زغوان (الشروق) : استأثر الحديث عن المناضل المنجي سليم بأجزاء كبيرة من اهتمام السيد رشيد ادريس خلال الحلقة الأخيرة من شهادته التاريخية على منبر الذاكرة الوطنية الذي نظّمته مؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات بزغوان نهاية الأسبوع المنقضي، ولم يخف المتحدّث اعجابه الكبير بالشخصية الفذّة لهذا الرجل العظيم (منجي سليم) الذي خدم طويلا القضية التونسية إبان معركة التحرير. وخلال بناء الدولة الحديثة وظلّ جهده مغمورا وبقيت تفاصيل عن حياته مخفية وغيرمعلومة بالرغم من وفاته منذ عقود. وأشار السيد ادريس الى أنه رافق المرحوم المنجي سليم طوال حياته وأنه كان آخر انسان حضر لحظات احتضاره وقال: «كانت العلاقة وثيقة وكان بالنسبة لي بمثابة الأخ الطيب..». وحول ما إذا كان الفقيد قد أوصى بشيء ما أفاد السيد ادريس أن المنجي سليم كان انسانا كتوما وكان قليل الكلام الى درجات لا توصف: «المنجي لم يكن يتكلّم كثيرا وكان حذرا الى أبعد حد، حريصا على أن لا يقول نصف كلمة انتقاد أو تجريح في أي كان، لذلك كان من الصعب أن تعرف بالضبط ماذا كان يريد...» وحول ما إذا كان الزعيم بوريبة قد سعى الى التعتيم على المنجي سليم قال السيد ادريس: «بوريبة كان ينتقد بشدّة وبصفة علنية المنجي سليم وهناك رسائل معلومة في هذا الغرض.. بوريبة كان يعتقد أن المنجي لا يتعاون بالشكل الكافي والمطلوب معه.. على الرغم من ذلك ومن المفارقات التي ذكرها المتحدّث أن المنجي سليم قد تولى منصب السفير والوزير بالرغم من وجود خلاف بينه وبين الزعيم بوريبة.وأكد السيد ادريس أن المنجي سليم شخصية استثنائية في سلم وتاريخ الديبلوماسية التونسية بما له من خبرة وادراك واسع وبانضباطه وبأفقه السياسي الرحب الذي يتجاوز القطرية الى الابعاد الاقليمية والدولية. وحرص المتحدّث على إبراز أن المنجي سليم لم يكن يفكّر أبدا وعلى الاطلاق في ايذاء أي كان وخاصة الزعيم بوريبة: «ما أؤكده أن المنجي لم يكن يرغب في أن يمسّ بوريبة بأيّة إساءة أو انتقاد...» وأضاف السيد ادريس أن مواقف المنجي سليم كانت واضحة وأنه كان معتمدا من قبل الافريقيين للدفاع عن قضايا الميز العنصري ثم تحرير المستعمرات... وقال المتحدّث بخصوص ترشيح السفير التونسي لدى الأممالمتحدة لمنصب الأمين العام للمنظمة الدولية: «المنجي كان يتخذ المواقف التي تخدم القضية الوطنية والتي كانت آنذاك في مجملها متوافقة ومنسجمة مع أمريكا في كل الملفات المطروحة وخاصة قضيتي لاهووس والمجر وكان من مصلحة تونس أن يأخذ المنجي سليم تلك المواقف». وأشار المتحدّث الى أن روسيا واسرائيل كانتا تعارضان الفكرة بالاضافة الى عدة دول أخرى تتبع السياسة الروسية كما أن أمريكا نفسها لم تكن متحمّسة بالمرة للموضوع. وقال «لو كنت مكان بوريبة لم أكن لأشجّع أو أدعم ترشيح المنجي سليم في ذلك الوقت نظرا للظروف المعلومة». بن يوسف ومؤتمر «باندوغ» وفي جانب آخر من علاقاته مع رجال الحركة الوطنية قال السيد رشيد إدريس إنه كان في غاية الانسجام في علاقته مع الزعيم صالح بن يوسف: «كنت على معرفة وثيقة به منذ القديم والتقيته كثيرا عندما كنت في الباكستان.. والإلتباس الذي حدث بيننا لاحقا كان لأسباب غير شخصية فالمسألة كانت على صلة بعلاقة المعارضة بالحزب اذ كنت أرى