الناطق باسم المحكمة: تنفيذ بطاقة الجلب في حقّ سنية الدهماني تم في كنف القانون    رابطة الدّفاع عن حقوق الإنسان: تنفيذ بطاقة جلب بمقرّ دار المحامى "سابقة خطيرة"    ''الستاغ'' تشرع في تركيز العدّادات الذكية    صفاقس جوان القادم الستاغ تركز اولى العدادات الذكية    النادي الإفريقي يكشف تطورات الحالة الصحية لمدافعه المصاب    جوان القادم.. "الستاغ" تشرع في تركيز اول دفعة من العدّادات الذكية    ر م ع ديوان الزّيت: تطور ب27 % في الكميات المصدرة من زيت الزّيتون المعلب    نتائج استطلاع رأي أمريكي صادمة للاحتلال    رجة أرضية بسيدي بوزيد    مواجهة نارية منتظرة للإتحاد المنستيري اليوم في الدوري الإفريقي لكرة السلة    حضور جماهيري غفير لعروض الفروسية و الرّماية و المشاركين يطالبون بحلحلة عديد الاشكاليات [فيديو]    انشيلوتي.. مبابي خارج حساباتي ولن أرد على رئيس فرنسا    اليوم: إرتفاع في درجات الحرارة    حوادث: 07 حالات وفاة و اصابة 391 شخصا خلال يوم فقط..    الأونروا يكذب ادعاء الاحتلال بوجود مناطق آمنة في قطاع غزة    طقس اليوم.. سحب عابرة وارتفاع في درجات الحرارة    وفاة مفاجئة لنائب المستشار السويسري في الجبال    الاحتفاظ بالاعلامي مراد الزغيدي مدة 48 ساعة    مظاهرات حاشدة في جورجيا ضد مشروع قانون "التأثير الأجنبي"    حالة الطقس ليوم الأحد 12 ماي 2024    وزير الخارجية يلتقي عددا من أفراد الجالية التونسية المقيمين بالعراق    أزعجها ضجيج الطبل والمزمار ! مواطنة توقف عرض التراث بمقرين    وزير الشؤون الخارجية ووزير النقل العراقي يُشددان على ضرورة فتح خط جوي مباشر بين تونس والعراق    أولا وأخيرا: نطق بلسان الحذاء    البطولة العربية لالعاب القوى تحت 20 عاما - تونس ترفع رصيدها الى 5 ميداليات من بينها 3 ذهبيات    قيادات فلسطينية وشخصيات تونسية في اجتماع عام تضامني مع الشعب الفلسطيني عشية المنتدى الاجتماعي مغرب-مشرق حول مستقبل فلسطين    مصادر إسرائيلية تؤكد عدم وجود السنوار في رفح وتكشف مكانه المحتمل    مع الشروق .. زيت يضيء وجه تونس    سوسة: أيّام تكوينية لفائدة شباب الادماج ببادرة من الجمعية التونسية لقرى الأطفال "أس أو أس"    6 سنوات سجنا لقابض ببنك عمومي استولى على اكثر من نصف مليون د !!....    تطاوين: إجماع على أهمية إحداث مركز أعلى للطاقة المتجددة بتطاوين خلال فعاليات ندوة الجنوب العلمية    النادي الافريقي: فك الارتباط مع المدرب منذر الكبير و تكليف كمال القلصي للاشراف مؤقتا على الفريق    الدورة 33 لشهر التراث: تنظيم ندوة علمية بعنوان "تجارب إدارة التراث الثقافي وتثمينه في البلدان العربيّة"    تنظيم الدورة 35 لأيام قرطاج السينمائية من 14 إلى 21 ديسمبر 2024    مهرجان الطفولة بجرجيس عرس للطفولة واحياء للتراث    بطولة الاردن المفتوحة للقولف - التونسي الياس البرهومي يحرز اللقب    مفتي الجمهورية : "أضحية العيد سنة مؤكدة لكنها مرتبطة بشرط الاستطاعة"    مدير مركز اليقظة الدوائية: سحب لقاح استرازينيكا كان لدواعي تجارية وليس لأسباب صحّية    عاجل/ الاحتفاظ بسائق تاكسي "حوّل وجهة طفل ال12 سنة "..    نحو 6000 عملية في جراحة السمنة يتم اجراؤها سنويا في تونس..    عاجل: سليم الرياحي على موعد مع التونسيين    أسعارها في المتناول..