عميد كلية أصول الدين بجامعة الأزهر بالمنصورة وعضو مكتب الإرشاد بجماعة الإخوان المسلمين وعضو الإتحاد العالمي لعلماء المسلمين الحمد لله الذي بتوفيقِه نستعين.. ولعظمتِه نستكين.. وبما وصَّى به النبيين من شريعتِه نَدِين.. ونستهديه الصراطَ المستقيمَ الذي أنعم الله به على النبيين.. والصديقين والشهداء والصالحين.. وصلى الله وسلم على خاتم النبيين.. وسيد المرسلين.. سيدِنا محمد النبي الأمين.. وعلى آله الطيبين الطاهرين.. وأصحابه البررة المتقين.. ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين. وبعد، أيها الكرامُ السادة.. فقد جاءني صديقي النبيهُ كالعادة.. فحيَّا وجلس والهم يعصِره.. والحيرةُ تطويه وتنشرُه.. قلت: خيرا يا صديقي ما الخبر؟.. ولماذا يبدو عليك الضيقُ والضجَر؟.. قال: هل عرفتَ ما جري لأخينا سعادة؟.. قلت: جزاه الله عنا خيراً وزاده.. فما زال يبسط لنا ولكل إخوانه وداده.. فما الذي يا صاحبي جرى؟.. وهل أصابه شر يا تُرى؟. قال: لقد وَشَى به بعضُ زملائه في العمل إلى المدير.. ونقلوا عنه زوراً أنه يذمه عند الصغير والكبير.. وأكثرُهم كذباً عليه زميله طَرْطِير.. الذي يحسده على ما يناله من حب الصغير والكبير.. وما يحمله له أكثرُ زملائه من الاحترام والتقدير. وقد استغل طَرْطِير سلامةَ نيتِه.. وصفاءَ قلبِه وطهارةَ طَوِيَّتِه.. وطلب منه بعضَ معلوماتٍ زعم أنها من حاجتِه.. فلم يجد سعادةُ بُدًّا من تحقيقِ رغبتِه.. وكان ذلك منه بحسن نية وبغير سوء قصد.. لكن طَرْطِيرا حرَّفها وطار بها إلى المدير عن سابق ترصُّد وعمد.. مما جعل المديرَ الذي اشتدَّ به الضيق.. يحول صاحبَنا إلى التحقيق.. والله أعلم ما الذي سيؤول إليه حالُه في العمل.. فاسأل اللهَ أن يحفظه من الكيد وأن يحميَه من الزلل.. وأن تنكشف الحقائقُ ليظهر أين الخلل. قلت: ولم يا صديقي كلُّ هذا الحسد؟.. قال: لأنه يخشى أن ينال سعادةُ ترقيةً لا ينازعه فيها أحد.. لما عُرف عنه من الاجتهاد في عمله والجِدِّ والجَلَد.. قلت: يا سبحان الله أما علم أن الرزق ليس بيد أحد. قال: إنا لله وإنا إليه راجعون.. قلت: على كل حالٍ فما قدَّره الله سيكون.. ولله في خلقه حِكَمٌ وشؤون.. وليس للباطلِ قدمٌ عليها يسير.. وغداً ينكشف المستور.. ويندم المدعُوُّ طَرْطِير.. فقد قال سيد الأخيار.. «المكرُ والخديعةُ في النار».. وقال سيد الخلق من إنس ومن جان.. «لا يدخل الجنة خِبٌّ ولا بخيلٌ ولا منَّان».. وفيما روى أبو بَكْرٍ الصِّدِّيق عن المصطفى المبعوث من ربه.. قَالَ :«مَلْعُونٌ مَنْ ضَارَّ مُؤْمِنًا أَوْ مَكَرَ بِهِ».. وقد عظم النبيُّ سوءَ الجزاء.. لمن يسعى بالوقيعة بين الأحباء.. ومَنْ يمكر ليفسدَ قلوب الأَوِدَّاء.. فقال مسكُ ختام الأنبياء.. مبيناً ما أعد الله للغادرين الماكرين من الجزاء.. «إذَا جَمَعَ اللَّهُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرْفَعُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ.. فَقِيلَ هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ».. فيا خيبة الغادر المسكين يوم العرض على الديان. ولكني يا صاحبي على يقين.. بأن المكر لن يصيب غير الماكرين.. فقد قال أحكم الحاكمين في محكم التنزيل.. ﴿ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله﴾ فافهم أيها النبيل.. وقال الإمام العادل الزكي.. أبو الحسنين سيدنا علي.. ثلاثٌ من كن فيه فهي راجعة على صاحبها.. البغيُ والمكرُ والنَّكْثُ، وبئس طالبُها.. ثم قرأ ﴿ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله﴾ ﴿يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم﴾ ﴿فمن نكث فإنما ينكث على نفسه﴾. ولله دَرُّ الإمام العالم الذكي.. سيدنا سفيان بن سعيد الثوري.. فقد أوصى بعضَ تلاميذه المقربين.. فقال: لا تمكرنَّ المكرَ السيءَ بأحدٍ من المسلمين.. فإنه لا يحيق المكر السيء إلا بأهله الماكرين.. ولا تبغِيَنَّ على أحد من المسلمين.. فقد قال رب العالمين في الكتاب المكنون.. ﴿يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم﴾ أيها العاقلون.. ولا تَغُشَّ أحداً من المؤمنين.. فقد بلغنا عن سيد المرسلين.. «من غش مؤمنا فقد برئ من المؤمنين».. ولا تخدعن أحداً من المؤمنين.. فيكون نفاقاً في قلبك إلى يوم الدين. قال صديقي المغرمُ بالأدب.. ألا تذكر لي بعض ما قالت حكماءُ العرب.. في المكر من حكم كلُّها صوابٌ وعجب.. قلت: هاك بعضَها يا كريمَ الأصل والنسب.. من حفر لأخيه قليباً.. أوقعه الله فيه قريباً.. ومن حفر لأخيه جُباً.. أوقعه الله فيه منكباً.. ومن حفر بئراً لأخيه.. أوقعه الله تعالى فيه.. وقد أَبَي الله أن يقع في البئر إلا مَنْ حفر.. وأن يحيق المكرُ السيء إلا بمن مكر.. وقيل: رُبَّ حيلة.. كانت على صاحبها وَبِيلة.. وصدق الحكيم الذي قال.. رُبَّ حيلةٍ أهلكت المحتال.. وفي الهند يقول أهل الوَعْي.. لا ظَفَرَ مع البَغْي. وما أصدق ما قال الشاعر: ومن يحتفر بئراً ليوقع غيره سيوقع يوماً في الذي هو حافر قال صديقي أدام الله عليه نعمة الدين..: أما قرأ هذا الماكر المخادع المسكين .. ﴿ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين﴾.. قلت: كم من ماكرٍ ظنَّ أن الله لا يعلم مكرَه.. فأتاه الله من حيث لا يظن ومن حيث أخذ حِذْرَه.. ﴿قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون﴾.. فيا خيبةَ الماكر المعتدي المأفون. وقد ذكر النبي أن أهلَ النار خمسةٌ كلُّهم هالك.. وذكر منهم رجلاً لا يصبح ولا يمسي إلا وهو يخادعك عن أهلك ومالك. قال صديقي: يا ويلَ المسكينِ طَرْطِير.. الذي غلبه الطيشُ وغره بالله الغَرور.. ونسي أنه لا خدعةٌ تُجْدي ولا مكرٌ نافعٌ ولا غشٌ مطوِيٌ عليه ضمير قلت: لئن كانت المنافسةُ على المنصب الذي يزول.. هي التي حملت طَرْطِيراً على ما يفعل ويقول.. فقد أخطأ الطريق وضل السبيل. منافسة الفتى فيما يزولُ على نقصان هِمَّتِه دليلُ ومختارُ القليلِ أقلُّ منه وكلُّ فوائد الدنيا قليل وليته يعلم يا كريمَ أهله.. أنَّ من نصب للغواية شَرَكاً اختنق بحبله.. وأنه لا يحيق المكر السيء إلا بأهله. فطِبْ نفساً أيها الطيبُ الأغر.. واقرأ وقائعَ التاريخ فكلها عبر.. تريك كيف يعود المكر على من مكر. قال صديقي: سبحان ربي مصرِّفِ القدَر.. والله إن فيما ذكرت لعبرة لمن اعتبر. قلت: وعلى كل حال يا صديقي الأمين.. أبشر فالله يكفي عباده المحسنين.. من مكر الماكرين.. ومن كيد الكائدين.. ولن يجد الماكر لمكره سبيلا.. سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا. كفايةُ الله خيرٌ من تَوَقِّينا وعادةُ الله في الماضين تكفينا كادَ الأعادي فلا والله ما تركوا قولاً وفعلاً وتلقيناً وتهجينا ولم نَزِدْ نحن في سرٍّ وفي علنٍ على مقالتنا: يا ربنا اكفينا فكان ذاك وردَّ الله حاسدَنا بغيظِه لم يَنَلْ تقديرَه فينا وها هنا يا أعزَّ الأصدقاء.. أختم اليوم هذا اللقاء.. بحمد الله ذي المنِّ والعطاء.. ثم الصلاة على أمير الأنبياء.. وقدوة الأخيار الأصفياء.. وعلى أزواجه وآل بيته السعداء.. وعلى أصحابه وأتباعه الكرماء.. صلاة دائمة ما غَنَّتْ على الأَيْكِ وَرقْاء.