تونس تشارك في معرض ليبيا للإنشاء    غرفة القصابين: معدّل علّوش العيد مليون ونص    نيويورك: الشرطة تقتحم جامعة كولومبيا وتعتقل عشرات المؤيدين لغزة    تونس: الإحتفاظ بعنصر تكفيري مفتّش عنه    علم تونس لن يرفع في الأولمبياد    جبل الجلود تلميذ يعتدي على أستاذته بواسطة كرسي.    مهرجان سيكا جاز: تغيير في برنامج يوم الافتتاح    الفيلم السّوداني المتوّج عالميا 'وداعًا جوليا' في القاعات التّونسية    سامي الطاهري يُجدد المطالبة بضرورة تجريم التطبيع    دعما لمجهودات تلاميذ البكالوريا.. وزارة التربية تدعو إلى تشكيل لجان بيداغوجية جهوية    الطبوبي في غرة ماي 2024 : عيد العمّال هذه السنة جاء مضرّجا بدماء آلاف الفلسطينين    عاجل: وفاة معتمد القصرين    انطلاق فعاليات الاحتفال بعيد الشغل وتدشين دار الاتحاد في حلتها الجديدة    بنزرت: وفاة امرأة في حادث اصطدام بين 3 سيارات    اليوم: طقس بحرارة ربيعية    تونس: 8 قتلى و472 مصاب في حوادث مختلفة    البطولة العربية السادسة لكرة اليد للاواسط : المغرب يتوج باللقب    الهيئة العامة للشغل: جرد شركات المناولة متواصل    اليوم: تونس تحيي عيد الشغل    جولة استكشافية لتلاميذ الاقسام النهائية للمدارس الابتدائية لجبال العترة بتلابت    نتائج صادمة.. امنعوا أطفالكم عن الهواتف قبل 13 عاماً    اليوم.. تونس تحتفل بعيد الشغل    اتفاق لتصدير 150 ألف طن من الاسمدة الى بنغلاديش سنة 2024    الليلة في أبطال أوروبا... هل يُسقط مبابي «الجدار الأصفر»؟    الكرة الطائرة : احتفالية بين المولودية وال»سي. آس. آس»    «سيكام» تستثمر 17,150 مليون دينار لحماية البيئة    أخبار المال والأعمال    وزارة الفلاحة تضبط قيمة الكيلوغرام من التن الأحمر    لبنان: 8 ضحايا في انفجار مطعم بالعاصمة بيروت وقرار عاجل من السلطات    موظفون طردتهم "غوغل": الفصل كان بسبب الاحتجاج على عقد مع حكومة الكيان الصهيوني غير قانوني    غدا الأربعاء انطلاقة مهرجان سيكا الجاز    قرعة كأس تونس للموسم الرياضي 2023-2024    اسقاط قائمتي التلمساني وتقية    تأخير النظر في قضية ما يعرف بملف رجل الأعمال فتحي دمّق ورفض الإفراج عنه    تعزيز أسطول النقل السياحي وإجراءات جديدة أبرز محاور جلسة عمل وزارية    غدا.. الدخول مجاني الى المتاحف والمواقع الاثرية    هذه تأثيرات السجائر الإلكترونية على صحة المراهقين    قفصة: تواصل فعاليات الاحتفال بشهر التراث بالسند    وزيرة النقل في زيارة لميناء حلق الوادي وتسدي هذه التعليمات..    تحذير من برمجية ''خبيثة'' في الحسابات البنكية ...مالقصة ؟    ناجي جلّول: "أنوي الترشّح للانتخابات الرئاسية.. وهذه أولى قراراتي في حال الفوز"    الاستثمارات المصرح بها : زيادة ب 14,9 بالمائة    عاجل/ "أسترازينيكا" تعترف..وفيات وأمراض خطيرة بعد لقاح كورونا..وتعويضات قد تصل للملايين..!    مختص في الأمراض الجلدية: تونس تقدّمت جدّا في علاج مرض ''أطفال القمر''    يوم 18 ماي: مدينة العلوم تنظّم سهرة فلكية حول وضعية الكواكب في دورانها حول الشّمس    مدينة العلوم بتونس تنظم سهرة فلكية يوم 18 ماي القادم حول وضعية الكواكب في دورانها حول الشمس    إحداث مخبر المترولوجيا لوزارة الدفاع الوطني    أمير لوصيف يُدير كلاسيكو الترجي والنادي الصفاقسي    إصطدام 3 سيارات على مستوى قنطرة المعاريف من معتمدية جندوبة    خبراء من منظمة الصحة العالمية يزورونا تونس...التفاصيل    ربع نهائي بطولة مدريد : من هي منافسة وزيرة السعادة ...متى و أين؟    التوقعات الجوية اليوم الثلاثاء..أمطار منتظرة..    فرنسا تعزز الإجراءات الأمنية أمام أماكن العبادة المسيحية    الخليدية .. أيام ثقافية بالمدارس الريفية    زيادة في أسعار هذه الادوية تصل إلى 2000 ملّيم..    القواعد الخمس التي اعتمدُها …فتحي الجموسي    خطبة الجمعة .. أخطار التحرش والاغتصاب على الفرد والمجتمع    منبر الجمعة .. التراحم أمر رباني... من أجل التضامن الإنساني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«الشروق» على خط النار في سوريا (11-11) : تفاصيل رحلة الموت في فرع المخابرات..وزُجّ بنا في أقبية سجون المخابرات
نشر في الشروق يوم 15 - 02 - 2013

