لم يزل الغناء بين محللٍ ومحرِّمٍ، ولا يمكنني أنْ أجزم بصحة رأي هذا أو ذاك، ولهذا ألزمت نفسي العمل بقول الله تعالى: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون)، فأخذت أبحث عن حجج المحللين وحجج المحرمين حتى عثرت في كتاب (العقد الفريد) لابن عبد ربه على مجموعة من الآراء للفريقين في هذا الموضوع، مروية عن كبار رجال الدين والرأي، وهم أهل الذكر في موضوعنا. فلنقرأ هذه الفقرات من أوائل «كتاب الياقوتة الثانية في الغناء واختلاف الناس في ذلك» الذي يقع في الجزء 6 من الكتاب الذكور من ص 3 إلى ص 80.
1)(اختلف الناس في الغناء، فأجازه عامة أهل الحجاز، وكرهه عامة أهل العراق، فمِن حُجّة مَن أجازه أنّ أصلَه الشعرُ الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم به، وحَضّ عليه، وندب أصحابه إليه، وتجنَّد به على المشركين، فقال لحسان: شُنَّ الغارة على بني عبد مناف، فو الله لَشِعرُكَ أشدّ عليهم من وقْع السهام في غلس الظلام).6/ 6
2)(والشعر) هو ديوان العرب، ومقيّد أحكامها، والشاهد على مكارمها. وأكثرُ شعرِ حسانَ بنِ ثابت يُغنَّى به).6/6
3)(.. واحتجوا، في إباحة الغناء واستحسانه، بقول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة: أهْديتم الفتاة إلى بعلها؟ قالت: نعم، قال: وبعثتم معها من يغني؟ قالت: لا. قال: أ وَ ما علمتم أن الأنصار قوم يعجبهم الغزل؟ ألا بعثتم معها من يقول: «أتيناكم أتيناكم فحَيُّونا نحيِّيكمْ» «ولولا الحبة السمرا ءُ لم نحللْ بواديكمْ» 6/7/8
4) (واحتجوا بحديث عبد الله بن عبد الله بن أوَيْس، ابن عم مالك وكان من أفضل رجال الزُّهري [أي أحسن من روى عنهم] قال: مَرَّ النبي صلى الله عليه وسلم بجارية في ظِلِّ (فارع) [وهو حصن بالمدينة لحسان بن ثابت] وهي تغني: «هل عَلَيَّ – ويحكما إنْ لهوتُ من حرج ِ؟!» فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا حرج إن شاء الله).6/8
5) ومن حديث الحِمّاني عن حماد بن زيد عن سليمان بن يسار قال: رأيت سعد بن أبي وقاص في منزل ٍ بين مكةوالمدينة قد ألقَى له مُصَلَّى، فاستلقى عليه ووضع إحدى رجليه على الأخرى وهو يتغنى. فقلت: سبحان الله يا أبا إسحاق، أ تفعل مثل هذا وأنت مُحْرِمٌ؟، فقال: يا ابن أخي، وهل تسمعني أقول هُجرا؟ ! (أي فحشا).6/8
6)عاصم عن ابن جُرَيْج قال: سألت عطاء عن قراءة القرآن على ألحان الغناء والحُداء. قال: وما بأس ذلك يا ابن أخي؟ !) 6/9
7) وأردفَ النبي، صلى الله عليه وسلم، الشَّريدَ، فاستنشده من شعر أمية، فأنشده مائة قافية وهو يقول: هيه، استحسانا لها). 6/7 ونلاحظ هنا أن الشعر الذي طلب النبي عليه السلام من الشريد أن ينشده إياه لأمية بن أبي الصلت الذي هيّأ نفسه، بكثير من الشعر الديني زاعما أنه وحي من الله، راجيا أن يبعثه الله رسولا، لكن الله ختم أنبياءه برسول الله، ورغم ذلك طلب من الشريد، الذي أردفه في سفره، أن ينشده من شعر أمية، وظل يستزيده منها بقوله: هيه !.
8)ومِن حُجَّةِ مَن كَرِهَ الغناء أنْ قال: إنه ينفِّرُ القلوب، ويستفزُّ العقولَ، ويستخفُّ الحليمَ، ويبعث على اللهو، ويحضُّ على الطرب، وهو باطل في أصله.. وأعْدَلُ الوجوه في هذا أن يكون سبيلُه سبيلَ الشعر ِ فحَسَنُه حسَن وقبيحُه قبيح).6/9.
9)وقد حدّث إبراهيمُ بن المنذر الحِزامي أن ابن جامع السهمي (وهو من المغنين) قَدِِم مكة بمال كثير، ففرَّقه في ضعفاء أهلها، فقال سفيان بن عُيَيْنةَ: بلغني أن هذا السهمي قدِم بمال كثير قالوا: نعم. قال: فعلام يُعطَى؟ قالوا: يُغني الملوكَ فيُعطونه. قال: فبأي شيء يغنِّيهم؟ قالوا: بالشعر. قال: فكيف يقول؟ فقال له فتى من تلاميذه: يقول: أُطوِّفُ بالبيتِ معْ مَن يطوفُ*وأرفع مِن مِئزري المُسْبَل ِ قال: بارك الله عليه، ما أحسَنَ ما قال !قال: ثم ماذا ؟ قال: «وأسجُدُ بالليل حتى الصباح ِ وأتلو من المُحْكَمِ المُنْزَل »ِ قال: وأحسَنَ أيضا، أحسَنَ الله إليه !ثم ماذا ؟ قال: «عَسَى فارِجُ الهمِّ عن يوسُفٍ يُسَخِّرُ لي ربَّة َالمَحْمَل» قال: أمسِكْ أمسكْ!. قد أفسد آخِرًا ما أصلح أوّلا. أ لا ترى سفيانَ بن عُيينة، رحمه الله، حسَّن الحسَنَ من قوله وقبّح القبيح؟).6/9/10
10) وقال إسحاق: وحدثني إبراهيمُ بن سعد الزُّهري، قال: قال لي أبو يوسف القاضي: ما أعجبَ أمْرَكم يا أهلَ المدينة في هذه الأغاني! ما منكم مِنْ شريف ولا دنيءٍ يتحاشَى عنها. قال: فغضبتُ وقلت: قاتلكم الله يا أهل العراق! ما أوضح جهلكم وأبعدَ من السَّداد رأيَكم! متى رأيتَ أحدا سمع الغناء فظهر عليه منه ما يظهر من سفهائكم هؤلاء الذين يشربون المُسْكِرَ، فيترك أحدُهم صلاتَه، ويُطلِّق امرأتَه، ويقذف المحصَنة من جاراته، ويكفُرُ بربه، فأين هذا من هذا؟ مَن اختار شعرا جيدا ثم اختار له جِرْمًا حسنا فردده عليه، فأطربه وأبهجه، فعفا عن الجرائم، وأعطى الرغائب. فقال أبو يوسفَ: قطعْتني. ولم يُحر جوابا). 6/11/12 فقد لام الزُّهريُّ أبا يوسفَ على أخذ العراقيين برأي أستاذه أبي حنيفة في تحليل شرب النبيذ المسكر رغم ما فيه من مضار، وتحريم الغناء المطرب رغم ما فيه من منافع. فاقتنع أبو يوسف بحجة الزهري في تحليل الغناء، بينما لا يريد المتزمتون المعاصرون أن يقتنعوا بعدم تحريم الغناء مع أن حججهم في تحريمه واهية كما نراها في الفقرتين 8 و 9 من المختارات السابقة.