الحكومة تسلّم رئيس الوزراء الليبي السابق البغدادي المحمودي، ورئيس الجمهورية يتخذ قرارا يقضي بإنهاء مهام محافظ البنك المركزي... قراران أثارا جدلا بخصوص تنازع الصلاحيات وتأويلات متعددة حول مصير «الترويكا» بعد هذه الزوبعة. المعارضون لقرار تسليم المحمودي والمتحفّظون على مقترح إقالة المحافظ يعتبرون أنّ هذه القرارات المتسارعة تنمّ عن تسرّع وتخبّط في أداء «الترويكا» بل وعن انعدام تنسيق بين الشركاء في الحكم أو تجاوز البعض لصلاحيات البعض الآخر، وذهب شق من المعارضة إلى حدّ المطالبة باستقالة المرزوقي، في حين أنّ مكونات «الترويكا» وخصوصا حركة «النهضة» وبدرجة أقل التكتل سعت إلى التهوين من شأن هذه الخلافات وإلى تبرير ما أقدمت عليه «الحكومة الشرعيّة» بل إنّ بعض نواب المجلس التأسيسي عن حركة النهضة رأى في هذين القرارين دليل تماسك «الترويكا» وقوتها على الرغم من الجدل الذي ثار بشأنهما.
توظيف سياسي
وكغيرها من «الأزمات» والمواضيع الخلافية السابقة كانت مسألة تسليم المحمودي خصوصا مجالا للمزايدات والتوظيف السياسي، ومثلت مظهرا من مظاهر التجاذب بين الائتلاف الحاكم والمعارضة.
فقد قال رئيس كتلة حركة النهضة في المجلس التأسيسي الصحبي عتيق «إن ما تفعله المعارضة من أجل من وصفه بالمجرم البغدادي المحمودي لم تفعله من أجل جرحى الثورة».
وأضاف أن قضية البغدادي المحمودي تكاد تكون أزمة كبيرة رغم أنها لا تتعلّق بشأن قضية داخلية سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية مبديا استغرابه لحجم التوتر في صفوف المعارضة الذي صاحب تسليم المحمودي إلى ليبيا.
واعتبر الصحبي عتيق أن انسحاب نواب المعارضة من الجلسة التي عقدها المجلس التأسيسي الثلاثاء الماضي لا يشرّف المعارضة موضحا أنه تمت خلال هذه الجلسة مناقشة مسائل ذات أولوية كبرى تتعلق بالشأن الاقتصادي.
ومن جانبه اعتبر النائب في المجلس التأسيسي عن حركة النهضة أسامة الصغير أنّ قرار المرزوقي إقالة محافظ البنك المركزي يعتبر «أقوى ردّ» من الائتلاف الحاكم يدلّ على قوة الانسجام بين الرئاسات الثلاث، معتبرا أنّ المحافظ مصطفى كمال النابلي «له نوع من السياسات المختلفة عن اتجاه الحكومة في الوقت الذي كان ينبغي أن يكون له عمل إداري».
وأوضح النائب أنّ «أصعب شيء في الدستور الصغير، أو قانون التنظيم المؤقت للسلط العمومية، هو تغيير محافظ البنك المركزي، لأنّ تغيير رئيس الجمهورية يتطلب الأغلبية المطلقة وكذلك الإطاحة بالحكومة او حتى تغيير رئيس المجلس يتطلب الأغلبية المطلقة، أمّا تغيير محافظ البنك المركزي فيتطلب التوافق بين الرئاسات الثلاث وتتم المصادقة عليه بأغلبية النصف زائد واحد».
وتابع الصغير قوله «هذا ردّ لمن كان يعتقد أنّ الحكومة ستسقط والترويكا ستنهار» موضحا بخصوص قضية تسليم المحمودي أنّه «كان هناك اختلاف في المعلومات وتبيّن أنّ المرزوقي كان موافقا على التسليم وما حصل أنه كان مسافرا يوم الأحد ولم تصله المعلومة، وبالتالي ليس هناك اختلاف في المصالح ومن يقول إنّ المرزوقي سيستقيل نقول إنّ المرزوقي والجبالي اتخذا أصعب قرار بما يتيحه الدستور الصغير الذي يحكم تونس اليوم».