خلال الليلة الفاصلة بين الجمعة 18 والسبت 19 جانفي الفارط، عشت لحظات انسانية ومهنية صعبة واستثنائية، بدأت بالاحتجاز ومرت بالتحقيقات وانتهت بدخول أقبية سجون المخابرات السورية في العاصمة دمشق.

جديدة عرطوس ريف دمشق دمشق (الشروق) أمين بن مسعود

في منطقة «جديدة عرطوس» بريف دمشق، كان الاحتجاز والايقاف، لأكثر من 4 ساعات في حاجز عسكري يطلق عليه اسم «الفصول الأربعة»، وهو حاجز التماس الأول بين القوات النظامية وقوات المعارضة المسلحة.

هنا قتل الكثيرون من الضباط والجنود النظاميين، وهنا أيضا تكمن الخاصرة الرخوة للقوات السورية حيث تطل منطقة «جديدة عرطوس» على مطار المزة العسكري وعلى عدد كبير من مباني المخابرات العامة والأمن السوري، وهو الأمر الذي يفسر حالة التوتر والتأهب والاستنفار التي وجدت عليها أفراد الحاجز العسكري.

على بقايا سرير متهاو، وبقايا اريكة متساقطة، وبقايا منزل مهجور وقع اقتيادك.. عيون تبصرك بكثير من الريبة والتوجس وأخرى تلحظك بكثير من التضامن والمؤازرة قبل أن تقول لك.. (بسيطة هسة تروح على الشام..) بسيطة الآن تعود الى دمشق.. بيت مهجور يطل على طريق سيارة مهجور بدوره الا من عربات الدوشكا وسيارات رباعية الدفع.. فيما تطل فوهة المدفعية الثقيلة على البيت مطلقة نيران قذائفها على معاقل المعارضة المسلحة..

رائحة البارود والذخيرة والتراب الذي تثيره المدفعية الثقيلة بعد كل صلية من صليات نيرانها تعمان الفضاء نارا واديما، فيما تتكفل السماء بإسقاط رذاذ من المطر الخفيف الذي يمسح عن أرض الشام.. بقايا أوار نيران الاحتراب.

يجتمع افراد الحاجز العسكري حول حطب مشتعل للتدفئة، يدعوك بعض الأفراد الرسميين من الجيش الى التحلق حول النار وتدخين سيجارة سورية والجلوس حذوهم، قبل أن يتدخل طرفان مدنيان ليزجراك ويسحبا الدعوة منك ومنهم بكافة حيثياتها ومكوناتها.