ضرورة أن نحافظ على وحدة الحزب وأن لا نحدث شقاقا داخله في حين كان بن يوسف يرى اعلان معارضته والاستنغاء عن التعاون مع الحبيب بوريبة..» وأكد المتحدث أن صلة بن يوسف بجمال عبد الناصر لم تكن وثيقة جدا وأن الخلاف الذي حصل بين الزعيمين بن يوسف وبوريبة هوالذي متّن العلاقة المشار اليها ودعّمها كثيرا. وأضاف المتحدث أن صالح بن يوسف كان يرى أن يرافقه للمشاركة في مؤتمر «باندوغ» الذي انعقد سنة بالهند وقال: «لما جاء دور تعيين الوفد التونسي كان رأي بن يوسف الذي كان يتولّى قيادة الحركة التحريرية التونسية بعد أن التجأ اثر المفاوضات الفاشلة الى الخارج أن يكون هو رئيس الوفد وأن أرافقه لكني فضّلت أن يرافقه الأخ الطيب سليم الذي كان أكثر اتصالا مني بالحكومتين الهندية والباكستانية، وان كان الأمر في غير رغبة الزعيم بن يوسف». وأضاف المتحدث عن مؤتمر باندوغ أنه كان محطة مهمة جدا في الكفاح من أجل تحرير المستعمرات: «كنا في القاهرة وكنا على اتصال وثيق بوفود أندونيسيا وبالطلبة والمهاجرين الذين بدأوا في حركة تأييد لبلادهم عن طريق المناضل الفلسطيني محمد علي طاهر الذي قدّم جليل الخدمات للحركة الوطنية التونسية.. ومن هذا الاتصال نشأت فكرة العمل الأسيوي الافريقي وخاصة تأييد الدول الأسيوية المستقلة لحركة الكفاح في شمال افريقيا وخاصة في تونس التي بدأت المرحلة الحاسمة من نضالها من أجل الاستقلال. وأشار السيد ادريس الى أن هذا الوضع هو الذي كان سببا في رحلة الزعيم بوريبة برفقة الطيب سليم الى الهند وباكستان وأندونيسيا حيث وقع الاتفاق مع الزعيم «سوكارنو» على أن تقوم تونس بفتح مكاتب وبدء حركة مناصرة فعلية للقضية التونسية. وأثناء الحديث تمّ التطرّق الي عقد مؤتمر من أجل تونس مثل المؤتمر الذي عقد من أجل أندونيسيا.. وقمنا بحملة دعائية واسعة واتصالات مع زعماء الدول. ومن جهة أخرى بدأت في الأممالمتحدة حركة تضامن بين العرب والأسيويين أولا من أجل القضية الكورية ثم من أجل قضية فلسطين ثم تطوّرت لتصبح حركة افريقية آسيوية. وكان من الناشطين في صلبها المرحوم الدكتور محمد فاضل الجمالي وكان العمل من عدة أطراف لجمع مؤتمر آسيوي افريقي من أجل تحرير بقية البلدان الواقعة تحت الاستعمار فكان فضاء مؤتمر «باندوغ» وهو ليس مؤتمر عدم الانحياز ولكن مؤتمر لتحرير المستعمرات ثم انشأت في ما بعد حركة عدم الانحياز...» وأضاف المتحدث «انعقد المؤتمر في الوقت الذي انطلقت فيه المفاوضات وبعد أن جاء مونداس فرانس الى تونس وأعلن الاستقلال الداخلي، حتى أن التفتح الذي أبدته فرنسا كان له تأثير على صيغة اللائحة التي صدرت في خصوص قضية شمال افريقيا». وأشار المتحدث الى الانسجام الذي كان موجودا بين الوفود المغاربية التي لم يحدث بينها أي خلاف. ملفات وقضايا وأفاد السيد رشيد ادريس أن انتقاله سنة الى واشنطن قد ترافق مع عدة ملفات هامة كان لا بد من الدفاع عليها من أبرزها اعتراف تونس بالصين الشعبية.. «كان لا بدّ أن أشرح للأمريكان الأسباب التي أدّت بتونس الى الاعتراف بالصين ولم أجد معارضة منهم لقد قبلوا بالأمر الواقع». والقضية الثانية هي قضية تدويل شركة الكهرباء والغاز تمّ تدويل الأراضي وقال المتحدث أن القرار اتخذ على غير انتظار: «اجتمعنا في الديوان السياسي وقرّرنا عدم