إذا كان النبي يعلمنا كيف نتحكم في أنفسنا في الحالات التي نكون فيها مع من نحب أو مع من نعادي أثناء الحكم، فإنه كذلك يعلمنا كيف نعامل من حولنا حين يخطئون بمنطق العدل لا بمنطق الغضب، فها هو الصحابي حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه حين يخطئ خطأ فادحا أثناء استعداد النبي لفتح مكة، وحين أرسل للمشركين بنية النبي وعزمه على فتح مكة،لم يعاقبه النبي كما قد يتوقع البعض، ووضع في اعتباره نية حاطب التي لم تكن لتنوي المكر بالنبي أو المسلمين. والقصة في صحيح البخاري عن علي رضي الله عنه قال: «بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا مرثد والزبير وكلنا فارس. قال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها امرأة من المشركين معها كتاب من حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين. فأدركناها تسير على بعير لها، حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: الكتاب. فقالت: ما معنا من كتاب.
فأنخناها، فالتمسنا فلم نر كتابا. فقلنا: ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لتخرجن الكتاب أو لنجردنك. فلما رأت الجد، أهوت إلى حجزتها وهي محتجزة بكساء فأخرجته، فانطلقنا بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر: يا رسول الله، قد خان الله ورسوله والمؤمنين. فدعني فلأضرب عنقه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما حملك على ما صنعت؟ قال حاطب: والله ما بي أن لا أكون مؤمنا بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم. أردت أن تكون لي عند القوم يد، يدفع الله بها عن أهلي ومالي، وليس أحد من أصحابك إلا له هناك من عشيرته من يدفع الله بها عن أهله وماله. فقال صلى الله عليه وسلم: صدق ولا تقولوا إلا خيرا. فقال عمر: إنه قد خان الله والمؤمنين، فدعني فلأضرب عنقه. فقال: أليس من أهل بدر؟ لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة، أو فقد غفرت لكم.»
لقد كان الصحابة غاضبين أشد الغضب من موقف حاطب، ويريدون له عقابا ليكون عبرة لغيره، ولكن النبي بلمسته العادلة والحانية، علمهم ألا يأخذهم الغضب بعيدا عن العدل حين يعالجون الأخطاء غير المبيتة، وأن يوازنوا بين حسنات الناس وسيئاتهم، بين أعمالهم الكريمة وبين أخطائهم. هذا المنطق في العدل قد لا يتبينه الكثيرون في خضم الحياة، ولكن ما أحوج الناس إليه في علاقاتهم الإنسانية بشتى أنواعها، بين الزوجين، وبين الآباء و أبنائهم، بين المعلم والمتعلم.