تمضي الساعة تلو الساعة، وأنت تجيب عن ذات الأسئلة المطروحة منذ لحظة الاحتجاز.. متى دخلت سوريا، من اين دخلتها، لماذا دخلتها، ما هو اسمك الثلاثي، ماهي الجريدة التي تشتغل لصالحها.. واي نوع من التقارير الاعلامية التي تود القيام بها..؟أسئلة لا تكاد تنتهي.. وما ان تكمل الاجابة عن كلها حتى تعيد الكرة مرة أخرى..

صوت جهاز اللاسلكي لدى قائد حاجز الفصول الأربعة، لا ينقطع منذ لحظة احتجازك، هو في اتصال مباشر مع من اسماهم «سيدي» في الجهاز، والذين يفرضون عليه وعليك اعادة الاجابة عن ذات الأسئلة المطروحة منذ أول الايقاف.

تنظر الى السماء، فتجد قبس النهار يودع الفضاء، وغلس الليل يستل مكانه من تحت لباس النهار.. لا تزال النيران مشتعلة في قطع الحطب.. ولا يزال بعض مؤيديك يبشرونك بالقول «بسيطة هسه هتروح على الشام». يدق اللاسلكي بقوة، يرفع قائد الحاجز، يمهمه وينظر اليك بحذر.. يضع السماعة.. ويهمس في أذن بعض الأعضاء أن جردوه من كل متاعه ..

بعد التفتيش الدقيق، يأخذون منك عينك الصحفية (المصورة الرقمية) وذاكرتك الاعلامية المتجسدة في بعض التقارير الصحفية والاستجوابات التي جمعتك بقيادات المعارضة السياسية السورية، وعصارة معايشتك للراهن اللبناني السوري متجسدة في ملاحظات حول المشهد الحدودي بين البلدين.

وبعد التفتيش الدقيق، اخذوا منك ما تكون به تونسيا في كل بلدان العالم، جواز سفرك، وما تكون به صحفيا أمام كل العالم، بطاقة صحفي محترف.. وما يجعلك غنيا عن احسان الآخرين اليك.. بعض النقود..

كظلمة تلك الليلة الفاصلة بين الجمعة والسبت (18 19 من جانفي الفارط)، كانت السيناريوهات العاصفة بخيالك سوداوية كاحلة عاجزة عن تلمس مخارج لوضع الأحتجاز خارج سياق الجهاز الأكبر المشرف على حاجز الفصول الأربعة..

وعلى غرار السيناريوهات المتضاربة التي تدك ذهنك.. لم يهدأ تبادل النار بين الجيش السوري والمجموعات المسلحة والذي تتصاعد وتيرته خلال ساعات ليل الشام الطويلة.. وفجأة وقفت سيارة رباعية الدفع، نزل منها مقاتلون شباب عرفوا أنفسهم بأنهم من المخابرات «فرع الدوريات» وجاؤوا لنقل المعتقل الى مبنى المخابرات.. للتحقيق..

وفجأة أيضا، صرت معتقلا ومحتجزا يستوجب عليك الوقوف أمام المحققين للاقناع ببراءتك.. وفجأة صرت في دائرة الاتهام والشكوك على أقل تقدير.. وعليك أن تحمل كل كلامك وخطابك وكل الاجابات التي كررتها أكثر من عشر مرات في حاجز الفصول الأربعة الى آذان أخرى ووجوه أخرى ستطرح عليك ذات الأسئلة واستفسارات أخرى أيضا.

اقترب منك أحد المدنيين المسلحين، صرخ في وجهك أن التفت الى الأمام وضع يديك وراء كتفيك حتى توضع الأصفاد في معصميك.. تشعر بالأصفاد البلاستيكية تلامس أصابعك وقبل أن تنغلق على معصميك تسمع صوت العقل من وسط الجلبة يقول: لا .. لا.. نضعه أمام العميد وهو حر في مصيره.. لا نفعل ما لم يأمرنا به العميد. يأخذك افراد مجموعة الدوريات في فرع المخابرات معهم في السيارة.. بعد أن تسلموا كل وثائقك ومتاعك.. يفكرون في وضعك في المكان الخلفي واذ بصوت الحلم يعلو مجددا فيهم أن ضعوه في الصندوق الخلفي.

