تتواصل صباح اليوم الجمعة 12 مارس وغدا السبت 13 مارس في المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون «بيت الحكمة» بضاحية قرطاج ندوة «الواقع والمخيال في السياسة والعلم والفن» التي انطلقت يوم الاثنين 8 مارس. هذه الندوة قدم لها الدكتور عبد الباقي الهرماسي وزير الثقافة والشباب والترفيه بمداخلة ذات طابع فكري تعرّض فيها الى العلاقة القائمة بين المخيال والواقع وتجلياتهما في السياسة والعلم والفن وذكر أن هذه العلاقة «تقتضي استكشاف أسس كل من هذه الحقول الكبرى للنشاط البشري والتي تتجلّى فيها قدرة الانسان على تنظيم العالم وإكسابه معنى وذلك يتطلب البحث عن خيط نظام يجمع هذه الحقول الثلاثة التي تبدو في ظاهر الأمر متمايزة مع الإيحاء بأن هذا الخيط الرابط ليس إلا الرابطة الحميمة التي تشدّ الواقع الى المخيال في كل من هذه المجالات الثلاثة. ويضيف في تفسيره لهذا المعطى : فعندما نتأمل الحقل السياسي من خلال آليات المنطق التي تتحكّم فيه ومستندين الى التطور التاريخي الذي عرفته الأفكار والمنظومات السياسية ننتبه الى أن مخيال البشر ذو صلة ثابتة بالواقع وما إن نفكر في فحص المكانة والدور اللذين ينهض بهما الخيال في السياسة نكتشف أنهما كانا يحتلان في كل الأطوار التاريخية منزلة هامة». ويؤكد الدكتور عبد الباقي الهرماسي على الانتاج الاجتماعي في القرن العشرين إذ تغذّى من السّجال حول هذه المواضيع فمنذ سنة 1929 أشار كارل مانهايم في كتابه : الأيديولوجيا واليوطوبيا الى حضور وقيمة الأفكار التي تتخطّى النظام السائد في كل مراحل التاريخ وأوضح الظروف التي حفّت بتحول الأفكار التي كانت في البدء متوائمة مع المنظومة الفكرية للقرون الوسطى القائمة على أسس إقطاعية ودينية وأصبحت بعد ذلك «في تناقض مع الواقع الذي ولّدها». وتعرّض في مداخلته الى دور مفكّرين مغاربة في إبداع تصوّرات جديدة للحياة واختراق التوجهات المهيمنة مثل الطاهر الحداد والشابي وقال عنهما : إن مخيال هؤلاء الرجال وقدرتهم على الحلم وطاقتهم على تخليص أفكارهم من الضغوط التي فرضها واقع تاريخي جامد مثّلت كلها قوة جاذبة مكّنت هؤلاء الرجال من أن يؤدوا دورا كبيرا في مجتمعاتهم ومكّنت هذا المخيال من أن يواصل إثراء مخيالنا وإخصابه». كما أشار في مداخلته الى العلاقة بين السياسة والواقع والمخيال قائلا : فإذا كانت السياسة تنفتح على المخيال وتحتويه فإن هذا لا يجعلنا نغفل عن عناصر أخرى لها عميق الأثر في اختبار المخيال وفي قدرته على تحدّي الواقع. ذلك أن العلاقة بالواقع في المجال السياسي تعود إليها الكلمة الفصل بحيث يعسر الاحتماء بالمخيال أو تصوّر غايات مستقلة عن الوسائل وذلك خاصة حين تحدث قطيعة بين هذين القطبين (المخيال والواقع) فتصبح عندئذ التصورات الطوباوية في السياسة ذات بعد دموي ويصبح الحلم كابوسا». وتعرّض الدكتور عبد الباقي الهرماسي الى خطر التعصّب والإنغلاق وذكر في هذا الخصوص : إن عصرنا يبدو للأسف قدعرف مثل هذه التهديدات المتمثلة في نفي الانسان خاصة عبر سيطرة التعصّب الديني على بقية جوانب الوجود الانساني الفردي والجماعي، وإنّ الشخص المتعصّب هو الذي ينفصل عن الجوانب الروحانية ويعرض عن نشدان المعنى المؤسّس لقيم دينية ويلجأ الى وصفات جاهزة وإلى أحكام جامدة حيث ينتهي الانسان مفرغا من كل ما يؤسّس تفكيره وحريته وهو لا يتمكّن من الخروج من هذا النفق المؤلم إلاّ بإعادة امتلاك تفكيره وحريته بفضل جهد شخصي وجماعي». وأكّد على أهمية دور الفن في مصالحة الانسان مع ذاته قائلا في هذا الخصوص «إن الفن بالنسبة الى كلّ واحد منّآ واقعه المتحوّل ومخياله الذي يحيي في تجاوبه مع مخيال الفنّان كل الطاقات الكامنة فيه فيزداد عندئذ قوة واندافعا. كلّ هذا يمكّنه من أن يعبّر بدوره عبر أشكال جديدة وأسلوب جديد، وهكذا يولد فنان جديد. وختم مداخلته بالقول : هذا هو المسار الجديد للإبداع الذي يكون استمرارا رمزيا ضمن انبثاق أعمال فنية جديدة تؤكد إرادة الانسان في الانتصار على العبث والإحساس بالنهاية». ** الاختتام هذه المداخلة كانت بمثابة الأرضية للجدل الذي احتضنه فضاء «بيت الحكمة» منذ يوم الاثنين ويتواصل اليوم ويختتم غدا ويتضمن برنامج اليوم الجمعة 12 مارس مجموعة من المداخلات للأساتذة الطاهر بن قيزة «الممكن والواقع» وأبوبكر باقادر «الواقع والخيال عند العرب» وبشير السنوسي «الخيال والتحرّر : تدريس العلوم» وعمّا نوال أناتي «واقع الأصول ومخيالها من خلال شهادات فن ما قبل التاريخ» ووليد ياطرنتيني «الانجاب بمساعدة طبية بين التقنية العلمية والمعيش اللاشعوري معالجة حالة سريرية عن طريق لعبة الرمل» ونبيهة قارة «اللاوعي الفرويدي : أي واقع». وتختتم الندوة غدا السبت 13 مارس بمداخلات تحت عنوان «وعود الفن» للأساتذة محسن بوعزيزي «ثقافة الشبح» ورجب النجار «الواقع والخيال في الأدب الشعبي العربي» ودومينيك شوفاليي «توتّر الانسان نحو الجميل : الفن من اليد الى الفكر» وباتريك فودي «فن بلا مخيّلة» والمداخلة الختامية للأستاذ كمال قحّة بعنوان «مفارقة أوليس». وتحتضن «بيت الحكمة» ظهر اليوم الجمعة أمسية شعرية بمشاركة محمد الغزّي ومنصف الوهايبي وجعفر ماجد وجميلة الماجري وآمال موسى.