تمرّ هذه الأيّام الذكرى الرابعة لرحيل الشاعر العربيّ محمود درويش في صمت...فالوطن العربيّ منشغل، الآن، بأحداث أجلّ وأخطر..لعلّ أهمّها الحرب التي تحرق جسد سوريا.. وتترك فيه جروحا غائرة..لكأن الوطن العربيّ منذور لحروب لا تنتهي...لكأن دماءه منذورة للهدر... ولكنّنا، مع ذلك، أو بسبب ذلك ، سنزجي التحيّة للشعر، بوصفه عزاءنا كلّما فقدنا العزاء، وملاذنا كلّما أعوزنا الملاذ. وسوف نشير في هذا العمود إلى ظاهرة انسلاخ درويش عن شعر القضية وانعطافه على قضية الشعر. فالمتأمّل في مدوّنة الشاعر يلحظ أنّه لم يطمئن ، طوال حياته ،إلى لغة واحدة يُجري عليها كلّ قصائده بل كان دائم البحث عن لغة تقول تجربته ..ولمّا كانت هذه التجربة متحوّلة متطوّرة ، جاءت اللغة متعدّدة متكاثرة. فدرويش ظلّ يمحو، باستمرار، آثار خُطاه، فما يكتبه سرعان ما يرجع عليه ويتخطّاه ، وما يؤسسه سرعان ما يراجعه ويتجاوزه.... كانت الكتابة عنده خروجا مستمراّ من الأماكن المأهولة، ودخولا دائما في الرّبوع الخالية. لا شيء ثابِتٌ في قصائده، كلٌّ شيء فيها إلى تحوّل وتغيّر مستمرّين.
لكنّ هذه القصائد تبقى على اختلافها تعلن عن تصوّر مخصوص لفعل الكتابة، لوظيفتها الانطولوجيّة والكيانيّة. إنّ القراءة الإيديولوجيّة قد أخطأت السبيل إلى ذلك التصوّر وهذه الوظيفة فلم تتمكّن من الظّفر بهما، لأنّها عدّت الدوالّ محضَ وسائط لمعان تقعُ خارجها، محض أعراض لأغراض أخفى فطمسَتْ بذلك جوهر القصيدة وحوّلتْ لألاءَ نارها إلى رمادٍ.
فالنّاظر في قصائد الشاعر يلحظُ، ببديهة النّظر، الاختفاء التدريجيّ لصورة الشاعر الملتزم الذي يبشّر وينذر لتحلّ محلّها صورة الشاعر المتسائل الذي يشكّ ويزرع الشكّ من حوله...قصائد درويش الأولى كانت منشدّة إلى الخارج النصّي عنه تصدر وإليه تؤول..الشعر فيها ذو طبيعة وظيفيّة ...لهذا كان التركيز على إيقاع الدالّ.. أمّا في المرحلة الثانية فقد راهنت قصائد درويش على استخدام لغة لازمة تقول ذاتها قبل أن تقول ما هو خارج عنها ...»لغة تشدّ القارئ إلى نفسها بوصفها حضورا ذاتيّا يمكن أن يؤدّي دورا مستقلاّ عن مستويات تتجاوز مجرّد التوصيل: مستوى العلاقة بين الكاتب والعالم ، ومستوى العلاقة بين القارئ والكاتب ، ومستوى العلاقة بين الكتابة والقراءة..
هكذا اختفت شيئا فشيئا صورة الشاعر الذي يرى مالا يراه الآخرون التي تحكّمت في مجاميع درويش الأولى، ووجّهت صورها ومجمل رموزها وحلّت مكانها صورة الشاعر الذي يسعى إلى تجديد اللغة وإعادة خلقها على غير مثال سابق...وهكذا أصبح درويش يقول بكلّ تواضع : من أنا لأقول لكم ما أقول لكم.. أنا مثلكم أو أقل قليلاً»..
ضمن هذه الرؤيا بات عملُ الشاعرُ الغناء بوصفه حيلة الشاعر ليحتميَ من الموتِ، ويرجيء تحلّل الأشياء وتفسّخها. فالكتابة هي الدّرع الباقية يحملها درويش تردّ عنه عواديَ الزّمن، هي حجّته الأخيرة على إمكان البقاء، على إمكان المقاومة.
كالحياة تمامًا مثَّل الموت أحد ينابيع الشّعر القصيّة وأصلاً مكينا من أصوله البعيدة، بل ربّما بدا في العديد من الآثار الانسانيّة الملهمَ الأوّل للكتابة، الحِضْنَ الذي ترعرعت فيه، البيتَ الذي عاشتْ في كنفه.
إنّ كلّ الأشياء تصبح من أثر تكْرَارٍ بعْدَ تكرارٍ مألوفة يقبلها المرءُ فلا تثيرُ فضوله إلاّ الموت فإنّه يظلّ مصدر دهشة لا تنطفئ، مصدر فضول لا يخمد، لهذا عدّ القادح الأوّل لنار السؤال،القادح الأوّل لغوايةِ المعرفة.
والنّاظر في قصائد درويش يلحظ أنّ سؤال الموت هو قرين سؤال الشّعر ورديفُه، فكلاهما ذهابٌ إلى القصّي والبعيد، وكلاهما انفتاح على المجهول والمخفيّ. كلّ كتابات درويش تحمل فُضُولِ مغامر يريد أن يرى ويعرف يُقايضُ الأمن بالخوف، والسكينة بالاضطراب. قطّ لم تخُنْهُ بصيرته ، قطّ لم يضلّه حدسه، لقد أدرك الطريق: فخلف الجبال الزرق تمتدّ الأبدية البيضاء. أعلى من الأضواء كانتْ حكمتي إذ قلتُ للشيطان لا... لا تمتحنّي لا تضعني في الثّنائيات واتركني كما أنا زاهدًا برواية العهد القديم وصاعدا نحو السّماء... هناك مملكتي. إنّ محمود درويش وهو يستدعي سؤال الموت يحيلُ عن وعيٍ منه أو عن غير وعيٍ على الكثير من النّصوص التي احتضنت هذا السؤال يبثّ فيها الحياة وينفخُ فيها الرّوح، يخرجها من صدفةِ صمتها ويدفعها إلى الكلام من جديد: نصوص الأساطير، شذرات الفلاسفة، القصائد الجاهليّة، بحيث تصبحُ قراءة درويش إدْلاَجًا في ليل الروح، رُوح الإنسان على وجه الحقيقة والإطلاق.
كلّ قصيدة تنطوي على حوار يعقدُهُ الشّاعرُ مع أسلافه الموتى من شعراء وصنّاع أساطير ورجال حكمة. وخلال هذا الحوار لا يشحنُ الشاعرُ قصيدته بقوّة الماضي فحسب وإنّما يشحنُ ذلك التّراث أيضا بطاقة الحاضر فيبرزُه في هيئة جديدة. وكلّ أثر كبير إحياءٌ لآثار أخرى، إيقاظ للأرواح النّائمة فيها، تحريرٌ لطاقتها الرّمزيّة والتخييليّة...