يهمس قائد الحاجز في فرد من المجموعة.. أن لا تلمسوه.. فيطمئنه قائلا: عشر دقائق ويعود الى البيت لا تخشى شيئا.. ينظر اليك ذات المتضامن معك منذ الوهلة الأولى، يدق عليك الشباك يبتسم في وجهك ويقول لك مرة اخرى: بسيطة هسه هتروح على الشام .. ترد اليه الابتسامة بابتسامة حانقة وتقول في صمت.. هسه أنا رايح على الشام ولكن ليست الشام التي جئت من اجلها ولا الشام التي أحبها وأعشقها..

من الاعتقال الى التحقيق

تسير بك السيارة.. وتسير بك الأفكار يمينا ويسارا.. في كل حاجز عسكري تمر منه العربة العسكرية يعلن سائقها بأن مجموعته تعود الى فرع الدوريات وهو القسم الثاني من المخابرات العامة مع فرع فلسطين الا الغريب الجالس حذوهم.. عشر دقائق، كانت كافية لوصول العربة الى مبنى المخابرات العامة.. ولتجاوز طريق مقفر من السيارات والأشخاص زادت الرياح العاتية العابثة بأغصان الأشجار وأوراقها من وحشة المكان والزمان.. تأخذك طرق التفافية ومسالك وعرة تحيط بجدار اسمنتي عازل شاهق يعمل أعوان البناء على تشييده حول مقر المخابرات قبل أن تنفتح أمامك بوابة حديدية.. لتعلن عن دخولك مبنى المخابرات العامة السورية.. هو المبنى الذي يخشى السوريون مجرد التطرق اليه أو الحديث عنه.. هي العبارة الوحيدة أي المخابرات العامة السورية التي يصر السوريون على ارداف دعوة «يالطيف اللطف» عند الاشارة اليها خلال أحاديثهم الشامية..

يقولون عنه كل السوريين الذين التقتهم «الشروق» في دمشق الشام إن الداخل اليه مفقود والخارج منه مولود وفق هوى المخابرات السورية ورغبتها. مكانان يمقتهم الشعب السوري.. ويتوجس من مجرد الحديث عنهما.. مبنى المخابرات العامة ومبنى الداخلية.. يصطحبك شاب عشريني مسلح الى مكتب العميد الموجود في الطابق الثاني من أحد مباني المخابرات ..

يأمرك بالانتظار أمام مكتب العميد.. يدخل فيغيب برهة من الزمان.. وفي الأثناء تنظر الى ساعتك فتجد عقاربها تشير الى التاسعة ليلا.. فيما تنظر اليك عيون الداخلين والخارجين من المكاتب المتاخمة لمكتب العميد بكل استغراب وقسوة..

يعود اليك الشاب المسلح وفي عيونه كل الأجوبة المخيفة والمسترابة.. قائلا بكل اسف: سيتم التحقيق معك « تحت “.. و«تحت» في عرف أهل المخابرات في كافة الدول العربية وبلا استثناء يعني مكاتب التحقيق والتعذيب والتنكيل بالذات البشرية.. أيا كانت.. ونزلت الى «تحت»، مع الشاب العشريني الذي أدخلك دهاليز التحقيق ومكاتب الاستنطاق.. وأروقة الاستجواب الاستخباراتي..

في الأروقة الصفراء الكئيبة والمخيفة، ترى وجوها مصفرة مرعوبة ملتفتة الى الجدار وألسنتها تلهج قائلة: ما شان الله يا سيدي.. بيدي أروح.. والله مالي دعوة يا سيدي ..

تذوب في المشهد، ألما وخوفا واستفسارا، فإذا بصوت الشاب يخرجك من ذاك المشهد ليرجعك الى مشهدك الحساس.. لتلج معه الى مكتب تحقيق رجل خمسيني قصير القامة ضعيف البنية.. ملامح وجهه تدل على الطيبة ونبرة صوته أيضا تؤكد صدق انطباعك عنه..

