والمبادرة والإضافة الطوعية ، ورجل السياسة بتقبّله للآخر وعدم الانغلاق في بوتقة مصلحة الحزب أو الكتلة ، ورجل الأعمال بحواره مع عماله وشغّاليه والصبر على الحملات المغرضة الزارعة للفتن .
خلال هذه الفترة الدقيقة التي بدأت تفتح فيها كلّ الملفات وتتساقط أوراق التوت كاشفة عن المستور والمخفيّ .
الآن بات ضروريا وجود هيكل معدّل لكلّ هذه التجاذبات مجمّع لأفراد محليين كانوا في الصفّ الأوّل عند انطلاق الثورة وعند الدفاع عن تواصلها ومسارها أيام 14 ، 15 ، 16 جانفي والأيّام الموالية .ولأنّ لكلّ سفينة ربّان ولأنّ « ثورتنا « كانت نموذجا « غريبا « فريدا في تلقائيتها ، كان لا بدّ من ظهور النخبة – بالمعنى الأشمل للكلمة – لقيادة السفينة نحو برّ الأمان وحفظا للتوازنات فلا يمكن أن نعيب على المثقّف أو النقابي أو السياسي أو الواعظ أو المتحمّس وجودهم أمام المقود حتّى لا تتيه المركب في انتظار هدوء العاصفة - وسوف تهدأ – واتضاح الرؤية وهدوء الأمواج . فكيف يمكن ان ننادي بانتهاء دور المجالس والهيئات واللجان لحماية الثورة وهي صورة جدّ ناصعة لمفهوم « المحلّي « le local حيث تنطلق عملية الانتقال الديمقراطي الحقيقية .
ودوره في خلق توازنات مؤسّسات المجتمع ومؤسسات الدولة والسيادة في نفس الوقت خاصّة خلال بعض الفراغات التي تركتها .
إنّ نظرتنا للأشياء خلال هذه المرحلة يجب أن تكون ثاقبة ، تلتفت إلى الوراء وتمعّن وتدقّق في اللحظة وتنظر بعيدا إلى اللحظة القادمة ، حينها يمكن أن نحكم على بداية أو نهاية دور هذه الهياكل التلقائية في نشأتها التوافقية في طريقة عملها وما أحوجنا إلى هذا المفهوم خلال هذه المرحلة الانتقالية.
التلقائية التي تكوّنت على أسسها هذه المجالس وتوحّد أهدافها رغم تنوّع أدوارها حسب خصوصيات كلّ مجلس والجهة التي يوجد بها ، هي التي على أسسها يجب أن تترك هذه المهمّة : حماية الثورة لمؤسسات الدولة وهياكلها الشرعية وأن يواصل الفاعلون أدوارهم في حماية الثورة وإتمامها من خلال مؤسسات اجتماعية ومدنية وفي مجالات متعددة : كالأسرة والمدرسة والمنظمات ومكان العمل ، حتى تتكامل الأدوار ولا تتضارب الوظائف بين مؤسسات الدولة ومؤسسات المجتمع ، فالثورة تحميها الدولة «الثورية» من خلال مؤسساتها الثورية من سلطة تشريعية وتنفيذية ( الحكومة والجهاز الأمني ) والجهاز الدفاعي .
إنّ قدرة المناضل (حامي الثورة ) في التأقلم مع المرحلة الثورية التي يمرّ بها المجتمع وتفاعله مع «متغير» الزمن إيجابيا في اتخاذ الموقف المناسب للمرحلة المناسبة هو الكفيل بهذه المهمة ، مهمّة حماية الثورة، فحلّ هذه المجالس أو اللجان خلال هذه المرحلة لا يجب أن ينظر اليه من باب ازدواجية الخطاب أو عدم الثبوت على المبادئ الثورية ، بل هو القدرة على التطور والاقتراب من الواقع ومصالحته بدل التعالي عليه والتحليق فوقه .