اجتاحت اضطرابات سياسية غير مسبوقة العالم العربي منذ بداية عام 2011 الجارى. لم يتوقع احد ان بائعا متجولا يضرم النار فى نفسه احتجاجا على انتهاك ارتكبه مسؤول بحقه فى تونس يمكن ان يشعل فتيل الاضطرابات بالمنطقة بأسرها ويؤثر على علاقاتها بالغرب مستقبلا. هل توقعت الولاياتالمتحدة هذه الاضطرابات ؟ وكيف ستعيد تقييم علاقاتها مع الدول العربية؟ وكيف ستتعامل مع توسع نفوذ الاسلاميين فى المستقبل؟ -- تطورات على عكس الارادة الامريكية يقول شيهوتجينوف، نائب سكرتير لجنة الامن القومى فى قازاقستان، ان "اى محاولة من جانب الغرب لاغراق العالم الاسلامي فى (ثورات) قد تؤدي الى نتائج غير مرغوب فيها بالنسبة لواشنطن وبروكسل (الاتحاد الاوربى)، وقد يدخل الغرب الذى لم يتخلص من ازماته بعد فى طريق مسدود." فى عام 2003، شنت الولاياتالمتحدة حربها على العراق لاسقاط نظام صدام حسين، وخططت لدفع "مبادرة الشرق الاوسط الكبير" لنشر الديمقراطية فى المنطقة انطلاقا من العراق، غير ان خطتها فشلت فى نهاية المطاف بعد 9 اعوام من الحرب والاضطرابات السياسية والاجتماعية . وفى عام 2008، قالت مؤسسة ((راند)) الامريكية البحثية فى تقرير قدمته الى وزارة الدفاع الامريكية ان "هدفا من الاهداف النهائية لاستخدام الولاياتالمتحدة وسائل مختلفة فى دفع الديمقراطية فى الشرق الاوسط، بما فيها التدخل العسكري والاستعانة بذرائع اخرى، هو اقامة حكومة ديمقراطية....والوسيلة الافضل هو اطلاق السكان المحليين بانفسهم ثورات فى بلادهم لدفع الديمقراطية". قد يتفق هذا مع ما جرى فى الشرق الاوسط، غير ان الموقف الحذر والمتغير لواشنطن ومعاييرها المزدوجة فى تعاملها مع الاضطرابات، اوضح تماما ان توقيت وقوع الاضطرابات فى المنطقة وسرعة تطورها لم يتجاوز سيطرة الحكومات المحلية قط، وانما جاوز ايضا توقعات الولاياتالمتحدة وعاد بتأثيرات سلبية عليها. ورغم مرونة السياسة الامريكية فى مواجهة الوضع المعقد فى الشرق الاوسط، إلا ان الاسس السياسية للهيمنة الامريكية على المنطقة ستضعف مع تطورات الوضع. وقد برزت ازدواجية السياسة الامريكية، التى تقوم على مصالحها فقط، جليا فى تعاطيها مع قضايا الشرق الاوسط. وتراوحت مواقف المسؤولين الامريكيين رفيعى المستوى بين الحكومات والمحتجين. واتضح ذلك فى مواجهتهم للاضطربات فى مصر--اكبر حليف للولايات المتحدة. دعمت الادارة الامريكية مبارك فى البداية، ثم تحولت فى وقت لاحق الى الدعوة الى "الانتقال السلمى"، نهاية بدعوتها له بضرورة التنحى، ما اثار قلق حليفها الآخر فى المنطقة--السعودية، التى رأت ان "الولاياتالمتحدة لم تعد بامكانها لعب دور الدرع القوى للسعودية". وفى الوقت نفسه، سعت تركيا الى تعزيز دورها السياسي فى المنطقة اثناء الاضطرابات. وابدت مواقفا معادية لاسرائيل بكل وضوح وتدهورت العلاقات بين البلدين. وفى نفس الوقت، واجهت علاقات اسرائيل مع مصر والاردن صعوبات، وارتفعت المشاعر المعادية للدولة العبرية بين الشعوب العربية. وتعد تركيا ومصر بالنسبة للولايات المتحدة دولتين اساسيتين لضمان امن اسرائيل فى المنطقة. وقد هددت التغيرات بهما أمن اسرائيل ما اثر بالتالى على الاسس السياسية للولايات المتحدة فى المنطقة. -- غموض فى مواقف السلطات بعد سقوط الحكومات الموالية للولايات المتحدة فور اطلاق الولاياتالمتحدة "مبادرة الشرق الاوسط الكبيرة" فى المنطقة, ابدت