ما بين صوت الأناشيد التلفزيونية التي تبثها القناة السورية الأولى مشيدة بالجيش السوري وبين اصوات الصفعات الموجهة الى من دخلوا معك مكاتب التحقيق، وبكاء الألم من الضربات الموجعة والعبرات النابية التي تكال للموقوفين.. ينظر اليك المحقق بهدوء ويقول لك أجبني عن بعض الأسئلة..

تستعد للاجابة، فإذا به يطرح ذات الاستفسارات التي أجبت عنها مرارا وتكرارا عند حاجز الفصول الأربعة.. ولكنك لا تجد من سبيل سوى اعادتها على مسامعه.. يطلق ابتسامة من تحت بلور النظارات الطبية، ويستسمحك عذرا لمغادرة المكتب قائلا: «بسيطة بسيطة», ليعود اليك وملامح وجهه المنشرحة قد انقلبت الى عبس وحيرة..

يرتب أوراق التحقيق ويأمرك بالتحول معه الى مكتب تحقيق ثان.. تقول في نفسك «يبدو أنها غير بسيطة بالمرة».تمر عبر رواق ضيق، مكاتب التحقيق مفتوحة عن يمينه وشماله، وأصوات البكاء والصراخ والألم والتعذيب والتنكيل تهز المكان هزا.. تجلس على أريكة متهاوية في انتظار المحقق الذي قطع استحمامه وفق ما قال ليتحدث اليك..

يضع أمامه كل متاعك ووثائقك.. تقتنص عيناه »«بطاقة زيارة carte visite» المعارض السوري لؤي حسين رئيس تيار بناء الدولة السورية والذي قضى في المخابرات السورية أفضل سنوات شبابه.. سجنا وتعذيبا واعتقالا.. كما تصطاد عيناه بطاقة زيارة ثانية للمعارض عارف دليلة والذي أمضى في سجون النظام أكثر من تسع سنوات بتهمة السعي الى تأليب الرأي العام واثارة القلاقل. وتثيره بطاقة لؤي حسين بقدر ما أثاره الاستجواب الذي أجريته معه والتصريحات التي أدلى بها لجريدة «الشروق».

يحارب غضبه واستفزازه قليلا.. الا أن مسودة الاستجواب مع عارف دليلة وأحمد العسراوي القياديين في هيئة التنسيق الوطنية المعارضة للنظام السوري تطلق شرارة غضبه من عنانه ليتهمك قائلا: أنت معارض لسوريا وللنظام وجئت من تونس الى سوريا لدعم المعارضة السياسية.. في سعيها لاسقاط النظام.. يصمت قليلا ليتابع في ثقة وعزة بالنفس: في سوريا لا توجد معارضة.. أتعرف شعار قناة الجزيرة الرأي والرأي الآخر.. في سوريا ثبت النصف الأول من الشعار وألغ النصف الثاني.. نحن الرأي النظامي والواحد والأوحد فقط.. مفهوم..

كان واضحا من حديثه أنك تجلس أمام صقر صغير من صقور النظام السوري.. صقر لم تنبت بعد مخالبه ولكنه جاهز للفتك بأي طرف يخالف موقفه أو حتى يتحفظ عليه..

صقر أشقر عيناه خضروان.. يخفي من تحت الابتسامة الغاضبة.. أشياء وأشياء.. لم تشأ الدخول معه في حوار أخلاقيات الصحافة وضوابط العمل الاعلامي المهني.. فلا السياق يسمح به ولا المتقبل يقبل بالانضواء تحت اطار احترام العمل الصحفي المهني والمستقل والحر.

لن يفهم ولن يتفهم أبدا أنك لم ولن تكون جزءا من جوقة دعائية جوفاء تخفي حقائق وجود معارضة وطنية تخاف على سوريا الوطن وتخشى انفراط وشائجه أكثر من بعض القيادات السياسية والميدانية التي ورطت البلاد والعباد والاقتصاد في أتون حرب داخلية الكل فيها خاسر والكل فيها مهزوم والكل فيها منكوب.. على حد تعبير نائب الرئيس السوري فاروق الشرع.

