حين سقط النظام في تونس في 14 جانفي, كان الفراغ في هرم السلطة مخيفا يؤذن بالخراب، فوضى عارمة نهب وسلب، مشهد سياسي غامض لأحزاب أنهكها الاستبداد. هنا ظهرت مؤسسة العسكر باعتبارها الضامن للسلم الأهلي ولاستمرار وجود الدولة.. واستعاد الجيش حضوره في الساحة السياسية وأصبح أحد أهم عوامل الاستقرار وحفظ التوازن بين المتناقضات الفكرية والسياسية.. وتأكد هذا الدور حين قامت القوات العسكرية بالإشراف على استعادة الأمن العام وفرض قانون الطوارئ, وكذلك حين أمن الجيش انتخابات 23 أكتوبر في حرفية ونزاهة.. ثم إن جيشا يلتزم الحياد في صراع نظام دكتاتوري ضد شعبه ليس أمرا هينا, هو ولا شك موقف وطني من الحجم الثقيل وسابقة في العالم العربي أحرجت الجيش المصري في ما بعد, ورسمت طريقا جديدا ممكنا لجيوش تنحاز إلى شعوبها المقهورة. ليس الجيش التونسي في حجم الجيش المصري إلا أنه عسكر منظم وموال لقيادة هرمية متجانسة, أثبتت تبنيها لقيم وطنية حين اتخذت مواقف حاسمة في لحظات حرجة.. وقد خشي البعض من تدخل الجيش في السياسة حين هرب «بن علي» وظن اخرون أن المؤسسة العسكرية ستستولي على الحكم, غير أن تطور الأحداث أثبت أن الجيش التونسي كان معنيا بتأمين نجاح التجربة الديمقراطية في تونس, وأن تصور البعض لإمكانية تدخل الجيش في السلطة إنما يعكس أولا رهابا من قوة العسكر لدى البعض. أو يبطن ثانيا رغبة فئة أخرى في توظيفه من أجل وأد تجربة ديمقراطية خشية أن تفقد هذه الفئة حضورها في الركح السياسي .
دولة الاستقلال والجيش
في التاريخ الحديث لدولة الاستقلال أبدى «الحبيب بورقيبة» تخوفا من العسكر في زمن كثرت فيه الانقلابات, وقد كان الانقلاب دائما صنيعة من صنائع العسكر لأنهم يتحوزون قوة التدمير والغلبة. وكانت خشية الزعيم مبررة خاصة بعد المحاولة الانقلابية لمجموعة «الأزهر الشرايطي» سنة 1962, فاتخذ موقفا سلبيا وحذرا من الجيش, وأبقى هذه المؤسسة بعيدة عن الفعل السياسي. ثم حافظ خلفه «زين العابدين بن علي» على ذلك التصور في التعامل مع القوات المسلحة طيلة حكمه. إلا أن ذلك لم يؤثر على العسكر باعتباره جهازا يمتلك أكبر قوة سلاح داخل الدولة. ...وحين تحقق الاستقلال بنيت عقيدة الجيش على تصور مغلوط للعدو الخارجي المفترض, لقد تحولت الحدود البرية مع الجزائر وليبيا الى مصدر محتمل للاستعداء, وكان «بورقيبة» فرونكفونيا ولم تكن له مرجعية لوعي قومي عروبي أو إسلامي يحدد على أساسه عدوه التاريخي ويدفعه إلى بناء جيش قوي لحماية كيان دولة تقع في قلب المتوسط.
لقد أعاد الزعيم «بورقيبة» تأسيس الجيش التونسي بعد الاستقلال وخاض معه معارك الجلاء غير أنه حرص على إبقائه ضعيفا في ما بعد, بتعلة المراهنة على التعليم عوض إهدار الأموال في التسلح حسب رأيه. و»بورقيبة» كان يؤمن كذلك بفكرة الإحتماء تحت مظلة القوى الكبرى وجواز التحالف معها.. فبقي الجيش قليل العدد والعدة ولم يشكل وزنا إقليميا له تأثير في السياسية الخارجية. في وقت تحولت فيه دول مثل ايران وتركيا والجزائر والعراق إلى قوى عسكرية إقليمية. ولعلنا نرى أن التنمية والتقدم وتطور التعليم والاقتصاد ليس مفصولا عن تطور الجهاز العسكري, وفي تصورنا فإن سياسة «بورقيبة» كانت خاطئة في حق الجيش التونسي وأفقدت الدولة التونسية هيبتها لهذه الجهة.. فدولة صغيرة مثل إسرائيل تطورت وتقدمت على جميع الأصعدة وكذا شان إيران وتركيا.
