لم يتعوّد التونسيون على الاغتيالات السياسية، ورغم ذلك فهم يشمئزون منها ويشعرون بالقرف تجاهها ويجعلون من الشخص المغتال أسطورة. وليس أدل على ذلك من تعاطف التونسيين الكبير مع شخص السيد رفيق الحريري رئيس وزراء لبنان الأسبق. أما عن الشخصيتين التونسيتين اللتين تعرضتا للاغتيال وهما الشهيد الكبير فرحات حشاد والزعيم الوطني صالح بن يوسف فإن ذكرهما مازال يعبق بالطيب الى اليوم، لذلك كانت عملية الاغتيال التي تعرض إليها المرحوم شكري بلعيد أمين عام حزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد، مرفوضة لدى الرأي العام كل الرفض، ليس خوفا من الموت كما يذهب في ظن الذين خطّطوا وقرّروا الاغتيال، بل رفضا لهذا الأسلوب الذي يخلّف الاشمئزاز والقرف أكثر من الفزع والرعب.
ولئن كنت حادثة اغتيال شكري بلعيد قد ارتقت به الى درجة الشخصيات الوطنية التاريخية الخالدة ومثلت منعرجا في تاريخ تونس المعاصر فحولت وجهته أيما تحويل وأعادت خلط أوراقه سياسيا وثقافيا واجتماعيا إلا أنها تبقى جريمة قتل وحشية تتطلب الكشف عن عناصرها المنفذة والمخططة كما تضع الفرضيات الممكنة لما بعد هذه العملية الخطيرة. ومن تلك الفرضيات أسئلة تقول:
هل ستشهد تونس سيناريو كذلك الذي شهده لبنان بعد اغتيال رفيق الحريري حيث عمد القتلة الى مواصلة قنصهم لشخصيات سياسية وثقافية واعلامية بارزة في تحدّ سافر لكل شيء، وحسب خطة مدروسة بعناية انتهت بتحميل المسؤولية السياسية لطرف معين دون أن تقيم عليه الحجة والدليل الجنائيين.
هل ستشهد تونس سيناريو شبيها بالسيناريو الجزائري الذي لم يكن يمثل حربا أهلية كاملة الشروط، وإن كان يشبهها في عدد القتلى والضحايا حيث تعددت المجازر الجماعية وأصبحت الانفجارات الارهابية مشهدا يوميا. وحيث تعددت وسائل القتل من الذبح الى الإعدام بالرصاص الى العمليات الانتحارية العمياء، وحيث أيضا وجهّت عمليات القتل الى كل من هبّ ودبّ ووضعته الأقدار في طريق آلة الموت المكتسحة ولم توجه الى عناصر من النخبة تأثيرها السياسي والإعلامي كبير، وانتمائها العقائدي والفكري معروف، ومواقفها السياسية معلنة.
هل ستشهد تونس نهاية لهذه الأعمال ويكون شكري بلعيد آخر ضحايا هذه الظاهرة؟ وكلّها فرضيات لا جواب عنها الى الآن، لكن الثابت أنه توجد قائمة في بعض الشخصيات المطلوب اغتيالها والثابت كذلك أن بعض الأطراف قد تقدم على عمليات إرهابية مدوية. أما عن القائمة فمطلوب اغتيال عناصرها لغاية سياسية نظرا لنشاطها ذي العلاقة المباشرة مع السياسة وتصدّرها للمشهد العام. وأما عن العمليات الارهابية فهي إن تمت فسوف تكون ضد الدولة ككل. ولكن الأيادي التي قد تقدم على هذه الأفعال هي بالإجماع عناصر ذات توجهات دينية كما يقول المراقبون، فهي:
تيارات تدعو الى العنف وتحرّض عليه. تيارات تمارس العنف والإرهاب. تيارات تريد الانتقام لعناصرها.
ففي تونس مثلا وبعد 23 أكتوبر تم خلال المواجهات مع قوات الأمن أو الجيش قتل 16 شخصا بينهم 13 ينتمّون الى التيارات الدينية.
