جرت متغيرات في أكثر من بلد عربي، تونس، ليبيا، اليمن ثم مصر التي كانت ثورتها ثاني ثورات الربيع العربي التي ابتدأت من تونس. وكان الجيش التونسي قد لعب دورا مهما في الحفاظ على أمن البلاد وعدم انجراره الى تنفيذ ما أراده منه حاكم تونس المخلوع والهارب، وهذا متأتّ من أن تربية هذا الجيش وعقيدته كانت للبناء، وليست للقمع، هنا أذكر أمرا قريبا شاهدته بعينيّ أخيرا والمتمثل بالحاجز من الأشجار الذي يمتدّ على عدة كيلومترات يحمي واحة نفطة التي تضم أكثر من مليون نخلة، وقد شرح لنا الصديق الروائي ابراهيم درغوثي حقيقة هذا الحاجز الحامي وذكر بأن الجيش الوطني التونسي هو من بناه ليحمي هذه الثروة الوطنية التي تدرّ علي البلاد مبالغ كبيرة من العملة الصعبة.
لكن جيوش معظم بلدان المشرق العربي ليست هكذا بل هي جيوش مسيّسة، وأنها في خدمة الحاكم وكانت الأداة في معظم الانقلابات العسكرية التي عندما ننظر إليها بعد سنوات من حصولها سنتأكد بأنها أجهضت التطور الديمقراطي الهادئ في عديد البلدان التي كانت تعد بالديمقراطية، كما أن كل انقلاب يغري بانقلاب آخر عليه وهكذا يتبدل الحكام وتتصارع المدافع والدبابات وتعود البلدان سنوات الى الوراء.
وربما في الحالة المصرية يبدو واضحا للعيان أن مبارك عندما أدرك أن انسحابه من الحكم قد أصبح أمرا لا مهرب منه عيّن رئيس مخابراته عمر سليمان نائبا له، ثم منحه كل صلاحياته ولكن الثورة بوجهه كانت كاسحة وتنشد إسقاط نظامه وليس تنحّيه هو فقط، والحكاية معروفة بتفاصيلها إذ عشناها ساعة بساعة ولا أقول يوما بيوم. كأن حسني مبارك قبل مغادرته أراد أن يزرع عامل تفجير لا بدّ وأن يربك المسار السياسي ومكاسب الثورة التي حلت حزبه وحاكمت بعض قيادات هذا الحزب وبينهم هو شخصيا وولديه ووزير داخليته وبعض رجال السياسة والاقتصاد الذين خرّبوا وعاثوا فيه فسادا. عامل التفجير هذا تمثل بتركه قيادة البلاد لمجلس عسكري يضم كبار الضباط في الدولة المصرية من وزير الدفاع الى القادة الكبار.
ولم يكن الشعار الذي رفعه المتظاهرون في ميادين الثورة والحرية والقائل (يسقط يسقط حكم العسكر) شعارا مرتجلا عبثيا بل هو شعار ذكي عرف رافعوه أن هؤلاء العسكر وهم عسكر مبارك سيتعاملون بنفس طويل مع الثورة وشبّانها وجماهيرها وما أفرزته من أحزاب وما أبرزته من قيادات، ثم كانت الانتخابات البرلمانية التي حصل فيها الاسلاميون على النصيب الأكبر.
ثم جادت الانتخابات الرئاسية في دورتها الأولى التي أبعد عن خوضها عمر سليمان نائب مبارك وأحمد شفيق رئيس وزراء آخر حكومة أطاحت بها الثورة، لكن الحكم القضائي أعاد أحمد شفيق الى سباق الرئاسة ولم يشمله قانون العزل السياسي، وكانت المفاجأة أكبر عندما جاء ترتيبه الثاني بعد الدكتور محمد مرسي رئيس حزب الحرية والعدالة. وبهذا تفوق على شخصيات سياسية مصرية مهمة أمثال أبو الفتوح وحمدين صباحي وعمرو موسى.
لكن كل القضايا القضائية التي رفعها هؤلاء ضد أحمد شفيق (وهو عسكري برتبة فريق طيّار) وخاصة أبو العينين وحمدين صباحي والأخير طالب بإعادة الانتخابات، أقول كلها لم يؤخذ بها وثبّت اسم أحمد شفيق في خوض الدورة الثانية من الانتخابات الرئاسية التي ستبدأ اليوم (السبت) وغدا (الأحد) بين شفيق والدكتور محمد مرسي. ثم كانت الضربة القاضية التي عدّها بعض المعلقين انقلابا عسكريا ناعما عندما قضت المحكمة الدستورية العليا المصرية يوم الخميس الماضي بحل مجلس الشعب المصري ثم عدم شرعية قانون العزل. وهذا يعني بقاء أحمد شفيق في المنافسة.
هنا تنادى الثوار لعدم الرضوخ لهذا الذي يجري إذ أن ثورة 25 يناير التي أسقطت نظام مبارك بشرعيتها الثورية ها هو حكمه يعود بالشرعية الدستورية، يحصل هذا وخاصة إلغاء مجلس الشعب وكأنه لم يكن مما يعني ان السلطة التشريعية سيتسلمها المجلس العسكري، وما أصدره وزير العدل في حكومة الجنزوري الحالية الذي هو الآخر كان أحد رؤساء الوزارة في عهد مبارك من منح صلاحيات لرجال الشرطة باعتقال الناس، كل هذا لم يكن مرتجلا كما يبدو بل كان مخططا له من أجل الوصول الى مثل هذه اللحظة.
فمصر اليوم بدون برلمان، والسؤال هنا أمام من سيؤدي الرئيس المنتخب اليمين الدستورية؟ ومن الواضح أن ذلك سيكون أمام المجلس العسكري الذي استعاد السلطة التشريعية التي كان قد سلمها للبرلمان، كما أن هذا يعني أن الرئيس الجديد سيكون بسلطات مطلقة، ولا أحد يدري ماذا سيفعل مادام العسكر معه، ومادامت إدارة مبارك لم تتغير هي هي، إلا في بعض الحدود «التجميلية».