في أحداث «قفصة» سنة 1980 انكشف للجميع ضعف العتاد المتوفر للجيش, وصعوبة التعامل مع مجموعة من الأفراد المسلحين وسهولة اختراق المدينة .غير أن النظام لم يغير استراتيجيته في كبح جماح الجيش, فقد اختزل دوره في التدخل الأمني حين تعجز قوات الشرطة أو الحرس في أحداث قفصة والاحتجاجات الاجتماعية عام 1978 وانتفاضة الخبز سنة 1984. وخلال سنة 2006 أثبت الجيش جاهزيته في حسم المعارك الصغيرة في واقعة «سليمان و عين طبرنق»... تدخل الجيش وقت الأزمات الداخلية دائما لفرض النظام وهيبة الدولة, وكان يمثل العمق الاستراتيجي لمفهوم القوة الذي تحتكره هذه الدولة, القوة المدمرة والنائمة. وحصرت وظيفته في تنمية الصحراء, أو التدخل أثناء الكوارث الطبيعية, أو مراقبة الحدود, أو المشاركة في بعثات حفظ السلام الأممية.
إن الجيش التونسي لم يكن جيشا محاربا بل هو جيش محترف فيه إدارة مكتملة البناء وضباط تلقوا تعليما عسكريا حديثا بيد أنهم بلا أنياب. وفرضت عليهم الدولة حصارا داخل الثكنات, ولعل الأوان قد حل من أجل إعادة النظر في العقيدة العسكرية للجيش التونسي كي يكون في المستقبل قوة ضاربة ومحاربة لها وزن إقليمي يدعم الحضور الخارجي لسياسة الدولة.. على أن تحجيم المؤسسة العسكرية زمن «بورقيبة» أو زمن «بن علي» وعزلها عن دائرة الفعل السياسي وتهميشها أحيانا أخرى قد أنتج فيها عامل قوة يحسب لفائدتها زمن الثورة, ظلت مؤسسة تتمتع بشعبية واسعة بعيدا عن كل مظاهر الفساد, ثم تعززت برأس مال رمزي في أعماق الضمير الجمعي للتونسيين وهم ينحنون بالرؤوس احتراما لأولئك الجند الذين وقفوا لحماية وطنهم زمن المحنة. العسكر في تونس ومصر
إن هذه المقارنة تستند إلى مشاركة متشابهة للجيشين التونسي والمصري في ثورات بلديهما. إذ كان السبق الزمني في تجربة الثورات العربية للجيش التونسي بحكم تقدم الثورة التونسية على نظيرتها في مصر, وقد أنجزت القيادة العسكرية عملا على غير مثال, وكان تحول السلطة من حكم أحادي استبدادي إلى الحكم بإرادة الشعب تحولا مرنا بأخف الأضرار بفعل تدخل الجهاز العسكري.. وقد أحرج هذا الصنيع الجيش المصري في ما بعد فانتهج ذات الأنموذج إلا أنه سرعان ما اختلف عنه. كان الجيش التونسي محكوما بهرمية قيادية تنتهي سلسلتها عند وزير دفاع مدني يرافقه قائد أركان جيش البر الفريق أول «رشيد عمار», الذي أسندت إليه بعد الثورة مهمة قيادة الجيوش الثلاثة وذلك من أجل توحيد القرار العسكري بعد أن أصر نظام «بن علي» طويلا على أن يجعله شتاتا وتابعا. والملاحظ هنا أن «زين العابدين بن علي» قد تخرج من هذه المؤسسة العسكرية بيد أنه سرعان ما تنكر لها وفقد ثقته فيها وغلب عليه اختصاصه الأمني حتى فقد «عسكريته», إثر المحاولة الانقلابية لمجموعة الإنقاذ الوطني سنة 1987 أو ما عرف بمجموعة «براكة الساحل» سنة 1991 والتي اعتقل فيها عدد من هام العسكريين.
في المقابل فإن المشير «الطنطاوي» كان جنرالا ووزيرا للدفاع, وكانت السلطة مجمعة عند المجلس العسكري الذي يضم كبار الجنرالات المصريين، وهم قادة فاعلون ومؤثرون في القرارات المصيرية، ويبدو أن المؤسسة العسكرية في مصر قد أرادت التدخل في الشأن السياسي بعد الثورة, فأصدرت مراسيم مقيدة للرئيس الجديد, وأشرفت على تجميد عمل برلمان منتخب, وساندت بقوة ترشح «أحمد شفيق» العسكري السابق وابن النظام القديم وسعت لإعادة إنتاج قائد جديد لمصر من داخلها هي .