يستدعي محققا يافعا في السن ويأمره ببدء الاستجواب معك، فيما يأمر عونا ثانيا بفحص كل محتويات المصورة الرقمية والحامل USB وحتى هاتفك الجوال.. يأخذ المحقق اليافع المكان المقابل لك، يتناول باليمنى ورقة بيضاء، وباليسرى سيجارة محلية ينفث هواءها في الورقة ويطرح عليك ذات الأسئلة التي كنت قد أجبت عنها في حاجز الفصول الأربعة..

وبين سؤال أول حول هوية الأشخاص الذين التقيتهم في دمشق الشام وحول عزمك لقاء البعض من المعارضة المسلحة وسؤال ثان حول انتمائك السياسي وتنظيمك الحزبي المفضل في تونس، يطرح سؤالا ثالثا على رئيسه حول كيفية رسم كلمة أو تنقيط عبارة..

يأتي اليه تقرير مفصل حول محتويات الحامل USB وأن فيه مقالا حول اللاجئين السوريين في لبنان بعنوان «مآس اجتماعية وقنابل سياسية» نشر بتاريخ 14 جانفي 2013 في جريدة «الشروق»، يقرأ المقال كلمة كلمة ويخط بالحبر الأخضر العبارات التي قد تدين صاحبها أو على الأقل تخرجه من الزاوية الرمادية الاعلامية التي وضع نفسه فيها.

وبعد ساعة من الأسئلة المكررة منذ 9 ساعات على الأقل، تختم على أقوالك ببصمة السبابة اليسرى، فيما يبتسم اليك المحقق ورئيسه الأشقر قائلين لك: ستذهب ان شاء الله الى فلسطين.. تضحك وتقول: أريد أن أذهب اليوم قبل الغد لتحريرها من الصهاينة المغتصبين.. يردان عليك بكل برود واستهزاء: ليست فلسطين الأرض وانما الفرع.. ستذهب الى فرع فلسطين في المخابرات العامة.. هناك سيطرحون عليك بعض الأسئلة فقط لا غير.. هنا هزت أذنيك عبارة قرأتها في أحد كتب عبد الرحمان منيف، في فروع المخابرات العربية: الداخل مفقود والخارج أيضا مفقود..

ودخلنا سجون المخابرات

الساعة تشير الى منتصف الليل، يدخل الرجل الخمسيني وقد تحول انطباعك عن طيبته الى يقين الى المحقق مخبرا اياه بأمر جعل الأخير يتراجع عن قرار ترحيلك الى فرع فلسطين ليتم وضعك رهن الاحتجاز في مكان لا يقل سوءا عن الفرع.

قادك الخمسيني الى مكتب تحقيق ثالث ووجهه مليء بالحيرة والقلق، أردت أن تستجلي أسباب حيرته وتوجسه، فإذا بالاجابة تأتيك واضحة وجلية ومقنعة أيضا من داخل مكتب التحقيق الثالث.

خمسة أنفار لا يقل وزن الواحد منهم عن القنطار عيونهم شاخصة وغاضبة، أياد كالحة من فرط الاستعمال في أغراض التحقيق والاستجواب، وجوه مكفهرة تنتظر لحظة الانقضاض على الفريسة..

خمسة أنفار ينظرون اليك باشمئزاز فيما قائدهم الأضخم منهم جميعا، قد تكرش حتى عاد بلا رقبة، يتربع على كرسي متحرك.. وتكاد شفتاه تنطق ببعض الكلمات غير المفهومة ..

ينظر اليك مليا ثم يلتفت الى القنوات السورية التي تبث تقارير عن حرب ضروس تقودها القوات السورية ضد المرتزقة والمقاتلين العرب الأجانب وعلى رأسهم التونسيون. يعيد النظر اليك ويقول لك.. أنت التونسي.. فتجيب.. أنا الصحفي.. يرد: عندي بعض الأسئلة التي أود طرحها عليك.. فتجيب تفضل.. فإذا به يكرر على مسامعك ذات الأسئلة التي أجبت عنها منذ حاجز الفصول الأربعة.. يستمع اليك ويقول: مضبوط نفس كلام التحقيق الأول.. تعال وابصم بسبابة اليد اليسرى..