غدا افتتاح نقطة بيع من المنتج إلى المستهلك بالعاصمة    الحرس الوطني يُصدر بلاغًا بخصوص العودة الطوعية لأفارقة جنوب الصحراء    عاجل : إيلون ماسك يعلق عن العاصفة الكبرى التي تهدد الإنترنت    لويس إنريكي.. وجهة مبابي واضحة    الجامعة التونسية لكرة القدم تسجل عجزا ماليا قدره 5.6 مليون دينار    استشهاد 20 فلسطينياً في قصف للاحتلال على وسط قطاع غزة..#خبر_عاجل    صفاقس: الإحتفاظ بشخصين من أجل مساعدة الغير على إجتياز الحدود البحرية خلسة    القصرين: بطاقة إيداع بالسجن في حق شخص طعن محامٍ أمام المحكمة    لتعديل الأخطاء الشائعة في اللغة العربية على لسان العامة    مهرجان ريم الحمروني للثقافة بقابس.. دورة الوفاء للأثر الخالد    مسيرة فنية حافلة بالتنوّع والتجدّد...جماليات الإبدالات الإبداعية للفنان التشكيلي سامي بن عامر    بعيداً عن شربها.. استخدامات مدهشة وذكية للقهوة!    تونس تشدّد على حقّ فلسطين في العضوية الكاملة في منظمة الأمم المتّحدة    الكريديف يعلن عن الفائزات بجائزة زبيدة بشير للكتابات النسائية لسنة 2023    في تونس: الإجراءات اللازمة لإيواء شخص مضطرب عقليّا بالمستشفى    منبر الجمعة .. الفرق بين الفجور والفسق والمعصية    دراسة: المبالغة بتناول الملح يزيد خطر الإصابة بسرطان المعدة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



وزارة الدّاخليّة...واعتماد الموضوعية في تحليل الأحداث.. صالح مورو
نشر في الفجر نيوز يوم 22 - 04 - 2012

«الشَّرَنْبيطُ*» عبارة هجينة، وُلدتْ مع الاستعمار الفرنسي، كانت تستعملها أمّي لتهديدنا حين نتقاسم خبز الحنطة في ما بيننا أيّام الجمر، لكنّه لا يسدّ رمقنا ، فتندلع بيننا المعارك ويشتدّ صياحنا...تفزع أمّي لحالنا مهرولة نحونا، تاركة طاجينها على نار الحطب، مردّدة:«كمشة كلاب شيّبت رأسي على صغري سنّي، والله لا ينفعنّ فيكم إلاّ «الشّرنبيط»، اليومَ يومكم، سأريكم ما أنا فاعلة!»...نتفرّق كالقطط كلّ في اتجاه... لم نر هذا «الشّرنْبيط» يوما إلى أن فارقتنا، رحمها الله، ونحن رجال بالغون...
مع الزّمن، اكتشفنا أنّ «الشّرَنْبيط» سوط لاذع يُقدّ من جلد خشن يابس، أو ممّا يضاهيه يبسًا، يصلح لنهر أو حثّ البغال والأحصنة على المسير...وقد يستعمل أيضا لإقامة «الَحدّ» جلدا إذا ما زاغ أحد عن القاعدة وارتكب معصية مثّلت نشازا داخل المجموعة...كانت العقوبة تسري على العامّة من النّاس إذا ما اخترقت القانون المعمول به وقت الاستعمار...
1- تشخيص الرّاهن:
قدّمنا لقطة مضتْ من ماض سحيق تجاوز النّصف قرن، لننسحبَ منها إلى حاضر أليم يقضّ المضاجع في أنصاف الليالي لما يكتنفه من غموض بشع لا ملامح له... غموض ننزلقُ منه لنذكّر بأنّ التشريع والقضاء والتنفيذ سلطات ثلاث تتكامل في ما بينها وتعمل لصالح البلاد والعباد. كلّ وزير يضبط نشاطه وفق القوانين الموجودة تحت يده وبحسب ما تتطلّبه الأوضاع السائدة في البلاد في انتظار سنّ قوانين جديدة تتماشى وروح الثّورة، مُستأصلة كلّ مكبّل للفكر والحركة والحرّيّة. كلّ التقارير جاءت تؤكّد أنّ الوضع الاقتصاديّ والاجتماعيّ في تونس متردّ، وأنّ حالنا يدعو إلى الشفقة. أدمتنا الاضطرابات بجميع أشكالها. نفرنا رجال الأعمال والسيّاح وخسرنا العديد من الفرص المواتية للاستثمار، أضرّ بعضنا ببعضنا إلى درجة غلق باب الرّزق وغلاء المعيشة إلى حدّ لا يطاق، ومع ذلك مازلنا متمادين في جهلنا لجهلنا ولحالنا، فما الحلّ يا ترى؟!