ولم يكن يسيرا على أولئك العسكر أن يتخلوا عن دورهم التاريخي في الحكم. وحين توفرت إرادة سياسية فاعلة لرجل ثابت وصلب ومدعوم شعبيا جازف «محمد مرسي» بحركة سياسية فيها كثير من المغامرة والمخاطرة فأطاح بالطنطاوي وبالمجلس العسكري معا موظفا ذلك الحراك الشعبي الملتهب في مصر.. الجيش المصري عسكر درب للحرب وامتلك تجربة طويلة في القتال ضد الجيش الاسرائيلي مثلما تحوز عددا ضخما من الجند والعتاد غير أنه بقي عاطلا طيلة حكم الرئيس «حسني مبارك» وفقد جزءا من جاهزيته.
وقد دأب العسكر في مصر على ممارسة السياسة بل كانت مؤسسة لصناعة القادة السياسيين «محمد نجيب وجمال عبد الناصر وأنور السادات وحسني مبارك». عسكر مصر حصلوا تجربة من خلال الحروب المضنية ضد اسرائيل في سنوات 1948 و1956 و 1967 و1973 وهو جيش يصنع جزءا هاما من عتاده ومؤونته, لأنه قد تخصص للحرب في مواجهة القوى الخارجية, ولعل صحراء سيناء وقنال السويس وخط «بارليف» الشهير, يشهد جميعها على تلك الخبرة القتالية العالية سواء في الهزائم أو في الانتصارات. وقد تأسست عقيدته على فكرة قومية محورها مفهوم «الأمة العربية» مثلما تصوره الزعيم «جمال عبد الناصر».
ثم تبدلت تلك العقيدة وأفرغت تماما من بعدها القومي المحارب وتحولت إلى فكرة الهدنة ومنطق السلام وفق الرؤية الامريكية مع السادات. بل تحول هذا الجيش إلى قتال الجيش العراقي متحالفا مع الجيوش الغربية في حرب الخليج الأولى عام 1990 بأمر من الرئيس حسني مبارك من أجل هدم العراق... وجاء القرار السياسي الأخير الذي اتخذه الرئيس «محمد مرسي» جريئا وممتلئا بالدلالات السياسية, فشاهدنا جيشا متحررا من كل القيود ينتشر بقوة في شبه جزيرة سيناء مندفعا ليستعيد سيادة مسلوبة منذ سنة 1978 وليغير في الأرض موازين القوى التي حددتها اتفاقية «كامب دافيد».
أما الجيش التونسي فلم تقم عقيدته السياسية في مواجهة القوى الخارجية على مرجعية قومية أو دينية بمعنييهما السياسي, لقد كان أقصى ما سمح له به أن يحمي الحدود مع الجزائر أو مع ليبيا, ولم تكن سياسة الدولة زمن «بورقيبة» أو «بن علي» تؤمن بفكرة التأثير في المجال الجغرافي والإقليمي والسياسي, ولم تعتقد يوما أن الدول الاروبية أو الحلف الاطلسي أو الولاياتالمتحدةالامريكية هي دول عداء.. وفرض على الجيش التونسي أن ينكمش خلف عباءة القوى الاقليمية فيمنع من القيام بأي دور في محيطه الجغرافي والسياسي. فوقع الجيش بين خشية رجل السياسية منه في الداخل ومن إمكانية تدخله في تصريف شؤون الحكم, وبين إصرار القوى الدولية على إضعاف فاعلية المؤسسة العسكرية في الحوض الجنوبي للمتوسط لاعتبارات استراتيجية... لقد كان القصف الاسرائيلي على حمام الشط عام 1985 مهينا ومخزيا في غياب التجهيزات, حين عجزت الطائرات والدفاعات الجوية التونسية عن التصدي لمواجهة سرب من الطائرات الاسرائيلية.. وحاول «بورقيبة» أن يحول تلك المهانة العسكرية التي كانت سياسته سببا في وقوعها إلى نصر ديبلوماسي في مجلس الأمن. غير أنه كان نصرا زائفا لمهزوم ضعيف كانت أقصى مطالبه رفع الأيادي في الأممالمتحدة لإدانة المعتدي. الجيش في ثورة 14 جانفي
بدأ تدخل الجيش في الأيام الأخيرة لحكم «بن علي» وجاءت الأوامر إلى القوات العسكرية بالانتشار حول النقاط الحساسة للمنشئات العامة والسفارات الاجنبية. وكان الرئيس حذرا من أي تدخل للعسكر, وحين تهاوت الأجهزة الأمنية وفقدت فاعليتها بعد شهر من الاستنزاف إزاء تمرد شعبي واستعصاء مدني, جاء تدخل الجيش كآخر الحلول التي يستخدمها النظام لحماية كيانه وقمع الانتفاضة وإعادة التذكير باحتكاره لقوة النار والتدمير. ولم يعتقد أبدا أن هذا الفاعل العسكري الحاسم يمكن أن يخذله وقت الأزمة, غير أن التزام الجيش بالحياد في الصراع وامتناعه الفعلي عن حماية نظام استبدادي خاصة حين انتشرت قوات الجيش بالحاضرة بتاريخ 11012011.
