الجزائر:تحولت محاضرة تاريخية ألقاها الرئيس الجزائري الأسبق الشاذلي بن جديد الاسبوع الماضي بمدينة جزائرية بعيدة، إلى موضوع جدل سياسي كبير، خاصة بعد دخول اللواء المتقاعد ووزير الدفاع الأسبق خالد نزار على الخط.نزار الذي عمل مع الشاذلي خلال ثورة التحرير (1954 1962) وبعدها، وبين الرجلين ما صنع الحداد من خلافات، تحدث مهاجما الشاذلي وفترة حكمه بشراسة، غير أن الشاذلي، الذي عُرف باتزانه وتعاليه عن الجدل، تكلم من جديد وقال أشياء من شأنها إثارة أزمات أخرى. بداية الجدل كانت محاضرة ألقاها مطلع الأسبوع الماضي الرئيس الأسبق في مدينة 'الطارف'، مسقط رأسه والتي تقع على الحدود مع تونس، وذلك في إطار مشاركته في ندوة تاريخية. الشاذلي الذي غادر الرئاسة في 1992 في ظرف مميز، حافظ على الصمت طوال السنوات الماضية، ولم يتحدث سوى مرة أو اثنتين دون أن يقول الشيء الكثير، خاصة وأن فترة حكمه مليئة بنقاط الظل والأسرار. كما أن الطريقة التي غادر بها الرئاسة والظروف المحيطة بها خلفت وراءها ألف سؤال وسؤال. ورغم كل الفضول والشوق لمعرفة رأي الرجل الذي قيل عنه (وفيه) الكثير، إلا أنه ظل متشبثا بواجب التحفظ، الأمر الذي عزز الاعتقاد بأنه لن يتكلم أبدا. وحتى مذكراته التي يتم التحضير لها لم تثر الكثير من الاهتمام، على اعتبار أن الساسة في الجزائر يفضلون الاحتفاظ بالأشياء المهمة والتي تثير الجدل لأنفسهم، حتى لو تطلب الأمر نقلها معهم إلى العالم الآخر. غير أن الشاذلي كسر هذه القاعدة فجأة، لتتحول مشاركة بسيطة في ندوة تاريخية لا تستحق الذكر إلى محاضرة استمرت ثلاث ساعات كاملة. والغريب أن التلفزيون الرسمي الذي غطى الندوة لم يشر لا من قريب ولا من بعيد إلى مشاركة الرئيس الأسبق، ولم يسمح بظهور أي صورة أو صوت له في تغطيته. يمكن تقسيم كلام الرئيس الشاذلي إلى شقين، الأول فهم على أنه رسائل سياسية مشفرة للنظام الحاكم اليوم، والثاني موجه إلى رفقائه في الحكم وفي السلاح خلال ثورة التحرير. فقد قال: 'رؤساء الجزائر يقسمون اليمين باحترام الدستور عند انتخابهم، ولكنهم يفعلون العكس'، وهو ما فسر على أنه تلميح للتعديل الدستوري الأخير الذي قام به الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، والذي فتح أمامه باب الترشح لولاية ثالثة. كما شدد على أنه كان يريد إرساء نظام برلماني عن طريق العودة إلى الشرعية الشعبية وليس الشرعية الثورية، وهي عبارة أسقطت أيضا على الظرف السياسي الحالي، على اعتبار أن الدستور الجزائري بعد تعديله ابتعد أكثر عن النظام البرلماني واقترب من النظام الرئاسي. أما في الشق الثاني من الكلام فقد نسب للرئيس الشاذلي بن جديد هجوم عنيف على من يسمون بالضباط القادمين من الجيش الفرنسي، معتبرا أن هؤلاء كانوا 'عملاء لفرنسا' التي حاولت اختراق الثورة. كاد هذا الكلام أن يمر مرور الكرام، غير أن الرد لم يصدر إلا أمس الخميس بعد أن أرسل اللواء