يرفع سماعة التلفون ويقول لصاحبه: فرغ الزنزانة لدينا ضيف أجنبي.. ينهي مكالمته ويأمر أحد الأنفار الخمسة بتفتيشك تفتيشا كاملا قبل دخول الزنزانة. ينزوي بك شاب تجاوز عتبة الثلاثين بقليل ويبدأ بتفتيشك قطعة قطعة من الثياب.. تصل الى الثياب الداخلية وعندها يرفض ارغامك عن أشياء لا تقبلها.. يطلب منك بكل أدب المغفرة والتجاوز.. فهذا عمله..

تعود الى مكتب التحقيق، يأمرك أضخمهم بخلع أربطة الحذاء.. والنزول الى أقبية سجون المخابرات العامة فرع الدوريات.. تفتح بوابة الزنزانات، تنزل قدماك السلم، ترى معذبين ومنكل بهم بألبسة داخلية وقد عصبت أعينهم وشدت ايديهم من معاصمهم من على حبل متهاو وقد أرغموا على الوقوف على ساق واحدة.. فيما السجان وراءهم ينتظر لحظة وضع القدم المرفوعة ارضا ليهوي عليهم بالعصا.. وقد حصل..

تنزل الدرج.. فإذا بمعتقل معصوب العينين يقف منحنيا أمام دورات المياه والرائحة الكريهة تنبعث في وجهه والويل له ان استقام.. وقد استقام.. تنزل الدرج.. فإذا بمعتقل معصوب العينين بلباس داخلي والدموع تتقاطر من مقلتيه والغصة تفطر قلبه.. من فرط الضرب والتنكيل الذي ناله.. وسينال أكثر منه.. من الدرج.. الى رواق السجن، مشاهد فظيعة ومؤلمة.. كهرباء مسلطة على وجوه المعذبين والمعذبين.. وأضواء تكشف عن جوانب مرعبة داخل اقبية سجون المخابرات السورية.. تقف أمام الزنزانة.. يفتح لك السجان بابها.. قائلا لك في استهزاء.. يا مرحبتين..

رحلة العذاب

تقعد في زاوية الزنزانة المستطيلة ,وقد ضممت رجليك الى صدرك ووضعت يديك فوق وجهك وانغمست في تفكير طويل.. وفي نقد ذاتي عميق.. ظلام دامس يعم الزنزانة الا من خلال قبس صغير من الضوء يشير من جملة ما يشير اليه الى انفلاق الصبح أو انغلاق الليل.

مكيف بارد فوق رأسك ينفث هواء مجلدا يعبث بجسدك الذي يكاد أن يتجمد ودقات قلبك تأخذ في الخفقان الشديد مع استمرار برودة الجو والهواء. تضع معطفك فوق رأسك حتى تتجنب تدفق الهواء البارد الذي حول الزنزانة الى شبه ثلاجة، وتضع الزرابي الخفيفة التي أمدك السجان بها تحت جسدك حتى لا يلامس الأرض الملساء.

تجول بعينيك في ردهات الزنزانة، تبحث عن هويات من دخل قبلك اليها.. هنا تبصر عبارة «سوريا حرة» وقد حبرت على جدار الزنزانة بالدم، وهنا ترى محرابا قد رسم حذو الباب وقد كتب فوقه «اللّه أكبر، صبرا فإن اللّه مع الصّابرين».. وهنا أيضا عن اليمين تنظر فترى رسائل حب وغرام كتبت تحت أقبية السجون..

وفجأة، دخل السجان الى الزنزانة، نظر اليك باشمئزاز وقال.. تعال هنا.. تقف أمامه وأنت لا تعرف ماذا سيفعل بك.. يقول لك بكل عنوة.. اشلح الثياب.. (أي انزع الثياب).. تنزع ثيابك قطعة قطعة الى الأخير.. حتى تبقى بلا ..