وتزامن ذلك مع صدور تعليمات صارمة من قائد أركان جيش البر إلى كل الوحدات العسكرية بالالتزام بقواعد فتح النار وفق ما ينص عليه قانون الطوارئ وبما يتطابق أيضا مع قوانين القوات الأممية التابعة لمنظمة الاممالمتحدة, كانت تلك الأوامر إيذانا بامتناع الجيش عن استعمال السلاح لحماية النظام أو لقمع الحركة الاحتجاجية.. ورشحت أخبار عن تصادم حقيقي بين «رشيد عمار» وبين «علي السرياطي» قبل ثلاثة أيام من سقوط بن علي, في أروقة وزارة الدفاع أثناء اجتماع مضيق. لذلك تأول البعض حينها أن الجنرال «رشيد عمار». قد قال : «لا», «لبن علي»... و بتاريخ 12 01 2011 صدرت تعليمات جديدة تأمر الجند بالاستعداد للقتال و»الذود عن حرمة الوطن من كل عدوان داخلي أو خارجي». وقد خلا ذلك الخطاب العسكري «البرقي» والحماسي من أي دعوة لحماية «بن علي» أو نجدة لنظامه... وهذا الحياد كان في العمق رفضا لفكرة اسناد الرئيس, ومساندة ضمنية لحركة احتجاجية قامت ضد الظلم والقهر. ثم استطاع العسكر إنهاء الأزمة بإيجاد مخرج لرأس السلطة المتهاوية وحقن الدماء, وإلقاء القبض على أفراد عائلته المورطين في قضايا فساد, وتجنيب البلاد مخاطر التناحر على السلطة, كل ذلك كان عملا حرفيا متميزا نراه نحن أكبر من الامكانيات الحقيقية للجيش التونسي الذي كان متواضع العدد والعدة غير أنه أنجز مهمته بما يشبه عملية جراحية دقيقة في أخطر محنة تمر بها البلاد التونسية.
ثم إن قراءة عميقة في دلالات التزام الجيش بالحياد أثناء الاضطرابات يفضي بنا إلى أن قيادة الجيش قد اختارت موقفا غير داعم لرأس الحكم. ولو اتخذت قرارا بإسناد النظام لأخمدت الثورة أو لسفكت دماء كثيرة أو لخربت ديار وبيع مثلما وقع في ليبيا أو في سوريا لاحقا.. كان الجهاز العسكري مدربا على الانضباط الصارم لتعليمات القائد العسكري في تطبيق حرفي للتعليمات أو ما يسميه العسكريون بالإيعاز لذلك أوقف «علي السرياطي» دون تردد أو ترمرم باعتباره رئيس الجهاز الأمني المخلص للرئيس وحبست عائلتي «الطرابلسي» و»بن علي» داخل ثكنة العوينة... وقد كان لتلك الثكنة دور هام في السيطرة على الأوضاع بالعاصمة و في حسم المعركة قبل أن تبدأ. إنه دور جدير بالبحث والدرس : ما هي الأدوار الحقيقية التي اضطلعت بها تلك القاعدة العسكرية الاستراتيجية في إنهاء حكم «بن علي» ؟
كان التنسيق بين القيادات العسكرية والامنية منظما وفق نصوص قانونية وترتيبية إبان حالات الطوارئ إلا أن التطبيق على أرضية الميدان كان في البدء مفقودا. وكان يوجد تنافس ضمني بين المؤسستين وقد شجع النظام السابق على تنامي الكراهية بينهما. ظلت المؤسسة الامنية بكل تشكيلاتها منفصلة تماما عن الجيش طيلة عقود متعالية عنه مستقلة بإطلاق رغم أن قطاعا من ضباطها تخرجوا من الاكاديمية العسكرية، وكان لوزارة الداخلية اليد الطولى على العسكر خاصة منها جهاز أمن الدولة منذ انقلاب مجموعة «الازهر الشرايطي» سنة 1962 التي شارك فيها عسكريون، واعتقالات العسكريين في ما عرف بقضية «براكة الساحل» عام 1991 .