كان من عادة المحررين الثقافيين في الصحافة التونسية مراجعة الأحداث الثقافية التي مرت وتبدأ هذه المراجعات عادة من الأسبوع الثالث لشهر ديسمبر، وهذا فعل ثقافي تدأب عليه جميع الصحف والمجلات الاسبوعية حيث تجري استضافة عدد من الأدباء لتلخيص قراءاتهم وتقديم آرائهم، ولكن في عام 2012 غاب هذا الأمر تقريبا عدا بعض الاستطلاعات التي ذهبت الى نجوم الغناء والموسيقى والمسرح. أنا لا أملك تفسيرا لهذا فكأن الفعل السياسي قد أقصى الفعل الثقافي وحتى حروب داحس والغبراء في بلاتوهات التلفزة دارت عن كل شيء الا الثقافة، وذهبت جلسات طويلة عريضة في مسائل الخلافات السياسية والحزبية في عمليات نقار لم أبالغ عندما وصفتها بحروب داحس والغبراء، ولأنها حوارات عبثية غالبا ولا ندري ماذا يريد أن يثبت المشاركون فيها؟ ولماذا يقع تصديع رؤوس المشاهدين بهذه النقارات ومكانها ليس بلاتوهات التلفزات ولا مصادع الاذاعات بل المجلس التأسيسي والندوات؟!
علق صديق على كل هذه الهيصة بقوله: أتمنى لو تمتنع التلفزات عن برامج كهذه ونذهب الى حوارات جادة حول الشأن الثقافي وكيف يتطور، وأية آفاق مستقبلية للابداع المكتوب، وما مكانة الاجناس الأدبية وكيف يجب أن تكون برامج الاحزاب والمنظمات الثقافية وجمعيات المجتمع المدني لما فيه اثراء الوجدان وتأصيل الابداع.
كان هذا المقترح مهما، ولنا أن نتصور المشهد فبدلا عن الذين يراهم الناس وهم يزبدون ويرعدون ويظنون انهم بهذا يكسبون أنصارا ومؤيدين فيأتيهم الفوز جريا في الانتخابات القادمة، أقول بدلا عنهم نرى مبدعين تونسيين وأساتذة جامعة يتناقشون بهدوء ورصانة وامتلاء فكري في شؤون الثقافة والفن وآفاق تطورهما، فالناس يريدون أن يستمعوا لما هو مفيد، أما العراك فهم يعرفون أنه صراع من أجل المكاسب السياسية، هذا يعارض ذاك. ينتظر ما يفوه به حتى يأتي بما يعارضه، وليت هؤلاء يدركون وأنا من موقع الشاهد الذي ينصت للرأي العام في الشارع التونسي أقول انّ هذا الذي يفعلونه أبعد الناس عنهم ولم يقربهم من أحد، وأن استغلال بساطة البعض الذين لهم مطالب قديمة جديدة مشروعة جدا لا يعني كسبهم سياسيا حتى وإن نجحوا في تهييجهم وجعلهم يتجاوزون الحدود التي يجب أن لا يتجاوزوها مطلقا مثل رمي رمزين من رموز السيادة رئيس الجمهورية ورئيس المجلس الوطني بالحجارة!! كيف؟! وماذا يقول من يتفرّج على هذا المشهد في بلد أنجز ثورته الرائدة سلميا؟!
وكذلك التهييج في سليانة وجعل الناس يغادرون مدينتهم ولو كان ذلك رمزيا باتجاه العاصمة، كل هذا من أجل إقالة الوالي رغم أن الوالي ليس هو الذي يقرّر بل هو الذي ينفّذ ما تقرّر وكل هذا رهين الظروف خاصة الأمنية، وإن تعكّرت فإن أصحاب المشاريع يهربون والجهة وحدها تكون الخاسرة لأن رأس المال جبان كما هو معروف في المقولة الاقتصادية !
يجب أن تذهب البرامج الى الثقافة، الى الابداع، الى الثقافة العامة وتدع السياسيين إلا في الحالات الموجبة المهمة، وإذا كان هناك من مشكل قانوني مثلا فالقضاء وحده كفيل به، وقد رأينا كيف تحولت بعض بلاتوهات التلفزة الى قاعات في محاكم وتبارى المحامون ورجال قانون في مرافعات من المؤكد أن مكانها ليس التلفزة وذلك من أجل خلق رأي عام مضاد ومنتصر لصاحب القضية، وكل هذا مضى كما رأينا ولم يؤثر بشيء لأن القضاء وحده هو الذي سيحكم لا المرافعات في ندوات التلفزة التي رأى فيها بعض من أجالسهم ابتزازا لا موجب له.
لقد رأينا حتى إذاعة تونس الثقافية رغم يقيننا بأنها خدمت وتخدم الثقافة التونسية والعربية تعريفا ومتابعة ببرامج ولقاءات جادة أخذت السياسة فيها نصيبا كبيرا وليس هذا مطلوبا منها دائما!
ولنا تساؤل مع الأحزاب المتوفرة بكثرة كاثرة والحمد للّه هو متى تدخل الثقافة في برامجكم لا كنصّ ديكوري بل في قلب المتن من الاهتمام؟! لماذا كفّ محرّرو الثقافة في الصحف عن استعمال مصابيحهم في إنارة ما تخبأ أو عتم في هذا المشهد الثقافي الذي فيه الكثير مما هو جاد ومما هو مسؤول؟!