التدويل ثمّ فوجئنا بعكس ذلك.. والأمر في بدايته خلق مشكل مع البنك الدولي ومع الأمريكان تمّ تلافيها وأيّد البنك الدولي سياسة التعاضد تأييدا واضحا برغم تعارض ذلك مع توجهاته التي تفضل الفردانية واقتصاد السوق. «أيّد البنك سياسة التخطيط التونسية وخصص اعتمادات لقطاع التربية ولتدعيم الخطوات التونسية ولكن في آخر المدة أصبحوا يتردّدون ويوصون بتغيير السياسة». وحول العلاقات الأمريكيةالتونسية في تلك الفترة أشار السيد رشيد ادريس الى أنها كانت وثيقة جدّا وكانت السفارة التونسيةبواشنطن السفارة الأولى خاصة بعد أن كانت العلاقات مع فرنسا متوترة وتوقّف المتحدث عند لقاء بوريبة مع الرئيس جونسون سنة وقال: «بوريبة لم يرد التصويت ضد كوبا في المنتظم الأممي. كانت لبوريبة مواقف واضحة، وذكّر بموقفه الداعم لحركات المقاومة والتحرير وخاصة القضية الفلسطينية التي قال عنها حينها: «لا بد أن يأتي اليوم الذي تبلغ فيه درجة محترمة ورفيعة». وحول المساعدات الأمريكية الممنوحة آنذاك لتونس قال السيد رشيد ادريس: «كان لأمريكا تأثير كبير في توجهات البنك الدولي وساهمت بقسط كبير في انجاز عدّة مشاريع كبرى من أهمّها ميناء حلق الوادي ومطار تونس وسدّي نبهانة ووادي زروق والمشروع الوحيد الذي بقي معلّقا من الإدارة الأمريكية هو موضوع تجفيف بحيرة تونس الذي كان من أوكد اهتمامات الرئيس بوريبة منذ أواسط الستينات. «بورقيبة كان حريصا على تجفيف البحيرة وعلى تنمية المنطقة وقد تحدّثت شخصيا عدة مرات مع كاتب الدولة الأمريكي في الموضوع لكن لم أتلق الدعم والاجابة الشافية...» وأكد المتحدث أن أمريكا لم تكن ترغب في إعطاء آسلحة وذخيرة حربية لتونس وأنها على العكس كانت تنصح بالاتفاق مع البلدان الأوروبية وخاصة مع فرنسا وألمانيا، وقال: «أذكر أنهم باعونا بعض الطائرات الحربية من النوع الثانوي!» معارضة وتبعات وأكّد المتحدث أن ما حرّكه طيله مسيرته انما هو إيمانه بالقضية التونسية وخدمة الشعب التونسي وقال: «لست من جلساء أي كان..» وأضاف: «لقد أخذت عدة مواقف هامة خلال الانتخابات وفي أثناء مجلس الجمهورية شرحتها في خطاب سنة «. ويواصل المتحدث: «أنا عارضت في تغيير المادة من الدستور وكانت معارضتي واضحة لأني كنت أخشى أن يعين شخص غير كفء ثم يكون هو الخليفة.. كما طالبت بإطلاق سراح الطلبة الذين وقع ايقافهم والحكم عليهم بعقوبات قاسية. «من غير المنطقي أن يحكم على طالب ب سنة أشغال شاقة لأنه شارك في مظاهرة». وأضاف : «كما أنني لم أقبل أن أكون في لجنة برلمانية تحاكم أحمد بن صالح». وأشار المتحدّث الى أن جملة هذه المواقف فرضت عليه واقعا صعبا وأنه كان مخيّرا بين الدخول في أزمة أو الخروج كسفير وقال انه عرضت عليه مناصب في موسكو وبيروت والأممالمتحدة فاختار الأممالمتحدة. يقول: «دخلت النضال من دون غايات سياسية ولم أكن أرغب في تولي أي منصب سياسي.. وكلما شعرت ببعض المضايقات كنت أخيّر أن لا أكون في الميدان عملا بمقولة «عاش من عرف قدره». الرئاسة مدى الحياة وفي اجابته عن سؤال حول ملف الرئاسة مدى الحياة قال السيد رشيد ادريس: «اقترحت المسألة في المجلس التأسيسي وكان محمد المصمودي أول من طرحها لكن بوريبة حينها رفضها رفضا قاطعا لكن معركة بنزرت والتعاضد ومسائل أخرى أوجدت الخوف على