هل أصبح ال«فايسبوك» فضاء للفتنة والتشهير وتشويه الخصوم وتصفية الحسابات السياسية وتكريس الاستقطاب؟ وأية حلول قانونية للتعاطي مع «جرائم الفايسبوك» خاصة أنّ أقطاب السياسة يجيّشون أنصارهم ولا يدعون وسيلة إلاّ استخدموها ؟ ومنذ الأيام الأولى من اندلاع «ثورة 14 جانفي» كان للفايسبوك دور وصفه مراقبون بأنه حاسم وفاعل في التأثير على سير الأحداث وصولا إلى إسقاط الرئيس السابق زين العابدين بن علي وهروبه من تونس حيث كانت مختلف الحساسيات السياسية في خندق واحد وتدافع عن هدف واحد وتسعى إلى تحقيق غاية واحدة وهي التخلص من الدكتاتورية، ولكن شيئا فشيئا تحوّل هذا الفضاء العمومي إلى منبر للتجاذبات السياسية وتكريس الاستقطاب الثنائي وبدا أنّ كل طرف حزبي يدفع بأنصاره نحو اتخاذ هذا الفضاء منصّة لإطلاق النار على خصومه وتشويههم وبث الأخبار الزائفة التي تسيء إليهم.
استقطاب حادّ
هذا التوجّه ازداد حدّة بعد انتخابات 23 أكتوبر 2011 وبعد أن اتخذ المشهد السياسي بعدا جديدا من الاستقطاب بين ائتلاف حاكم تقوده حركة النهضة ومعارضة متعدّدة الفصائل والتلوينات لكنها تلتقي عند كشف عيوب الفريق الحاكم وأخطائه وزلاته والبناء على ذلك لكسب نقاط في معركة سياسية تُدار بامتياز من طرف انصار الفريقين في هذا الفضاء الالكتروني.
وقد استحدث كلّ فريق طرقا في تشويه الطرف الآخر فتم بعث صفحات خاصة منها ما يدافع عن سياسة الحكومة وتوجهاتها أيّا كانت ومهما بدت لدى العامة خاطئة أو غير ذات جدوى ويخوّن المعارضة ولا يقبل الاستماع إلى ما تقول، ومنها ما يتحامل على الحكومة بصرف النظر عن الخطوات الإيجابية التي تتخذها ويتهمها بالعجز عن إدارة البلاد وعن إيجاد حلول للمشاكل التي من اجلها قامت الثورة.
ولكن الخطير في كلّ ذلك أنّ هذه الصفحات لا تتردّد في نشر الاخبار الزائفة التي تهدف إلى إرباك الخصم، لكن تداعياتها قد تكون كارثية، فمنذ تسليم رئيس الوزراء الليبي السابق البغدادي المحمودي إلى السلطات الليبية قبل نحو أسبوع وصفحات الموالاة للحكومة تنظّر لصواب هذا التوجه وتعمل على كشف ما سمته «جرائم» المحمودي التي يجب محاسبته عليها من طرف الشعب الليبي وبالتالي فإن قرار التسليم في محلّه ولا معنى لكل ذلك الجدل الذي ظهر نتيجة هذه الخطوة بما أنّ الرجل لا يستحق الدفاع عنه، من منظور هؤلاء... وفي المقابل لم تتردّد الصفحات القريبة من المعارضة في نشر أخبار وإشاعات عن وفاة المحمودي في اليوم التالي لتسليمه إلى السلطات الليبية، بل إنها تحدثت عن تهديدات تلقاها التونسيون المقيمون في ليبيا من طرف منتمين إلى قبيلة المحمودي، وهذا ما يسبب ألما نفسيا كبيرا للتونسيين المقيمين هناك، ويسبب حالة من الارتباك على حركة التنقل بين تونس وليبيا من كلا الجانبين. وقبل هذه الحادثة كان للفايسبوك «يد» في الأحداث الخطيرة التي عرفتها تونس قبل أسابيع على خلفية معرض العبدلية وما راج عن أنّه تضمن رسوما مسيئة للمقدسات، وما استتبع ذلك من ردود فعل غاضبة حركتها الحماسة واستغلتها اطراف أخرى للتخريب وتصفية بعض الحسابات والتستر على ملفات فساد وما إلى ذلك. وتوجد عدة صفحات تبدي تعاطفها سواء مع الحكومة او مع المعارضة وتعمل في سبيل ذلك بكل الوسائل ولو كلفها ذلك النزول إلى أدنى مستويات التعاطي مع الآخر، ومن بين هذه الصفحات «وزير ضغط الدم والسكر» و«حزب أم البوية» و«صقور النهضة» و«معا من أجل إرجاع الشيخ راشد الغنوشي إلى لندن» و«أرسي دي ديقاج» وغيرها...