معظم الدول العربية رفضها لأية اصلاحات تفرض عليها من الخارج. وتعانى الدول، التى شهدت اضطرابات سياسية، من انخفاض معدل التنمية وتدنى مستوى معيشة شعوبها وتدهور ظروفهم الاجتماعية. وتراجع النمو فى مصر من 5 فى المائة العام الماضى الى 1 فى المائة العام الجارى، وتقلص حجم الانتاج السياحى بحوالى 50 فى المائة. وتواجه الحكومات الجديدة تحديات كثيرة من ضمنها استعادة الاستقرار وعجلة الانتاج وتلبية احتياجات شعوبها. وليس واضحا بعد ما اذا كانت الحكومات الجديدة ستؤيد سياسة واشنطن فى مكافحة الارهاب وتحافظ على سياساتها مع اسرائيل ومواقفها من حركة حماس ام لا. وقال مسؤول امريكي فى مكافحة الارهاب "ان الوضع الجديد مروع، واضطرت الولاياتالمتحدة الى اعادة ترتيب علاقاتها مع كل دولة فى المنطقة .. هذا يقلقنا كثيرا." وقال غريغوري غوس الثالث، استاذ العلوم السياسية فى جامعة فيرمونت الامريكية، "نأمل من الحكومة المصرية المنتخبة دفع السياسات الاقتصادية التى يمكن ان تجد فيها ارضية مشتركة مع واشنطن. كانت تونس ومصر من الدول الاقوى فى تطبيق سياسات اصلاح السوق، لكن لا نعرف اذا كان القادة العرب، الجدد او القدامى، المنتخبين او القابعين فى السلطة، يرغبون فى اتباع نهج بن على ومبارك ام لا". ويعد خطاب اوباما الذى القاه فى جامعة القاهرة عقب توليه منصبه، والذى اعلن فيه رغبة الولاياتالمتحدة في تقديم مساعدات للدول المضطربة، نسخة من "مشروع مارشال" فى اوربا الشرقية بعد الحرب الباردة, على ما رأت مجلة ((دير شبيغل)) الالمانية. وقالت المجلة "كان مشروع مارشال مرغوب فيه بالنسبة لاوربا فى هذا الوقت لأن اوربا كانت تعلم جيدا مدى حاجتها لمساعدة الولاياتالمتحدة، لكن الكثير من السكان العرب ينظرون الولاياتالمتحدة كشريك فى الجرائم التى ارتكبت ضدهم من قبل الانظمة السابقة بفضل دعمها ومساعداتها المالية الضخمة لتلك الانظمة. لذلك، فانهم لا يعتبرون مساعدة الولاياتالمتحدة ذات اهمية." -- توسع النفوذ السياسي للاسلاميين المفاجئة الاكبر للولايات المتحدة لم تأتى بعد. فى تونس، حصل حزب النهضة فى اكتوبر الماضى على 37 فى المائة فى انتخابات المجلس التأسيسى (89 مقعدا من أصل 217)، ودخل فى ائتلاف مع حزب المؤتمر من أجل الجمهورية برئاسة منصف المرزوقي (29 مقعدا) والتكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات برئاسة مصطفى بن جعفر (20 مقعدا) لانجاز مهمة كتابة الدستور الجديد وتشكيل الحكومة. وكان فوز حزب النهضة، الذى تعرض للقمع فى عهد الرئيس السابق بن على، فى الانتخابات، بمثابة " قطف الاسلاميين لنتائج الثورة الديمقراطية فى تونس". واعلنت مصر فى اوائل ديسمبر الجارى ايضا عن نتائج التصويت للمرحلة الاولى من الانتخابات البرلمانية، وحصلت الاحزاب الاسلامية على 65 فى المائة من اجمالي الاصوات، وحصل الليبراليون الذين لعبوا دورا مهما فى الثورة على 13.35 فى المائة فقط. وفي المغرب، اصبح حزب العدالة والتنمية فى 25 نوفمبر الماضي الحزب الاسلامي المعتدل الثاني الذى يصل الى السلطة. وفاز حزب العدالة والتنمية فى انتخابات البرلمان ب26 في المائة وكلف الامين العام للحزب عبد الإله بنكيران بتشكيل الحكومة.