اعترفت فرنسا أول أمس، رسميا بمسؤوليتها عن «القمع الدموي» ضد الجزائريين الذين تظاهروا بالعاصمة باريس، يوم 17 أكتوبر 1961، للمطالبة بالاستقلال. لكن فرنسا التي أثارت تساؤلات حول حقيقة موقفها لم توضح مدى استعدادها للاستجابة لطلب الجزائر بالاعتذار لها عن الاحتلال والاستعمار. أقرّ الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند، بمسؤولية فرنسا في المجازر التي ارتكبت في حق الجزائريين في باريس، بعد 50 سنة من الاستقلال. وجاء في بيان رسمي موجز على موقع قصر الإيليزي، «الجزائريون الذين تظاهروا من أجل نيل الاستقلال قتلوا في واقعة دموية قمعية، والجمهورية تعترف بوضوح بهذا الفعل».» وأضاف « وخمسين سنة بعد هذه المأساة أقدم مواساتي لذاكرة الضحايا».
مجزرة رهيبة
وجاء اعتراف فرنسا، قبل أسابيع من زيارة الرئيس هولاند للجزائر، كرسائل حسن نية، وتطرح ذات الخطوة مدى استجابة فرنسا للاعتراف بباقي جرائمها إبّان الحقبة الاستعمارية، على مدار 130 سنة، وما إن كان هذا الاعتراف تغيرا في لهجة خليفة ساركوزي، نحواعترافات جديدة بشأن جرائم الاستعمار ولتحقيق مصالحة تاريخية بين الشعبين الفرنسي والجزائري، أم مجرد محاولة للتغطية عن الاعتذار للجزائريين وتمييع مطلب الاعتذار عن الجرائم الاستعمارية، علما أن هولاند صرح خلال حملته الانتخابية كمرشح عن اليسار ضد ساركوزي، أنه «يجب الإقرار بأن ما وقع يوم 17 أكتوبر 1961، وقع وهو مأساة، وقد وقعت عريضة في ذات الإطار»، حيث وقف على ذكرى المجزرة سنة 2011 بمعية المؤرخين بنجامين ستورا وجون لوك اينودي. وسبق اعتراف الرئيس الفرنسي ضغوطات مؤرخين وحقوقيين فرنسيين، في الذكرى الحادية والخمسين لأحداث أكتوبر 1961، لاعتراف الدولة الفرنسية بالمجزرة، واستظهار «هذه الصفحة من التاريخ التي تم طمسها أوتجاهلها».
وأوضح المؤرخون أن أفعال الجنرال ديغول وصاحبه قائد الشرطة في باريس موريس بابون، ووزير داخليته روجي فري،كانت تهدف لتصفية «الآفلان» والقضاء على الثورة الجزائرية والتمييز بين جزائريي الداخل والمهاجرين بفرنسا. وقد فضحها المؤرخان بنجامين ستورا وجون لوك اينودي، اللذان كشفا حقيقة المجزرة في ذلك اليوم، حيث قال شهود عيان، أن الأجساد بدأت تطفوا على السطح، في الصباح الموالي، وهي تحمل علامات الضرب والخنق، وفي محطة المترو أوستارليتز، كان الدم يجري بغزارة وأشلاء الجزائريين كانت تملأ السلم.
احتمالات فرنسية
ويتزامن هذا الاعتراف مع احتفال الجزائريين بالذكرى الخمسين لاستقلال الجزائر، وقبيل الزيارة الرسمية التي ينتظر أن يقوم بها هولاند للجزائر في بداية ديسمبر/كانون الأول المقبل. وكذلك في خضم مطالبة مستمرة من الطبقة السياسية والرسمية، ومن مختلف الفعاليات في الجزائر، بضرورة اعتراف فرنسا ب«جرائمها» ضد الشعب الجزائري خلال الفترة الاستعمارية.
وكان مصدر ديبلوماسي فرنسي قال مؤخرا ان الاعتراف بما يعتبره الجزائريون جرائم استعمار، والاعتذار عنها غير وارد في الدبلوماسية الفرنسية وينبغي عدم توقع شيء كهذا من زيارة الرئيس هولاند، التي يجري الإعداد لها من الطرفين حاليا». وأوضح أن «خطوة كبيرة مثل التي يريدها الجزائريون، لا يمكن أن يتصرف فيها أي مسؤول في فرنسا حتى لوكان رئيس الدولة. بمعنى أنه ينبغي أن يتحقق حولها إجماع، وهو ما لم يتوفر حتى الآن» وأضاف: «أقصى ما يمكن أن يفعله السيد هولاند عندما يزور الجزائر، هو إدانة الاستعمار بوصفه ظاهرة عانت منها شعوب شمال أفريقيا في القرنين ال19 وال20. وندرك في فرنسا أن ذلك أقل مما يتوقعه الجزائريون منا، ولكن نرى أن الحكم على الاستعمار بأنه كان ظالما وبشعا ومستغلا لثروات الشعوب التي سيطر عليها، مبادرة قوية من جانبنا من شأنها أن تخفف من الأحقاد الموروثة عن الماضي الاستعماري».
وتابع المصدر قائلا إن هولاند سيبحث مع الجزائريين عدة ملفات اقتصادية وسياسية، تتعلق بالصعوبات التي تواجهها الاستثمارات الفرنسية بالجزائر، والوضع المتفجر في شمال مالي، وأزمة الرهائن الفرنسيين والجزائريين المحتجزين لدى الإرهابيين، مشيرا إلى أن هولاند سيتطرق إلى ملف أملاك الفرنسيين التي تركوها بالجزائر بعد مغادرتها إثر الاستقلال عام 1962، والتي ما زالوا يطالبون بها.
وكان الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي أدان الاستعمار عندما زار الجزائر نهاية 2007 ودعا إلى «عدم تحميل الأبناء مسؤولية ما فعله آباؤهم»، وذلك في إشارة إلى أن الأجيال الفرنسية التي جاءت بعد الاستقلال، وهوواحد منهم، وقال «ينبغي أن لا يطلب منهم الاعتذار عن جرائم ارتكبها غيرهم من الفرنسيين قبل أكثر من نصف قرن». واستاءت التنظيمات الجزائرية المهتمة بالتاريخ وثورة التحرير من موقف ساركوزي، وتوقع متتبعون استمرار الجفاء الذي يميز العلاقات بين شريكين اقتصاديين كبيرين بمنطقة حوض البحر الأبيض المتوسط.