انعكاس للواقع المتدني
واعتبر أستاذ علم الاجتماع ماهر تريمش أنّ الفايسبوك يؤشّر على مستوى أخلاقيات التعامل السياسي في تونس، ليس فقط بين الاحزاب بل بين الأفراد والجماعات (ممثلي هذه الاحزاب والمنظمات) وهو مستوى متدنّ جدّا، مضيفا أنّ ظهور العنف في الفايسبوك هو مؤشر لضيق الحقل السياسي وضيق المجتمع المدني ووجود أزمة في هذا المجتمع، بمعنى أنه ليس هناك تشكل جيّد لهذا الحقل وقواعد لعبة واضحة لكل الفاعلين السياسيين، وهذا ما تسبب في الوصول إلى هذا المستوى المتدني بشكل غير مُمَأسس. وأضاف تريمش أنّ «ما نراه من مستوى للحوار في الفضاء الافتراضي هو انعكاس لما يحصل خارجه أي في الواقع، فالحقل السياسي لا يزال متّسخا كثيرا والفاعلون السياسيون لم يشكلوا حقلا سياسيا نظيفا وأخلاقيا يرقى بالتعامل وأساليب الحوار، كما أنّ هناك الكثير من التونسيين الذين يجدون انفسهم خارج هذا الحقل تماما فيخلقون لأنفسهم حقلا افتراضيا يمارسون فيه هذا العنف، وهو حقل لا قواعد فيه ولا أخلاقيات، خاصة أنه غير مقنّن، ونحن لا نزال في بدايات تقنين الجريمة الالكترونية». وتابع الأستاذ تريمش قوله «قانونيا هناك صعوبة في تعريف الجريمة الالكترونية، وهو ما انجرّ عنه هذا التسيّب».
وقدّم الأستاذ منذر الشارني من جهته قراءة قانونية لانعكاسات استعمال الفايسبوك للتشهير وتشويه الخصوم، قائلا إنّ الفايسبوك هو فضاء اجتماعي مفتوح وكل من يتعرض فيه للسب والشتم والقذف والتشهير يمكنه اللجوء إلى القضاء الذي ينظر في أمره وينصفه. وبخصوص تخفي البعض وراء أسماء وهمية قصد الإفلات من التتبعات العدلية قال الشارني إنّ إخفاء الصفة مشكل، وتقنيا من الممكن التوصل إلى هؤلاء الأشخاص لأن إخفاء الهوية امر وقتي ومن الممكن الوصول إلى المخالفين.
وأشار الشارني إلى أنّ «المواقع الاجتماعية قبل الثورة كانت إيجابية وبنّاءة، ولكنها بعد الثورة أصبحت فضاء للتشهير والتشويه وبث الإشاعات والأخبار الكاذبة وأصبحت للأحزاب جيوش الكترونية لضرب الخصوم كما أصبحت بمثابة الذراع السياسي لهذه الأحزاب والمنظمات لتشويه خصومها، وهذا التوظيف السياسي هو أخطر ما في الأمر لأنه تسبب في انحدار أخلاقي كبير».
وأوضح الشارني أنّ «المسألة اخلاقية بالأساس وأن القانون يكون تدخله لاحقا ولا يمكنه أن يستبق الأمور، فالمسألة إذن تربوية واخلاقية وهي مسألة قناعات وليست مشكلة قانون».
ال«فايسبوك» مصدر للمعلومات أم وسيلة للتجسّس؟
أصبحت الحكومات والوزارات والمؤسسات والجامعات والبلديات والاتحادات والمدارس والأشخاص في جميع أنحاء العالم، يتسابقون في إنشاء أو فتح صفحات عامة أو خاصة لنشر أفكارهم وآرائهم السياسية والاجتماعية وغيرها بأسرع ما يمكن زمنيا.
وتشير الاحصائيات والتقديرات العامة إلى تبوؤ شبكة التواصل الاجتماعي (فايسبوك) صدارة هذه الشبكات الاجتماعية الشاملة عبر شبكة الانترنت، حيث يقدر عدد المشتركين في الفايسبوك نحو 800 مليون شخص من ملياري شخص زائر للأنترنت، من أصل أكثر من 7 مليارات نسمة هم عدد سكان العالم في العام الحالي 2012 .
وقدّمت شبكة التواصل الاجتماعي كوسيلة إعلام إلكترونية رقمية عصرية، خاصة وعامة في الوقت ذاته، خدمات «جليلة» كثيرة ومتعددة للجميع، من شرائح المجتمعات الإنسانية، في شتى قارات العالم، ومكنت رواد ال«فايسبوك» من نشر آرائهم ومعتقداتهم، وملأت جزءا من فراغهم النفسي والمعنوي، وبالتالي أثرت شبكة التواصل الاجتماعي تأثيرا عقليا ومعنويا كبيرا على المسيرة الإنسانية.
وعلى النقيض من ذلك ، فقد أوقعت شبكة الفايسبوك مئات إن لم يكن آلاف الشباب في متاهات أمنية معقدة، علما أن هذا الموقع الاجتماعي الإلكتروني العالمي كغيره من المواقع والشبكات والمنتديات والمدونات الإلكترونية، مراقب من الأجهزة الأمنية والعسكرية والسياسية والثقافية في العالم، وخاصة من قبل «الموساد» وجهاز «الشاباك» الصهيوني والمخابرات المركزية الأمريكية (السي آي إيه) وغيرها من الأجهزة التي تتلصص وتتجسس على الشؤون الشخصية للأفراد والمؤسسات والشركات وغيرها.