قراءة أخرى
وفي المقابل يصرّ البعض على أنّ هناك «اتفاقيات اقتصادية مستقبلية بين تونس وليبيا في مجال النفط، كانت وراء تسليم البغدادي المحمودي. وحسب هذه المصادر «لا يمكن تفسير تسليم المحمودي بالصفقة الاقتصادية فقط، بل من الواضح أن النهضة أرادت أن ترسل مجموعة من الرسائل إلى المكونات السياسية في تونس، أولاها تخليها عن منصف المرزوقي، الذي يبدو أنه أصبح عبءا عليها بعد شروعه في حملة انتخابية مبكرة، مستفيداً من انعدام صلاحياته، وبالتالي برأته من أي مسؤولية عن الوضع الاجتماعي والاقتصادي، كما أنها تسعى إلى الخروج من العزلة، عبر تفكيك التحالفات الواسعة ضدها، وخاصة بعد بروز الحزب الجديد (حركة نداء تونس)، الذي قد يشكل تحالفاً انتخابياً مع خصوم النهضة».
وتابع أصحاب هذا الرأي قولهم إنّ «النهضة» اختارت، بهذا القرار، التخلي عملياً عن حليفها، بعدما انقسم حزبه الى حزبين وفشله في إقناع الشعب التونسي بأنه قادر على أن يكون رئيساً لكل التونسيين وليس مجرد «ساكن» في قصر قرطاج، كما وصفه أحد أنصاره القدامى.
وترى أطراف في المعارضة أنّ قرارات الائتلاف الحاكم تعبّر عن حالة عجز عن إدارة شؤون البلاد، وهي بذلك تعمل على كسب «نقاط» في سياق «معركتها» مع الحكومة من خلال تأكيد صواب طرحها واقتراحها تشكيل حكومة إنقاذ وطني، ولم تدع المعارضة حادثة تسليم المحمودي وأيضا قرار عزل المحافظ دون إبداء سخطها على الأداء الحكومي والترويج لفشل هذه الحكومة وعدم أهليتها لقيادة المرحلة.
وقد عبّر القيادي في الحزب الجمهوري أحمد نجيب الشابي عن «ذهوله» لقرار إقالة محافظ البنك المركزي واعتبر انّ ذلك سيسبب أزمة مؤسساتية جديدة في البلاد بعد أن كانت تعاني أزمة أمنية، داعيا المجلس التأسيسي إلى عدم الانسياق وراء هذا القرار وإلى دعم استقلالية البنك المركزي.
واعتبر حزب العمال الشيوعي التونسي أنّ «كثرة قرارات الائتلاف الثلاثي الحاكم الخاطئة وغير المدروسة وغير المسؤولة خلال المدة الأخيرة تؤكّد انعدام وحدة الفريق الحاكم ووجود أزمة كبيرة قد تؤدّي إلى أزمة حكم تتحمّل مسؤوليتها الترويكا التي لا يمكن أن تُدخل البلاد في حالة فوضى».
ورأى الحزب أن «أطراف الترويكا يعتدي بعضهم على صلاحيات البعض وهو ما يدلّ على وجود فوضى عارمة تثبت يوما بعد يوم أنّ الترويكا غير جديرة بالحكم». وفي السياق ذاته دعا رئيس حزب التحالف الوطني محمد جغام الشعب التونسي إلى تنظيم وقفة أمام المجلس الوطني التأسيسي احتجاجا على قرار رئيس الجمهورية إقالة محافظ البنك المركزي مصطفى كمال النابلي.
واستنكر جغام ما اعتبره «خطوة غير موفقة» اتخذها رئيس الجمهورية بإقالة المحافظ. وبصرف النظر عمّا إذا كانت قرارات «الترويكا» تندرج في سياق الأخطاء التي لا يمكن تبريرها أو المضي فيها أو أنها ناجمة عن نقص في التنسيق وفي الخبرة بالعمل السياسي فإنّ قراءة عقلانية تؤكّد أنّ ما يجمع الترويكا أكبر بكثير ممّا يفرّقها وأنّ ما ذهب إليه البعض من أنّ الانقسام حاصل والانهيار بات وشيكا إنما يدخل في باب التمنّي الذي يريد أصحابه إسقاطه على الواقع، حسب ما يرى محلّلون، وهذا يعني أنّ الأخطاء والخلافات هي علامة صحية ودليل ممارسة ديمقراطية ومؤشّر على متانة العلاقات أكثر ممّا هو مؤشر على تصدّعها.