المتقاعد خالد نزار ردا مكتوبا لمعظم الصحف الجزائرية التي وضعته على صدر صفحاتها، وفي اليوم نفسه انفردت صحيفة 'الخبر' بتصريح مكتوب للشاذلي بن جديد الذي رأى أن كلامه في الطارف لم ينقل بأمانة. غضب الجنرال لم يفوت اللواء المتقاعد نزار الفرصة ليرد على رئيسه السابق، معتبرا أن اتهام الشاذلي له بالجوسسة لصالح فرنسا أمر سخيف، فأوضح أن الرئيس الأسبق 'وقع في تناقض لأنه هو من قبلني كمساعد عسكري في المنطقة العسكرية التي كان يترأسها بين 1959 و1960'، معتبرا أن استفادته من تدريب في الجيش الفرنسي شيء طبيعي. وذكر نزار أنه كان رافضا لتولي الشاذلي رئاسة الدولة بعد وفاة الرئيس هواري بومدين في نهاية 1978، مشيرا إلى أنه لما طلب منه ثلاثة ضباط في الجيش إقناع الشاذلي بتولي الرئاسة رفض، واعتبر أن أكبر منصب يمكن أن يتولاه هو وزير دفاع. واعتبر نزار الذي عيّنه الشاذلي وزيراً في قرار نادر سنة 1990 (في العادة رئيس الدولة هو وزير الدفاع) أن الشاذلي يريد تصفية حساب شخصي معه، مؤكدا أن الشاذلي مسؤول بشكل كبير عما حدث خلال الفترة بين 1988 و1992، والتي مهدت لسنوات الفوضى والجنون التي عاشتها الجزائر خلال تسعينيات القرن الماضي. وتساءل نزار عن السبب الذي جعل الشاذلي يخرج عن صمته، ملمحا إلى وجود أطراف تقف وراء هذه الزوبعة. وأشار إلى أن صمته بشأن الطريقة التي خرج بها من السلطة عزز نظرية 'من يقتل من' التي كانت أطراف داخلية وخارجية تروج لها في التسعينات مشككة بأن الجيش أو فرقا منه تقف وراء المذابح الجماعية التي راح ضحيتها مئات القرويين الجزائريين. وواصل وزير الدفاع الأسبق كلامه بالتأكيد أن الشاذلي 'أحاط نفسه بالرداءة في الجيش كما في الرئاسة منذ وصوله إلى الحكم'، وأن قراراته كانت 'تفوح منها رائحة مصالح العصب على حساب مصلحة الدولة'. وذهب نزار أبعد في اتهاماته للشاذلي بالتأكيد على أنه تحالف مع بعض الأصوليين، وأن بعضهم كان مسؤولا في حزب جبهة التحرير الوطني، معتبرا أن الهدف كان محاربة الشيوعيين، لكن الإسلاميين المتطرفين كانوا يحضرون للعنف المسلح. تصحيح واتهامات جديدة من جهته حاول الرئيس الشاذلي في المساهمة المكتوبة التي نشرها أمس الخميس أن يصحح بعض ما نسب إليه من أقوال، مؤكدا في البداية أن واجب المسؤولية هو الذي جعله يطلّق الصمت. ونفى الشاذلي أن يكون القصد من كلامه خلط الأوراق مثلما كتب في بعض الصحف، وشدد على أنه ليست له النية في التأثير على الحراك السياسي الحالي، في إشارة إلى الإسقاطات التي أعطيت لكلامه. وكذب الرئيس الأسبق أيضا أن يكون الهدف من خروجه عن الصمت طرح نفسه بديلا للرئيس بوتفليقة (الذي لم يذكره بالاسم). وعاد الرئيس الشاذلي للحديث مجددا عن قضية الضباط الذين تدربوا في الجيش الفرنسي، مؤكدا أنه لا يضع الجميع في سلة واحدة لأن هناك من التحق بجيش فرنسا مجبرا، قبل أن يفر للالتحاق بالثورة، حسب قوله. وأورد فئة ثانية وصف أصحابها