صدر مؤخرا في العاصمة البريطانية لندن كتاب جديد عن الكاتب المسرحي جان جينيه. ومؤلف هذا الكتاب هو الناقد الامريكي المعروف ادموند وايت الذي ولد في ولاية اوهايو عام 1940 وكان قد نشر سابقا خمس روايات، وبعد ان عاش في باريس لسنوات عديدة رجع الى نيويورك للاستقرار فيها ثم اصبح استاذا في جامعة برنستون. وفي هذا الكتاب الضخم المخصص لواحد من اهم الكتاب الفرنسيين في القرن العشرين جان جينيه نلاحظ ان المؤلف يستخدم كل براعته النقدية في الكشف عن آثار صاحب «الاسير العاشق» كما انه بموضعه في عصره من جميع النواحي السياحية، والايديولوجية والفنية والثقافية. ويبتدئ الكتاب بتقديم لمحة تاريخية مختصرة عن حياة جينيه منذ ولادته عام 1910 في باريس وفي وفاته عام 1986 وقبره في المغرب حيث كان يرغب ان يدفن، والواقع ان حقده على فرنسا كان شديدا لانه ولد لقيطا وعرف معنى النبذ والاحتقار من قبل المجتمع البورجوازي الفرنسي، ولذلك أبى ان يدفن حتى مجرد دفن، في بلده الاصلي وفضل المغرب الذي كان يحبه عليه، ولد جينيه في باريس اذن من أب غير معروف وام هامشية كانت تشتغل كخادمة في البيوت، وبعد عام واحد من ولادته، او حتى سبعة أشهر، تخلت عنه امه ووضعته في احد المراكز الاجتماعية التي تهتم بالاطفال المهجورين ومنذ ذلك الوقت انقطعت علاقتها كليا بالطفل ولم تره أبدا في حياتها. وفي ذلك الوقت كان الاطفال المهجورون يوضعون لدى العائلات الفرنسية التي تقبل في استقبالهم مقابل دفع مبلغ زهيد لها، وهكذا ارسل جينيه الطفل الى عائلة ريفية تسكن في احدى القرى الفرنسية البعيدة عن باريس. وفي عام 1916 اي في سن الخامسة دخل الى المدرسة الابتدائية في هذه القرية، وفي عام 1919 ماتت امه بمرض الانفلونزا وعمرها لا يتجاوز الثلاثين عاما. وهكذا لم يتح له ان يتعرف عليها ابدا ولم يتح لها هي ايضا ان تراه وماتت دون ان تعرف انه سيصبح مشهورا. وفي عام 1920 ابتدأ يسرق الناس لأول مرة وكانت سرقات بسيطة كأقلام الرصاص، أو الدفاتر او بعض الحلويات. وكثيرا ما كان يوزع هذه المسروقات على زملائه في المدرسة ثم ارتكب عدة حماقات بعدئذ وادخل الى السجن عدة مرات، وابتدأ يكتب اولى رواياته وهو في السجن، وبعدئذ جاء الى باريس واصبح محترفا في فن سرقة الكتب الفلسفية والادبية في مكتبات باريس الكبرى وكان يبيعها بعدئذ لكي يعيش عليها، وفي عام 1942 قبضوا عليه بالجرم المشهود وهو يسرق الكتب فادخلوه الى السجن لمدة ثمانية اشهر، وهناك كتب قصيدته الجميلة «الانسان المحكوم بالاعدام»، وقد نشرها في العام نفسه مع روايته الاولى: «سيدتنا في جهة الازهار». وفي عام 1943 ابتسم له الحظ فتعرف على شابين مثقفين وهو يمشي على ضفاف نهر السين، وهذا الشابان قدماه الى الاديب المشهور آنذاك جان كوكتو الذي اعجب كثيرا بقصيدته «المحكوم بالاعدام». ولكن الرواية صدمته في البداية وزعزعته ثم عرف فيما بعد مدى اهميتها وساعد جينيه على ايجاد ناشر لها، وهكذا ابتدأت حياته الادبية التي سوف تقوده الى قمة المجد لاحقا. ولكن المشكلة هي انه عاد الى عادته القديمة «سرقة الكتب»! وهكذا قبضوا عليه في ساحة الاوبرا في باريس وفي جيبه نسخة نادرة من ديوان فيرلين الشهير: «أعياد ظريفة» وحكموا عليه بالسجن المؤبد لانه سارق محترف. وعندئذ تدخل جان كوكتو ووضع له محاميا شهيرا عرف كيف يدافع عنه ويمنع عودته الى السجن مرة اخرى، وقد اقنع المحكمة بأن جينيه معتوه ولا يعتب عليه لانه خال من الارادة