شارع بورقيبة، شريان الحياة الأساسي في العاصمة وواجهة تونس، يمثّل المرآة العاكسة لوضعنا الحقيقي في استتباب الأمن من عدمه داخل كامل الجمهوريّة. القادم إلى تونس والخارج منها يحمل الصورة الإيجابيّة أو السلبيّة عنّا كشعب في حالة بناء أو هدم لبلاده في ما أقدم عليه أخيرا من برامج لتحقيق أهداف الثّورة التي خاضها وأزاح عين البلاء والشّرّ بواسطتها.
بعد الثّورة، كلّ التّظاهرات والمظاهرات داخل هذا الشارع الشّريان أثبتت بما لا يدع مجالا للشّكّ أنّ نهايتها كانت وخيمة على الفضاءات التّجاريّة والعباد وأثارت ألف جدل وجدل، ونقاشات بيزنطيّة لم تترك إلا العداء بين النّاس، وحفر وتعميق الهوّة بين مختلف الحساسيّات الاجتماعية والسياسيّة والثّقافيّة، وتعكير الأجواء لينتكس الوضع من جديد وتتوالد المشاكل تباعا مُتفاقمة، مُضيفة سوء على سوء...فما الحلّ يا ترى؟!
رأس الفتنة الذي كنّا نطلبه أطحنا به وطردناه شرّ طردة، فما الذي مازلنا نبحثُ عنه داخل شارع بورقيبة، هذا الذي أتعب الجميع وقضى تقريبا على الجميع، وتتمادى التظاهرات فيه مُنبئة باستئصال الجميع «معارضة وحكومة» كأنّها اللعنة النّازلة من السّماء؟! ما الحلّ يا ترى؟!
يقول عامتنا:«ما في قلب الذّئب، في قلب الرّاعي»، ويبدو أنّ الرّاعي قرأ قراءة جيّدة ذئبه المُتصيّد لغنمه، ونصب فخّه للإيقاع به حتّى يسلمَ وتسلمَ الغنمُ...لأنّه كان يعلم تمام العلم أنّ الحديث الطيّب:«ألا كلّكم راع، وكلّكم مسؤول عن رعيّته...» يصعب تحقيق المُعادلة المضمّنة صلبه. من أين لنا إيجاد فردٍ رعيّة مسؤول إلى جانب الرّاعي في هذا الزّمن الأغبر المشؤوم؟! ليس ثمّة إلاّ من يُهشّم ويكسّر، طالبا قلب السّماء على الأرض، عاملا معول الخراب في كلّ أخضر ويابس... باسم أنشودة لا يفقه معناها، مُتصوّرا أنّ العلم والمعرفة والفهم مُنطلقات من كيانه وراجعات إلى كيانه...
«الاحترام الواجب للقانون» يفسّره الأديب الفرنسي «فيكتور هيجو» بكونه لا يعني إلغاء النّقد بموجب احترام القانون، وإنّما بكامل البساطة «احترام تنفيذ القانون» ولا شيء غيره...مع تبريك النّقد واللّوم الشديد والتّعليق كما يحلو لكلّ فكر، والهجوم حتّى على الدستور ذاته، دون «الوقوف المادّي» ضدّ تنفيذ ما جاءت به القوانين ولو كانت جائرة وظالمة...وهو ما يعني في الواقع أنّ «التمرّد ممنوع» وبأيّ شكل من الأشكال حتّى يأتي ما يخالف ذلك بعد كلّ الاعتراضات من النّقّاد واللائمين...