وكانت هذه المرة الأولى التى يحصل فيها حزب اسلامى على هذا العدد من المقاعد منذ اول انتخابات تشريعية في عام 1963. وعلقت صحيفة ((نيويورك تايمز)) قائلة "يبدو ان بعض قادة الاحزاب الاسلامية من المعتدلين، لكن لا بد ان نذكر ان خططهم الدينية المتشددة لن تتغير أصلا." وانهت الاضطرابات فى الشرق الاوسط عصر السياسات الموالية للولايات المتحدة فى المنطقة وتوسع النفوذ السياسى للاسلاميين على اثرها. -- دراما مستمرة وواشنطن تفقد القدرة على المبادرة والقيادة في عام 2004, اقترح الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش مشروع "الشرق الأوسط الكبير" من اجل الاصلاح الديمقراطى في منطقة الشرق الأوسط بالسبل الدبلوماسية والثقافية والاقتصادية. وفي 19مايو الماضي, ألقى الرئيس الأمريكي باراك أوباما خطابا ثانيا يتناول العلاقات بين الولاياتالمتحدة والعالم الإسلامي منذ توليه منصبه, وأشار فيه الى أن الولاياتالمتحدة وضعت اولوية لدفع الإصلاحات السياسية والحركات الديمقراطية في منطقة غرب آسيا وشمال افريقيا. وفي إشارة الى الاستراتيجية الاقتصادية للسياسة الخارجية الأمريكية, أوضحت وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون في أكتوبر الماضي أن من أهم مهام الولاياتالمتحدة ترويج وجهة نظر قيمها الى دول العالم. يقول هوا لي مينغ, الدبلوماسي الصيني المخضرم لوكالة أنباء ((شينخوا)) أن "الولاياتالمتحدة ماهرة في الدبلوماسية العامة والدبلوماسية الشعبية, وفي حالة تناقض وجهة نظر قيمها ومصالحها الاستراتيجية, فانها ستختار الأخيرة بدون تردد". وقال يانغ قوانغ, رئيس معهد دراسات شؤون غرب آسيا وافريقيا التابع لأكاديمية العلوم الصينية ل((شينخوا)) ان صعود القوى السياسية الإسلامية في الشرق الأوسط لا مفر منه, بحكم ارتباطهم بتيارعريض وكبير في المجتمع .. "صعودهم الى السلطة ظاهرة طبيعية في دول يحتل المسلمون اكثر من 80 بالمائة من عدد السكان وبالنظر ايضا الى تمتعهم بسلوكيات نظيفة وقيامهم بأعمال خيرية شعبية واسعة". واضاف قوله "ظهور القوى الإسلامية على المسرح السياسي حدث تدريجيا، وصعودهم سيصبح التيار الرئيسي فى منطقة الشرق الأوسط". وهذا التطور قطعا لا تريده الولاياتالمتحدة، اذ يمثل تحديا لها لابد من مواجهته. وتأمل واشنطن ان تصل السلطة الى المعتدلين فقط والذين تكون المعاملة معهم أسهل نسبيا. وتسربت تقارير بشأن اتصالات بين الولاياتالمتحدة والمعتدلين من القوى السياسية الاسلامية الصاعدة عبر وسائط مختلفة. ولا يبدو فى الافق ان الولاياتالمتحدة ستغير موقفها السياسي المتحيز الى اسرائيل ازاء قضية فلسطين التي تعد القضية الجوهرية في الشرق الأوسط، كما لن تختفي فورا معاداة الشعوب العربية لها والتي بدأت فى التشكل منذ فترة طويلة. لذلك، لن يتغير الانطباع السلبى للعرب عن الولاياتالمتحدة بشكل اساسى، ولن تتمتع الولاياتالمتحدة بمعاملة خاصة في الشرق الأوسط مثلما حظيت فى عصر بن علي ومبارك سواء سيطر المعتدلون على السلطة أو المتطرفون. اذا جاز تشبيه الاضطرابات في غرب آسيا وشمال افريقيا بالمسرحية، فإن الولاياتالمتحدة هى المشاهد الأول. وكانت مشاعرها تجاه الاحداث من بداية العام الى نهايته متناقضة, ليست اقل بأن توصف ب"خيبة الأمل". وبينما يرجح ان تستمر الولاياتالمتحدة فى مقعد المشاهد الاكبر ولن يحتل احد مقعدها على الاقل فى المدى القريب، إلا انها فى الحقيقة تفقد السيطرة الشاملة على منطقة الشرق الأوسط وبدأت تشعر بالعجز عن المحافظة على قدرتها على المبادرة والقيادة في المنطقة.