مستقبل البلاد وهو ما استغلّه بعض المقربين من بوريبة لاقتراح الموضوع من جديد واقناعه بذلك فجاء مؤتمرالحزب سنة ووقعت المصادقة باقتراح من الدائرة الضيّقة القريبة من بورقيبة.. وقال المتحدث أنه كان من مناصري فكرة نائب الرئيس أو رئيس للوزارة على أن يُعرض على الاستفتاء على اعتبار أنه لا يمكن لأحد أن يتولى مثل ذلك المنصب دون مساندة أو اجماع شعبي..» كما أشار السيد إدريس الى أن المصمودي كان كذلك من أوائل الذين طرحوا الوحدة الاندماجية مع ليبيا.. وقال: «قضية الوحدة لم تحدث سنة ولكن التهيئة لها كانت من قبل والدليل أن الحبيب عاشور ومحمد المصمودي جاءا الى نيويورك في منتصف سنة وأرادا مقابلة زعماء النقابات الأمريكية ونظمت لهم مأدبة فطور. وأثار المصمودي مسألة الوحدة الاندماجية مع ليبيا وعارض زعيم النقابات الأمريكية الموضوع معارضة شديدة. «الخطة كانت مهيئة والمصمودي أراد أن يستخبر رأي أمريكا...» وأضاف المتحدّث: «كنت في الأممالمتحدة وفوجئت بالخبر وكنت على استعداد للاستقالة اذا تمّت الوحدة لأنني لا أومن بالوحدة الاندماجية نظرا لعدّة تجارب سابقة مُنيت بالفشل». وفي تطرّقه لملف «التعليم الزيتوني» أفاد السيد إدريس أن القرار كان فجأة حيث صدر ذات يوم الأمر بتغيير النظام الزيتوني ورغم أن الاتجاه في البداية كان من قبل بعض الجامعيين الذين كانوا يرغبون في توحيد التعليم وتحديث أساليبه لكن النتيجة كانت عكسيّة حيث أنه تمّ إلغاء النظام الزيتوني وتعويضه بنظام آخر ويبدو أن العملية كان لها بعض السلبيات خاصة في اطار المنزلة والعلاقة مع جامعات مثل جامعة القرويين بالمغرب والأزهر بمصر والجاليات الاسلامية في افريقيا.. ويضيف السيد إدريس: «الجامع لو بقي على شكله لكان أفضل من الواقع الذي نشأ وإن كانت الآن هناك محاولة موفّقة الى حدّ ما من أجل إعادة الهيبة للتعليم الزيتوني وقيام الجامعة الزيتونية بدورها...» عزلة واستعادة أنفاس وفي خاتمة حديثه الهام أشار السيد رشيد إدريس الى الفترة الحرجة التي عرفتها البلاد إبان شيخوخة الزعيم بوريبة فقال: «هي فترة صعبة في تاريخ تونس وهي الفترة التي صادفت خروجي من الأممالمتحدة». وأضاف: «لم تبق لي أيّة صفة سياسية أو حزبية فحتى الصلة مع الحزب انقطعت، الانسان عندما يغادر بلاده وتنقطع الصلة بينه وبين الناس الى حدّ لا يعود بإمكانه القيام بأي دور فاعل أو تأثير..» ومن الملامح التي ذكّرها لنا المتحدّث والتي تبرز حالة العزلة التي عاشها في النصف الأول من الثمانينات: «كلّمت إنسان أعرفه وعمل معي طويلا فقال لي: «ماك مشيت..» أما محجوب بن علي فقال لي: «ماك هربت»!!» وأشار المتحدّث الى أنه كان أفضل حال من غيره وأنه تمكّن من استعادة انفاسه عبر القاء المحاضرات بالمدرسة القومية للادارة وقال في هذا الخصوص: «كثير من المسؤولين حاليا هم من طلابي..» بالاضافة الى تأسيس جمعية الدراسات الدولية التي ساندتها الحكومة ولقيت دعما بالخصوص من الرئيس زين العابدين بن علي الذي أدرك أهميتها كما كلّفت برئاسة الهيئة العليا لحقوق الانسان مما جعلني مطلعا على الكثيرمن الأشياء ومكنني من التعبير عن بعض الآراء. وقال: «أنا لا أنتمي الى عرش أو الى هيئة مكوّنة ذات نفوذ اقتصادي أو اجتماعي ولكن مجرّد إنسان يؤمن بالعمل لفائدة الغير».