وتبقى على تلك الحالة الى حين.. رحيله عنك واغلاقه باب الزنزانة.. تعيد ارتداء لباسك قطعة قطعة.. والدموع تنهمر من مقلتيك تدرك أن أسوأ تعذيب هو التعذيب النفسي الذي يسعى عبثا الى افقادك جوانب الانسانية والرجولة.. ولكن عبثا يحاولون..

مع الدموع المنسكبة من عينيك.. تنسكب عيون المعتقلين الذين عذبوا طيلة تلك الليلة ومع آهاتك المنبعثة من الزنزانة آهات السجناء وصرخاتهم التي لا تكاد تنتهي.. من بعد أذان صلاة الفجر، فتحت بوابة الزنزانة ليقترح عليك السجان قضاء حاجتك.. تقبل وتمضي داخل رواق التعذيب لتجد ذات المعذبين ليلا وهم على ذات الحالة التي تركتهم عليها البارحة يعذبون صبحا..

تشم رائحة حريق وتستمع الى صوت بكاء وعويل.. تسعى الى ادراك مكمنهما ولكن عبثا تحاول فمكان انبعاث الحريق والبكاء بعيد عن زنزانتك.. تضع ظهرك على الجدار، وعيناك تبصران باب السجن وتتساءل عن الغيب الذي تخبئه بوابة فرع الدوريات .تمضي ساعات، ويفتح الباب يطل عليك السجان ليقول لك اغسل وجهك.. فالعميد بانتظارك..

تمر عبر الرواق لتصادف نفس الوجوه المعذبة والمنكل بهم على حالتها تلك.. ونفس السجانين ينتظرون نفس الفرصة لينقضوا عليهم.. من الرواق يفتح لك باب خلفي، تمر عبره.. أمتار قليلة وتصل الى مقر العميد.. تصعد الطابق الأول والثاني.. تدخل الى غرفة واسعة.. يأتي العميد في زي عسكري وبلكنة سورية خاصة.. يستضيفك على كأس قهوة وفطور صباح دمشقي..

يجلس قبالتك ويتناول ورقة بيضاء ويستأنف معك طرح اسئلة الفصول الأربعة.. تجيب عنها بكل تصبر ومصابرة.. يقف عند اسم المعارض السوري لؤي حسين ليسأل عنه الذين هم على الهاتف في الغرفة المجاورة..

يعود اليك ليحدثك عن المعارضة السورية في الخارج وفي الداخل وعن يد النظام الممدودة الى كل سياسي يريد الخير لسوريا.. يحدثك عن الاخوان في العالم العربي والاسلامي من تونس الى مصر ومنها الى سوريا قبل أن يتطرق الى القيادي الاخواني السوري عصام العطار الذي تشغل أخته منصب نائبة رئيس الجمهورية في سوريا.. نجاح العطار.

يودعك، ليصطحبك رفيق العميد الى مكاتب التحقيق حيث تم ارجاع كافة المتعلقات الخاصة بك، تقابل الرجل الخمسيني الطيب فيقبلك قائلا لك: ألم أقل لك انها بسيطة.. تقابل أيضا المجموعة الأمنية التي قادتك من جديدة عرطوز الى فرع الدوريات ليقول لك أعضاؤها: الحمد الله على السلامة.. ولكنك تريد حقيقة ملاقاة السجناء والمعتقلين والمعذبين، تريد تقبيل أياديهم وأرجلهم المثخنة بالدماء، وتريد أن تعانق من أمضى ليلته باكيا شاكيا وأن تضم الى صدرك كل من تأوه مع آهاتك ولآهاتك..

تغادر مبنى المخابرات العامة.. تقف هنينة لاعادة وضع أربطة الحذاء، تلتفت الى المبنى لتوديع الأحياء حقيقة ورمزا.. فتصادفك لافتة كبيرة كتب عليها.. «أمة واحدة لرسالة عربية واحدة».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.