تختزن الذاكرة الجماعية للشعب التونسي فصولا ملحمية من تاريخه النضالي المشرق ضد الاستعمار الفرنسي. فصول كان أبطالها رجال أفذاذ سخّروا حياتهم وعرقهم ودماءهم للذود عن حمى الوطن والدفاع عن حريته وكرامته وسيادته. وعندما يحضرني الحديث عن تاريخ كفاحنا الوطني في النصف الثاني من القرن الماضي تقفز إلى الأذهان ملحمة معركة رمادة الخالدة لتستحضر من رحمها واحدا من أبرز رجالات الوطن الذين ساهموا في تاريخ الحركة الوطنية وبالخصوص في هذه المعركة الخالدة التي قدر له أن يستشهد فيها وهو في أعز حياته.
وبالرجوع إلى مذكراتي الشخصية اخترت ما سجلته حول استشهاد القائد مصباح بن صالح المولود سنة 1914 ببني خداش وكان ذلك بمناسبة زيارة الزعيم الحبيب بورقيبة إلى معتمدية بني خداش في أواخر سنة 1958 وذلك على إثر استشهاد مجموعة شهداء المعركة رحمهم الله بتاريخ 25 ماي 1958 وما حفّ بها من ظروف. لقد ترك الشهيد كمية من الأسلحة بمسكنه كانت مجمعة لديه من مخلفات معارك التحرير سنة 1952 إلى سنة 1955 التي لم تسلم إلى لجنة استلام أسلحة مقاومي 1952 1955 وقد اغتنم المقاومون فرصة هذه الزيارة لتسليمها لبورقيبة مباشرة كهدية رمزية وعربون حسن نية وولاء.
قدمت إليه مرتبة على متن سيارة صحبة بعض المقاومين يتقدمهم ابن الشهيد خليفة لمصافحة الزعيم رافعا بين يديه رشاشا عصريا ممتازا، فانشرح بورقيبة لذلك انشراحا ملحوظا أزال عن نفسه ما كان ربما يحمله من انحياز أبناء الجهة إلى عدوه صالح بن يوسف.
ثم دعي
الجميع إلى بهو المعتمدية للحديث بإطناب عن فضائل أهل الجهة وصدقهم وشجاعتهم ونضالهم ووطنيتهم الصادقة وختم كلمته بالترحم على روح القائد مصباح ثم صافح أبناءه قائلا: لا بد أن من كان يحمل هذا الرشاش أثناء المعارك مقاومان أو أكثر.
فقام له المناضل عبد الستار العاشوري اللملومي رحمه الله قائلا ما معناه سيدي الرئيس يستقبلك اليوم مواطنو بني خداش رجالا ونساء بفرح وبهجة، بعد أن وقعت أحداث أليمة بهذه الجهة وغيرها لكن انتصاراتكم المتكرّرة على الاستعمار سواء بحصول تونس على الاستقلال التام بأيسر الطرق أو الجلاء عن رمادة وغيرها.
هذه الانتصارات جمعت الأمة على سداد رأيكم وإن كان لا بد بعد كل هذا أن تحصل بعض التجاوزات فكان انتصاركم عليها بسعة صدركم وحنكتكم وهكذا كان عفوكم أعظم.
إن للأشخاص الذين عارضوكم البعض منهم من هذه البلدة هم الذين استجابوا لندائكم سنة 1952 لحمل السلاح ضد المستعمر وأنهم حشروا حشرا بأساليب تتجاوز أفكارهم المحدودة وأحدهم لم يكن له علم بهذه المؤامرة وهو الذي كان يحمل وحده ذلك الرشاش الذي روع به طائرات العدو في كل معارك التحرير الأولى سنة 1952 إلى سنة 1955 والآن في السجن بتهمة ضلوعه في تلك القضية وهو مظلوم.
فسأل الرئيس بورقيبة بعد انزعاجه مما سمع عن اسم هذا المتهم فقيل له المسمى علي بن عمار المحضاوي عون بالحرس الرئاسي وهو في السجن بلا محاكمة. ولزيادة التوضيح عن ملابسات تلك المؤامرة التي حشر فيها عما يزيد عن خمسين متهما باغتيال بورقيبة بالمسرح البلدي بالعاصمة غير أنها تبلورت أكثر عندما ألقى القبض أعوان الديوانة على المسمى صالح النجار أصيل جربة قادما من طرابلس على متن دراجة نارية وبحوزته مجموعة من الرسائل موجهة من بن يوسف إلى أنصاره بتونس ومما جاء في أحدها أن مهمة اغتيال بورقيبة بالمسرح البلدي تكفل بتنفيذها المسمى علي بن بلقاسم الزموري (شهر العنلي) مع الطاهر المهداوي ومحمد بن يحيى زكري ثلاثتهم من بني خداش ولم يكن من بينهم علي بن عمار المحضاوي. وختمت زيارة الزعيم بقرارات حاسمة أهمها في الميدان السياسي بإبطال وإلغاء ما سمي بلجان الرعاية في الميدان الاجتماعي بصفة عامة تم الحث على التعليم وخاصة للبنات وتطبيق قانون إجبارية التعليم موصيا أعوان الحرس الوطني بتطبيقه بكل شدة. وضرب ببني خداش المثال بإحدى خطاباته الأسبوعية عندما تقلصت نسب الجهل وعم التعليم.
اليوم وقد مرت 54 سنة على استشهاد البطل مصباح الجربوع تتفتّح الذاكرة لتروي للأجيال فصولا من بطولات لبناء هذا الوطن المفدى في معارك الكفاح الوطني وملاحم الشرف وساحات التضحية.