2- مدى مشروعيّة تدخّل وزارة الدّاخلية:
للمساءلة والمحاسبة، على خلفيّة ما وقع من أحداث داخل شارع بورقيبة بمناسبة ذكرى عيد الشّهداء يوم التّاسع من أفريل، جلس وزير الدّاخليّة التونسي «علي العريّض» أمام الطاولة المؤدّية مباشرة إلى بهو حلبة قاعة المجلس التأسيسي أمام الكاميرا... هكذا اقتضت قوانين لعبة الديمقراطية الحديثة أو ما يسمّى بنتاج الثورة... جلس الرّجل ووضع كامل ملفّ الدّفاع عن وزارته وأعوانه أمامه منتظرا إشارة رئيس المجلس التأسيسي بالبدء... رُفعت المطرقة الخشبيّة الصغيرة لتأذن بإعطاء إشارة الانطلاق...وينطلق الوزير في تقديم مبرّراته:
يقول وزير الدّاخليّة في ما معناه: مشروعيّة تدخّلنا كوزارة أملته هزّات الأحداث التي عشناها على السّاحة بعد ثورتنا، وهو ما يتطلّب منّا السّهر على تنظيم واقعنا والنّظر في ما يمكن فعله لتحسين الأوضاع بالابتعاد عن كلّ ما من شأنه المساس بالسير العادي لنسق الحياة الطبيعي بشوارع كلّ المدن، كما بشوارع العاصمة، وخاصة منها شارع بورقيبة، هذا الذي أصبح مدعاة لكلّ صراع متجدّد يتطوّر مع الأيام لغير صالح المجموعة الوطنية، فاعتمدنا لذلك قرارا صدر في صورة بلاغ يمنع التظاهرات والمسيرات بشارع بورقيبة للأسباب التي ذكرناها، مع إمكانية التّظاهر بشوارع أخرى كشارع محمد الخامس مثلا. الدولة بصفتها الممثل الرّمزي للشعب تطبّق القانون وتتخذ القرار الذي تراه ملائما للأوضاع. ما قمنا به جاء حسب ما أملاه علينا الضمير والواجب للمحافظة على حقوق العباد...تأكّد لدينا في ما بعد وقبل المظاهرة نشر نداءات على الموقع الاجتماعي تحرّض العازمين على القيام بهذه المظاهرة على الاستعداد لهذا الحدث في اليوم الموعود، وإحضار ما يلزم من الحجر والحليب للصمود وحسم الموقف وذلك بإسقاط هذه الحكومة... اعترض رجال الأمن المسيرة الأولى من هذه المظاهرة بشارع محمد الخامس، وكان يقودها بعض من السّادة الأعضاء في المجلس التّأسيسي، وقع التّحاور معهم من طرف ضبّاط سامين في الأمن، محاولين إقناعهم باحترام القانون، وما هم إلا منفّذين للأوامر مع الإشارة عليهم بالوصول في مسيرتهم إلى حدود نهاية شارع محمد الخامس المُطلّة على بورقيبة. ثمّة من المتظاهرين من تجاوب مع توسّلات رجال الأمن المتضرّعين بين أيديهم، وثمّة من استعصى وأنكر الأمر، وطالب بالمواصلة في الاختراق ولو بالقوّة، الشيء الذي صدر عنه رمي بالمقذوفات الماديّة من أحجار ومولوطوف، والمقذوفات المعنويّة التي تمسّ بشرف وهيبة رجل الأمن، حامي الحمى والذّائد عن الأرض والعرض، ووصفه بالعميل ل«حزب النّهضة» وهو المُمثّل للأمن الجمهوري، مما أسفر على ردود أفعال متفاوتة، نتج عنها سقوط بعض الجرحى من الجانبين...
استغرب وزير الدّاخليّة الاتّهامات التي تدّعي وجود ميليشيّات من «حزب النّهضة» بين رجال الأمن وطالب بفتح تحقيق مستقلّ من طرف لجنة محايدة تبحث وتثبت جميع التّجاوزات التي قد تكون حصلت من الطّرفين- أمنًا ومتظاهرين- ولاحظ أنّ بعض الأطراف تكيل الواقع بمكيالين: حين يلاحظون ضررا مسّ بعض المواطنين من جرّاء مظاهرات من مثل هذا القبيل، ينهالون باللائمة تلو اللائمة على الأمن ويصفونه بالمتواطئ والمُتخاذل... وحين يتدخّل الأمن لفرض النّظام والحفاظ على الممتلكات والأشخاص، يُصبح من بقايا الديكتاتوريّة والعهد الفاشي، وأنّ الإطاحة به تُعدّ نضالا...حتّى أنهم في شعاراتهم يُطالبون بتحرير «شارع بورقيبة»...«ممن سيحرّرونه؟ أنا الآخر جزء من هذا الشارع، أنا بدوري حرّرته وكلّ من هو في السلطة اليوم جزء من هذا التحرير. إذا، ممّن سيقع تحريره؟ كلّنا أبناء هذا الشعب، لنا نفس الحقوق ونفس الواجبات وإذا ما قرّرنا شيئا فلهدف «التنظيم» لا «المنع»، لهدف عدم المساس بأملاك النّاس في مثل هذه الفعّاليات الملغومة ببعض المندسّين للخراب...». أنهى الوزير تدخّله بعرض مشاهد من المظاهرة للتوضيح، وفسح المجال لأسئلة السّادة أعضاء المجلس التّأسيسي للاستفسار ومناقشة ما تمّ طرحه.