والشعور الاخلاقي، وبالتالي فهو شخص غير مسؤول عما يفعله! وفي اثناء المحاكمة تدخل كوكتو شخصيا وقال لهم: هل تعلمون انكم تحاكمون الآن اكبر كاتب فرنسي في العصور الحديثة؟! وهكذا نجا من السجن المؤبد وحكم عليه فقط بالسجن لمدة ثلاثة اشهر وفي اثناء هذه الفترة كتب رائعته «معجزة الوردة». ولكن بعد خروجه بفترة قصيرة قبضوا عليه ايضا وهو يسرق الكتب! ولاول مرة يصرح للبوليس بأن مهنته هي: «كاتب» فسجنوه اربعة أشهر. وفي عام 1944 تدخلت عدة شخصيات لصالحه فاطلقوا سراحه ولم يعد الى السجن بعدئذ ابدا، ولكن يمكن القول بأن مجموع الفترات التي قضاها في السجن بشكل متقطع تصل الى اربع سنوات ونصف. وفي عام 1944 تعرف على جان بول سارتر في مقهى «الفلور» بباريس ومعلوم ان سارتر كان يسكن في المقهى تقريبا مع سيمون دوبوفوار! فهناك كان يكتب في الصباح وبعد الظهر ولا يعود الى شقته القريبة الا ليلا لكي ينام وكان الكتاب والفنانون يجيئون لكي يتعرفوا عليه هناك. وفي عام 1949 أصدر رئيس الجمهورية الفرنسية عفوا عاما عنه وكان قد اصبح مشهورا عندئذ. وتوالت رواياته ودواوينه الشعرية وراء بعضها البعض وشهد تفجرا ابداعيا لا مثيل له، فقد اصدر مجموعة قصائد بعنوان: «أناشيد سرية» وكذلك مجموعة أخرى بعنوان «أنشودة حب» ثم اصدر روايته المشهورة مذكرات لص وكذلك «شجار بريست» وبريست هي مدينة تقع غرب فرنسا. وبعدئذ كتب عدة مسرحيات مهمة من بينها «الحجب او الاسترة» «ج.ستار» وكذلك مواكب الدفن، ثم كتب نصا اذاعيا خطيرا بعنوان: «الطفل المجرم» ولكنهم منعوا بثه العام التالي، ومن مسرحياته المعروفة نذكر ايضا: «الخادمات والزنوج». وفي أواخر الستينات اصبح جان جينيه مهموما كثيرا بأوضاع العمال في فرنسا، وراح يدافع عنهم في كل مكان ويتظاهر من اجلهم، ومعظمهم من المغاربة كما هو معروف، وهذا العمل النضالي ما كان مستغربا منه لانه دافع طيلة حياته عن المنبوذين والمضطهدين، وهو ما سيفعله لصالح الفلسطينيين حيث سافر الى منطقة الشرق الاوسط عدة مرات وزار مخيمات اللاجئين الفلسطينيين وكتب عنهم اول مقالة عام 1972، ثم ساند ايضا قضية النمور السود في امريكا، وكان آخر نص شهير لجينيه عن الفلسطينيين بعنوان: «الاسير العاشق» وهو نص رائع بكل ما للكلمة من معنى. عندما تعرف على سارتر وسيمون دوبوفوار في شهرماي من عام 1944 كان قد حقق اللقاء الثاني المهم في حياته بعد كوكتو وسوف ينتج عن هذا اللقاء كتاب سارتر الكبير: جان جينيه الكوميدي والشهيد. تقول سيمون دوبوفوار: عندما تعرفنا عليه كنا غير واثقين من اهميته، أو قل كانت لدينا بعض الشكوك ولكن عندما قرأنا روايته «سيدتنا في جهة الازهار» ادركنا ان كاتبا من الطراز الاول قد ولد. صحيح ان تأثير بروست وكوكتو وجوهاندو كان واضحا عليه، ولكن كانت له لهجته ونغمة صوته الخاصة، وهي لهجة خاصة به دون غيره. ثم تردف سيمون دوبوفوار قائلة: وفي أحد الايام كنا جالسين انا وسارتر والبير كامو في مقهى الفلور في فترة بعد الظهر وفجأة اقترب من طاولتنا شخص وسأل: هل أنت سارتر؟ وكانت نظراته متجهمة وشبه عدوانية ثم جلس معنا قليلا وانصرف وبعدئذ اخذ يعود كل يوم تقريبا. وهكذا اتيح لنا ان نتعرف عليه عن كثب كان جينيه قاسيا وحاقدا على المجتمع الذي نبذه منذ نعومة اظافره. كان يكره البورجوازية الفرنسية الى درجة لا تكاد تصدق، ولذلك فضل ان يدفن في المغرب في منطقة العرائش في مواجهة البحر، لقد عاش حرا ومات حرا، وناضل من اجل قضية الحرية عندما انضم بكل قوة الى معسكر الفلسطينيين. وتعترف سيمون دوبوفوار بأن جان جينيه كان من اذكى الاشخاص الذين تعرفت عليهم في حياتها، كان ذكاؤه من النوع الحاد الذي يذهب الى اعماق الأشياء، وسبب تعلقه بسارتر وتعلق سارتر به يعود الى ولع كل منهما بالحرية، وكان منهما كانت له اسبابه الخاصة لتصفية الحسابات مع المجتمع الفرنسي البورجوازي ولكن من الواضح ان جينيه كان ناقما اكثر وبشكل لا مرجوع عنه. كانت باريس تنقسم آنذاك ثقافيا وجغرافيا الى قسمين: الضفة اليسرى ومنطقة الحي اللاتيني والسان جيرمان دوبري من جهة، والضفة اليمنى برئاسة جان كوتكو وكوليت وبيكاسو وبعض الممثلين المشهورين. الضفة اليسرى كانت تسيطر عليها شخصية سارتر وفلسفته الوجودية قبل ان يتحول الى الماركسية لاحقا أو قبل ان يزاوج بين الوجودية والماركسية. وكان جان كوكتو يتشوق الى التعرف على سارتر وعقد صداقة معه ولكن سارتر كان يرفض ذلك، والواقع انه لم يكن هناك اي شيء مشترك بين الرجلين فسارتر كان يعتبر كوكتو بهلوانا وموظفا كبيرا او ناقدا لا يستحق الاحترام. وفي ذات الوقت كان كوكتو شديدة الغيرة لان جان جينيه انضم الى معسكر سارتر وتخلى عنه، باختصار فقد كان هناك صراع على الزعامة الثقافية لباريس، وكان واضحا ان سارتر سوف ينتصر في المعركة، وقد انتصر. من عادات جينيه انه كان ينزل دائما في فنادق تافهة قريبة من محطة القطار عادة، لماذا؟ لانه كان يمكن ان يسافر في اي لحظة الى مكان آخر اذا ما أحس بالضجر او الملل وكثيرا ما كان يأخذ القطار على غير هدى ثم ينزل في احدى مدن الارياف الفرنسية لبضعة ايام او اسابيع. وبعدئذ يستأجر غرفة في الفندق القريب من المحطة، ويتعرف على الناس في المقهى ويقيم علاقات عابرة مع الناس، ثم يبتدئ بالكتابة في غرفته لكن المشكلة هي انه كان يدخن كثيرا ويطفئ السجائر في الفراش. وهذا ما يزعج اصحاب الفندق كثيرا لانهم يكتشفون الكثير من الثقوب في السرير، واحيانا كان يضع الطعام او فضلاته تحت السرير ايضا... باختصار فقد كان مهملا وكسولا من الناحية العلمية، كان همه هو ان يكتب نصه او يصل الى نهاياته. وكل ما عدا ذلك ثانوي. ويقول المؤلف ان جان جينيه حاول في ربيع عام 1972 ان يقنع كبار الكتاب الفرنسيين بتأليف كتاب جماعي عن الفلسطينيين، وقد دعا الى ذلك الناقد الشهير رولان بارت، والفيلسوف جاك دريدا، والكاتب الاسباني المعروف خوان غويتيسولو، وفيليب سوليرز، وآخرين... وكانت فكرة جان جينيه هي التالية: ان يرسلهم جميعا الى الشرق الاوسط لكي يعيشوا بعض الوقت مع الفلسطينيين ثم يعودون الى باريس ويكتبون قصة تجربتهم وما رأوه وعاشوه هناك. وفكرة الكتب الجماعية كانت شائعة في أوساط مثقفي اليسار آنذاك، ولكن المشروع لم يتحقق لاسباب عديدة منها ضغط الاوساط اليهودية على بعض هؤلاء الكتاب. وفي نفس العام سافر جينيه الى ايطاليا، روما تحديدا، والتقى هناك بالكاتب الشهير البيرتو مورافيا اكثر من مرة، كما والتقى بوائل زعيتر، ممثل منظمة التحرير الفلسطينية في العاصمة الايطالية. ثم عاد الى المخيمات الفلسطينية وعاش هناك لمدة ثلاثة أشهر، وتعرف على شخص يدعى ابو عمر ولكن اسمه الحقيقي حنا ميخائيل. وسوف يصبح احدى الشخصيات الأساسية لكتابه الشهير والأخير: الأسير العاشق. حقا لقد عاش جان جينيه حرا ومات حرا، ولم يحن رأسه ابدا للبورجوازيين والاستعماريين الغربيين، ولم يناضل طيلة حياته كلها الا من اجل قضية الحق، والعدل، والحرية.