شكري بلعيد صديق ورفيق، من المناضلين الكبار الذين أقدّر صدقهم مع ذاتهم، والفاجعة في استشهاد شكري بلعيد، في دفاعه عن أفكاره وعن تونس ومسألة العدل والحرية التي ستظلّ معلّقة تونس الأبدية رغم الجروح والجراحات العميقة. ليس سهلا على الوطن تحمّل أن يغتال فيه مناضل وقائد عنيد مثل شكري بلعيد الذي يجمع بين تونسيته الأكيدة والشفافة، وبين انفتاحه على المطلق الانساني في ثقافته وإنسانيته.
لم يعرف الكثير من رفاق شكري غير صفوة الصفوة منهم أنه قبل أن يكون سياسيا إنما هو شاعر وحين تناهى إليّ خبر اغتياله لم أصدّق، وتدافعت العواطف والانفعالات ولم يعد عندي التمييز ممكنا بين شكري بلعيد المناضل، الذي أطّر وبحزم استثنائي شباب القصبة الحالمين والوافدين إليها من كل الجهات والجبهات. لم أميّز بين شكري المناضل السياسي وشكري الشاعر، وذات مفاكهة بيني وبينه، ذات مرّة حول الشعر، قال لي بجدية مرحة «بعد موتي سيُعرفُ شعري»، حين بالغت في الإلحاح عليه كما على كثير من الأصدقاء بالتعجيل بنشر دواوينه وكتبه.
إذا كان اغتيال شكري بلعيد حدثا سياسيا مربكا، فإنه بالنسبة إلي زيادة على ذلك، حدثا عاطفيا جارحا، لا يعني هذه المرة ، هذه العائلة السياسية أو تلك وإنما يعني الثورة وتونس: يعني الثورة التي لم تحقق محلوما واحدا فقط، به وهو الكرامة التي تهدر لدى التونسيين جميعا بصيغ مختلفة، ولم يسلم لا الهادر للكرامة وفاعل السوء في هذا البلد ولا ضحيته.
المنجز الوحيد والأكيد هو أن الشعب بتلويناته المختلفة قد فقد البوصلة والصبر والوعود الفيّاضة الكاذبة التي بغياب تحقيقها، لم يعد ثمّة ثقة في هذا الحزب أو ذاك من الذين يمسكون بدواليب السلطة السياسية.
إن الاحتكام الى اللّه أو «فكرة اللّه» و«التقوى» والاستلاف من السلف الصالح لم يعد يقنع الجياع والجائعات والمجروحين والمجروحات. إن هذا الشعب المنكوب في ثورته والمغدور بتاريخه، لم يعد يصدق فائض الخطابات حول الاصلاحات الادارية والجبائية حتى أن تغييرا وزاريا يتخذ له طابع المسلسل التركي، والأخطر من ذلك كله، هو اليأس في الشارع.
وحدث اغتيال شكري بلعيد وبهذا الشكل الجبان والمهين للذات التونسية، ولزمن الثورة التونسية، وللمحلوم به شبابيا في تونس أكبر علامة وأصدق دليل على فشلنا الجماعي على المستوى الثقافي والسياسي والاجتماعي بتفصيلات مختلفة.
لماذا اغتيال شكري بلعيد بالذات؟! لأنه حسب رأيي أسمى رمز فاعل لكتلة سياسية تنتصر حقا وحقيقة للفقيرات والفقراء والمشرّدين والمشرّدات، كتلة سياسية من شأنها أن تبرك الذين يريدون تأبيد بقائهم في الكراسي وأقصد تحديدا حزب النهضة الذي توسّمت في قادته بحكم العمر والمحنة والسجن أن يكونوا أكثر حكمة ورأفة بهذا الشعب وأقلّ جشعا وتكالبا على الكراسي أصل كل المآسي.
إن المناضل القائد الشهيد شكري بلعيد وإن فجع فيه أصدقاؤه وعائلته وبنتاه وزوجته، فإن فاجعة الوطن فيه أكبر وأكبر. دون مبالغة، إنه لمن النادر أن نجد قائدا ومناضلا سياسيا وحقوقيا في مستوى ما يتوفر عليه من صدق وصراحة جارحة ووضوح جارح. هل ان الوضوح الجارح والصراحة الجارحة في زمن تونس الثورة تعمي الخصوم السياسيين فتنوب لديهم النار على محاورة الأفكار؟!
إن من اغتال شكري يريد أن يرسل بمكتوب دموي الى الجميع، جميع من لا يرومون الانضباط للحزب الواحد، وللفكرة الواحدة وللرأي الواحد فيخلطون بفعل تراكم تاريخي وإرث حضاري ثقيل بين الشرك بالمعنى الديني وبين المشاركة بالمعنى السياسي. لقد كان شكري بلعيد محاورا كبيرا دون أن يكون مناورا صغيرا كما يريد له البعض أن يكون.
اليوم وقد فتح باب الاغتيالات السياسية وإن كان قد شرّع من قبل أخشى أن لا أحدا من التونسيين يملك مفاتيح غلقه، وهو ما يزيد في حزني على الوطن وعلى تاريخه وصورة التونسي عندما يجتمع بنفسه: هل تمّ الاقتصاد في الدّم بعد الثورة؟.. هل تمّ الاقتصاد في السّرقة بعد الثورة؟.. هل حقّقنا التوازن الجهوي بعد الثورة؟.. هل أصبحنا نحترم أنفسنا أكثر من ذي قبل أم أن فائض العنف والخوف من المجهول هو الذي يلفّ ويلتفّ على رقبة التونسيين حاكمين ومحكومين؟!
ويبقى اغتيال المناضل الشاب والجسور، أعنف رسالة ممكنة من قبل الماسكين بالسلطة، والمتوثّبين للمداومة والديمومة فيها بغفلة تاريخية قاتلة عن الحكمة القديمة والبسيطة والعميقة «لو دامت لغيركم لما وصلت إليكم».
وإذا كان الوطن لم يوفر لشكري بلعيد مواسم فرح فليخصّه الوطن بيوم حداد واحد. لقد كتبت ذات يوم «كم من جرعة يمكن لتونس الوطن أن تتحمّل من التجمع الدستوري الديمقراطي» وها إني أحيّنها هذه الجملة «كم من جرعة من العنف لتونس الثورة أن تتحمّل» والرسالة موجّهة الى «النهضة» وجيرانها.