إلا أن الجريمة السياسية تفترض اضافة الى هؤلاء امكانية وجود طرف آخر قد يكون دولة وقد يكون تنظيما غايته إما تغيير وجهة لوضع، أو قلب وضع، أو انهاء مرحلة. وهذا ما تصرّ على طرحه التيارات الدينية، تأسيسا واحتماء بنظرية المؤامرة، ودرءا لتهمة عواقبها خطيرة، ومنعا لتشويه كبير. لكن في حالة شكري بلعيد (وحتى عند التمحّص في الأسماء التي تحتويها قائمات الموت) يلاحظ المتأمّل بيسر أن عنفها موجّه لأطراف حداثية علمانية، متهمة بالكفر، أو بتعطيل المشروع الاسلامي. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن تونس لا تمثل لدى دول أخرى أو تنظيمات مأجورة لدى تلك الدول، حاجة استراتيجية خاصة (على غرار لبنان مثلا) بل لعلّها تمثل لها أنموذجا يجب أن ينجح، وبلدا يجب الرهان على تطوّره. فما هو الداعي لخلط الأوراق فيها إذن؟ لا شيء البتّة بل إن مصلحة تلك البلدان تكمن في استقرار تونس، وفي أمنها، ثم إن الشخصيات التونسية المنتقاة هي كلّها شخصيات سياسية لا تؤثّر على أوضاع اقليمية ولا امتدادات وولاءات لها خارج تونس ولا مسعى يحركها غير تغيير المعادلة السياسية فيها، أي في داخلها، لذلك يبدو قرار اغتيالها داخليا لا خارجيا، وهو ما يدخل في باب الجريمة وليس المؤامرة الكبرى، خصوصا أن الأمن فيها منخرم، والصراعات على أشدها. وخصوصا أن تونس سبق أن عاشت حادثة قتل سياسي تعرّض لها عضو حركة نداء تونس المرحوم لطفي نقض.
لقد خلقت هذه الاوضاع حديثا حول وزارة الداخلية أصبح يتردد منذ أن ذكر السيد أحمد نجيب الشابي بأن هذا الجهاز تم اختراقه، ثم أصبح يدعو الى عزل وزير الداخلية الحالي الذي سبق وأن وُصف بأنه رجل دولة. والغريب أن هذا الوصف أطلق عليه ليس انطلاقا من ممارسات وأعمال بوّأته تلك المكانة،بل انطلاقا من تصريحات صحفية وآراء كان يردّدها بين الحين والآخر، في حين أن جردا بسيطا لأحداث سابقة قد تقود الى عكس الخلاصات الأولى حول الوزير.
وهذه الأحداث تتواتر كالتالي: أحداث 9 أفريل. اغتيال لطفي نقض الهجوم على السفارة الأمريكية أحداث سليانة حادثة 5 ديسمبر في بطحاء محمد علي اغتيال شكري بلعيد
وبين هذه الأحداث، وقائع أخرى كثيرة وجمّة تتخللها ايضا توتر كبير في علاقة الوزير بنقابات الأمن، وشبهات كثيرة تحوم حول عدم قدرته على إيقاف العنف الموجّه ضد الأحزاب والجمعيات المدنية، وغضّه الطرف عن مشاركة عناصر مدنية لا صفةلها مع عناصر أمن في ضبط الشارع عند قيام المسيرات السياسية. إن هذا الأمر يعني الفشل المادي والسياسي في إدارة شؤون الوزارة.
الأخطر، أنه يضرب في الصميم مفهوم الشرعية المتباكى حولها حاليا، فالدولة التي لا تحمي الأمن تفتقد أولى وسائل شرعيتها والشرعية عندما تتهم بأنها تقف وراء العنف أو التحريض عليه تفقد بالضرورة تعريفها. فكيف يكون الحال عندما يكون متنازعا حتى حول قانونيتها ودستوريتها كما هو الحال الآن في تونس.
وكما طُرح مجدّدا بعد اغتيال شكري بلعيد المرفوق بدعوة رئيس الحكومة نفسه الى تشكيل حكومة هي لدى الرافضين متجاوزة للشرعية بما أنه يجب أن تزكّى من السلطة التأسيسية.
وإذا ما افترضنا أن هذا الأمر صحيح، فهل يعقل أن لا تكون في الدولة الا شرعية واحدة أو الا مؤسسة واحدة فيما بقيت الأخرى مؤسسات لا شرعية.وهل يعقل أن يقع الاكتفاء بالاحتماء بعنوان واحد للشرعية، والحال أن بقية العناوين مصابة بالسكتة القلبية، إن الشرعية المتحدث حولها الآن سياسية صرفة، فهي قانونيا قابلة للدرس والنظر.
وقد أتى اغتيال شكري بلعيد، ليفقد الحجة على كل محاولة جديدة لبناء صنم جديد، ولينزع القداسة على كل ما يفتعل له قداسة. وليعيد الصراع السياسي في تونس الى حقيقته، وهي أنه صراع مفتوح على كل شيء، تتحكّم فيه موازين القوى، ولا يخضع لا للقانون ولا للمبادئ الجمهورية، ولا لمفهوم السلمية كما يروّج لذلك دعاة العنف ومنظروه.
إن عدم تكرار ما حصل لشكري بلعيد وقبله لطفي نقض لا ضمانة له الا كشف الحقيقة أولا، وتحميل كل طرف المسؤولية السياسية والجنائية، ومحاسبة جميع هؤلاء أيّما حساب.