لا أحد يعلم حتى كتابة هذه السطور من الذي أحرق مقام السيّدة المنّوبيّة بعد أن نهب ما فيه وبعد أن سلب القيّمات مصوغهنّ دون أن ينسى الاستيلاء على بعض الشياه القريبة استعدادًا، ربمّا، لعيد الأضحى القريب! باحتراق هذا المقام احترق شيء من المخيال الشعبيّ والوجدان التونسيّ العامّ.. فالسيّدة المنوبيّة جزء من ذاكرتنا المشتركة وليس من تونسيّ إلاّ وهو على صلة من بعيد أو من قريب بالمعالم التي تحمل اسمها، من دار العائلة إلى الداموس إلى قبّة مونفلوري إلى ضريح القرجاني أو مقام السرّ.
اجتمع معظم التونسيّين على احترام هذه المرأة الفذّة مهما اختلفوا في النظر إلى مسألة الولاية والكرامات.. وكيف لا يحترمون امرأة أصبحت من العلماء حين كان تعلُّم النساء أندر من الكبريت الأحمر وتتلمذت على أبي سعيد الباجي وأبي الحسن الشاذلي وطبّقت شهرتها الآفاق منذ بلوغها العشرين حتى وفاتها في منتصف القرن الثالث عشر للميلاد.
قبل سنوات زارنا الروائيّ البرازيليّ المعروف باولو كويلهو فدعوناه إلى جولة في تونسالمدينة.. وروينا له بعضًا من حكايات أبوابها وأحيائها وأوليائها.. وكانت حكاية السيّدة عائشة المنوبية إحدى تلك الحكايات..
أذكرُ أنّه كان يجلس على الرصيف ويسجّل كلّ كلمة.. وحين سمع بعضًا من سيرة السيّدة طلب أن نأخذه إلى مقامها لكنّ الوقت لم يسمح بذلك.. وظلّ طيلة زيارته منبهرًا بتلك الحكايات مستغربًا أن لا نستغلّها روائيًّا.
لا أحد يعلم حتى كتابة هذه السطور من أحرق مقام السيّدة ولا أحد يعلم من خرّب ونهب وسلب! ولن يعلم أحدٌ شيئًا عن ذلك إلاّ بعد ظهور نتائج التحقيق! وكم أتمنّى أن تظهر النتائج في وقت معقول على العكس من التحقيقات الأُخرى الكثيرة التي أصبح انتظار نتائجها شبيهًا بانتظار غودو!
في انتظار ذلك لا يملك الواحد منّا إلاّ أن يقول لفرسان هذه الغزوة برافو أيّها الأبطال الأشاوس! ها أنتم تفعلون بمقام هذه المرأة الصالحة ما لم تفعله عاديات الزمن! ها أنتم تُحسنون الإساءة إلى هذه المرأة التي عاشت قرابة الثمانين سنة في أصعب مراحل تاريخ تونس دون أن ينالها سوء!
ولعلّ من العبث أن نسأل عن سبب لمثل هذه الجرائم الثقافيّة.. فالضريح ليس بنكًا.. والغنيمة الماديّة المُنتظرة من مثل هذه الأماكن لا تساوي الجهد المبذول! من ثمّ لا هدف من وراء مثل هذه الغزوات إلاّ الجانبُ غير المنظور وغير الماديّ الذي يتعلّق برأس المال الرمزيّ وبالمخيال.
الهجوم على مقام السيّدة، عن وعي أو عن غير وعي، هو هجوم على فكرة مساواة المرأة للرجل. فقد جعلت عائشة المنوبيّة من هذه الفكرة أمرًا واقعًا منذ القرن الثاني عشر للميلاد وانتزعت اعتراف علماء زمنها بعلمها وأقنعت الساسة بذكائها وقوّة شخصيّتها وظلّت ذات كلمة مسموعة في شؤون الدنيا والدين على امتداد عقود وأصبحت سيّدة في زمن احتكر سيادتَه الرجال.
الهجوم على مقام السيّدة هو هجوم على المصالحة بين الدين والحريّة. فقد عُرفت هذه المرأة بالتحرّر والجرأة والورع والتقوى في الوقت نفسه ممّا جعلها نموذجًا للتديّن المتسامح القريب من الحياة وأهلها.. كانت ابنة الشعب وفقرائه مشبعة بروح الزهد والتصوّف دون أن يمنعها ذلك من الاختلاف إلى سلاطين زمنها لتمحضهم النصح وتدفعهم إلى ما فيه خير العباد والبلاد.. ممّا أكسبها شعبيّة منقطعة النظير لدى الخاصّة والعامّة.
المستهدف إذنْ، عن وعي أو عن غير وعي، هو نمط مُعيّن من أنماط الحياة والتديّن.. نمط يعقد صلحًا بين الخاصّة والعامّة ويفتح الدين على الحياة في كنف الحوار والتسامح ويدعو إلى التجديد والتطوّر ويحارب الجمود والتحجّر.
السؤال الآن: أين السلط المعنيّة؟
لماذا لم تحتط للأمر بعد أن تمّ استهداف كلّ ما يرمز إلى التحرّر الفكريّ والتسامح الدينيّ والحوار الاجتماعيّ والتنوّع الثقافيّ، بداية من أهل الفكر والإبداع وصولاً إلى معالم كثيرة آخرها زاوية عبد القادر الجيلاني بمنزل بوزلفة؟
أصبحت معالمنا التاريخيّة وكنوزنا التراثيّة في خطر شأنها في ذلك شأن المفكّر والمبدع والمواطن الحرّ بشكل عامّ.. ولن يشفع للمسؤولين أن يتعلّلوا بالأولويّات أو بالتدافع الاجتماعيّ. ما أن يحكم الحاكم، وتحديدًا، ما أن يحكم وحده، حتى يُصبح وحده المسؤول عن كلّ ما يحدث في عهده.