بأنهم ممن التحقوا بالثورة في وقت متأخر وكانوا سببا في عدة مشاكل، موضحا أن الجنرال ديغول حاول اختراق الثورة بكل الوسائل، وأنه طبق سياسة العصا والجزرة. وأضاف أن دفعة الجنرال الفرنسي 'لاكوست' هي تتويج لسياسة اختراق جيش التحرير، وقال: بعد فرار مجموعة من الضباط الجزائريين (...) عينوا على رأس فيالق، لكن المجاهدين رفضوهم وطردوا بعضهم، وأدى إصرار القيادة على فرض بعض هؤلاء إلى وقوع عمليات تمرد. أما فيما يتعلق بخالد نزار فقال الشاذلي: أرسله المجاهد محمدي السعيد إلى المنطقة الأولى التي كنت مسؤولا عنها وعين مستشارا عسكريا، لكن نوابي رفضوه، فأقنعتهم بضرورة الامتثال لقرار القيادة، وظل معنا رغم أننا كنا نعلم بأنه يعمل لصالح الحكومة المؤقتة' التي كانت على خلاف مزمن مع القيادة العسكرية. ولعل أهم ما جاء في الشهادة المكتوبة التي قدمها الرئيس الشاذلي، تحميل أحمد بن بلة، أول رئيس للجزائر المستقلة، مسؤولية اغتيال العقيد محمد شعباني عام 1963، الذي قاد مع حسين آيت أحمد عملية تمرد بمنطقة القبائل. وذكر الشاذلي أن الرئيس بومدين، وكان وقتها وزير دفاع، اتصل به ليخبره بأن بن بلة عينه عضوا بالمحكمة الثورية التي تشكلت لهذا الغرض، وأنه يطلب منه الحكم على شعباني بالإعدام، وكان ذلك قبل بدء المحاكمة. وأوضح أن عددا من الضباط آنذاك اتصلوا بالرئيس بن بلة ليطلبوا منه العفو عن العقيد شعباني، إلا أنه رفض أكثر من مرة، وأنه ذهب إلى حد شتم العقيد السعيد عبيد، مصرا على تنفيذ حكم الإعدام بسرعة. وختم الشاذلي بالتأكيد على أن بن بلة قرأ في الصحف خبر اعدام شعباني عندما كان قاصدا القاهرة، وأنه علق بالقول 'خسارة.. كيف يعدمون ضابطا شابا مثل شعباني'! الكلام الجديد الصادر عن الشاذلي بن جديد، قد يدفع الرئيس بن بلة للخروج عن صمته أيضا، وقد يرد اللواء نزار بدوره مرة ثانية، إضافة إلى أطراف أخرى قد تدلي بدلوها في القضية. جدير بالذكر أن اللواء المتقاعد خالد نزار سبق وأن دخل في جدل مع عدة شخصيات سابقة في الدولة، بداية بعلي كافي رئيس مجلس الدولة السابق (الهيئة الخماسية التي حكمت الجزائر بعد استقالة الشاذلي في 1992) وبلغ بينهما الخلاف حد السباب وتبادل الكلمات النابية علنا. كما دخل في صراع عبر الصحف مع رئيس الحكومة الأسبق بلعيد عبد السلام، ومع أحمد طالب الإبراهيمي وزير الخارجية الأسبق، ومع عبد العزيز بلخادم رئيس الحكومة السابق. كما انه انتقد بوتفليقة في تصريحات صحافية عشية الانتخابات الرئاسية في 1999، واصفا اياه بأنه 'دمية' وبأنه عاش طول حياته فس ظل بومدين. ولم يرد بوتفليقة على تلك التصريحات. وكانت آخر معركة له مع عبد الحق العيايدة احد مؤسسي الجماعة الاسلامية المسلحة، الذي قال ان نزار طلب منه العفو عنه، فرد اللواء في مقال صحافي بأنه 'لا يعتذر من الإرهابيين حتى لو وضعوا السلاح'، وأنه يتحمل مسؤولية القرارات التي اتخذها لما كان على رأس الدولة!