3- ما وراء التّشخيص ونقل الأحداث:
العضو بالمجلس التّأسيسي «زياد العذاري» عن «الترويكا» بانتمائه النّهضوي دافع بشراسة عن وزير الدّاخليّة، مذكّرا بنضاله الذي لا يختلف فيه اثنان...الرّجل عرف الطّوابق السّفلية من وزارة الدّاخليّة قبل أن يعرف العلويّة، ووجوده اليوم بها لن يكون انطلاقا لبداية «مهنة ديكتاتور» كما قال الجنرال ديغول. الرّجل مناضل وسيبقى مناضلا، هو رافض للعنف قبل 14 جانفي وبعده كالكثير من أمثاله، لأنّ منطق العنف هو منطق الثّورة المُضادّة. العنف ليس رأيا، كم أنّه ليس وجهة نظر، وإنّما هو نفي للحجّة والحوار والتّنافس. العنف نفي للتّعدّديّة التي نريدها أن تبنيَ هذا المسار الانتقالي. نحن لا نريد أن نستبدل قوّة المنطق بمنطق القوّة، ولا استبدال دولة القانون بقانون الغاب... لا أحد يقبل بقانون الغاب.
استماع كلّ أعضاء المجلس بانتباه لتدخّل «زياد العذاري» كان ملحوظا... مع أواخر هذه الكلمات، طأطأ الوزير رأسه، حكّ جبينه، رفع رأسه، عينان مغرورقتان بالدّموع، دموع توحي لعين الفراسة بأنّه رجل شهم ومقدام ، لكنّ الزّمن الرّديء مازال يواصل الإزراء به رغم نُدرة أمثاله في الجدّيّة والصّدق. مرّر بكفّه اليمنى على وجهه باحتشام، رفع ببصره إلى أعلى مُحدّقا في فضاء القاعة الشّاسع، كأنّه يودّ الإفلات من اللّحظة أو يستحثّ رباطة الجأش وصبر أيّوب ويقول في قرارة نفسه: «إرضاء النّاس غاية لا تُدرك! وعلى أيّة حال، ها هنا واحد أنصفني وشعر بما أشعر حيال هذا الشّعب العزيز، فلما أتشاءم إلى هذا الحدّ وأترك للوهن فرصة مهاجمتي؟» واصل زياد دفاعه، محمّلا سيادة الوزير هاجس الأمن، طالبا منه أن يضع الأمر بين يديه ونصب عينيه وذلك بالتّعاون مع كلّ إطارات وأعوان وزارة الدّاخليّة..
الواضح في هذا المقال أنّنا تحدّثنا عن الجاني المتمثّل في شخص وزير الدّاخليّة، قدّمنا أقواله وشواهده، ونصّبنا له لسان دفاع من فصيلته، كأنّنا نبرّر أفعاله لنخرجه في ثوب البريء من حلبة الصّراع دون أن نستمع إلى المجني عليه المتمثّل في المتظاهرين أو ما يُسمّى ب«المعارضة»، فربّما فقدت عينيها إذا ما كان الجاني في هذه الحال فاقدا لعين واحدة... في استماعنا إلى المجني عليه، سننطلق من معطيات بديهيّة ثابتة الوجود، نطرح من خلالها أسئلة متلاحقة يكون الجواب عليها منّا أو من المجني عليه إثبات الظّالم من المظلوم في قضيّة الحال، ويُفكّ بذلك الطّلسم ويُغلق ملفّ هذه القضيّة نهائيّا.
من المعلوم لدى الجميع في هذا البلد الطيّب أنّ مسار تحقيق أهداف الثورة يتّبع خارطة طريق وضعها الجميع من خلال انتخابات رضي بنتائجها الخاصّ والعامّ في البلاد وخارجها، لما اعتمدت عليه من وضوح وشفافيّة رغم عدم ابتسام الحظّ للبعض. انتخابات أفضت إلى ميلاد مجلس تأسيسي لصياغة الدستور، حكومة تسيّر شؤون الشّعب، رئيس للجمهوريّة يشرف على المناخ العام ويمثّل هيبة الدّولة. ثلاثيّة مختارة بأغلبيّة رغم طول نقاش واعتراض لتملأ حيّزا من الزّمن في خططها المرسومة كلّ في ميدانه ثمّ تسلّم المشعل بعد سنة أو ما يزيد قليلا لثلاثيّة أخرى يقع انتخابها بمعايير أكثر دقّة وانضباطا من الانتخابات الأولى، وترتقي البلاد بهياكلها من صفة «المؤقّتة» كما تحلو تسميّتها إلى «الدّائمة» ف«الأزليّة» إن شئنا.
من خلال ما سبق بيانه، نودّ أن نطرح على المجني عليه «المعارضة» أسئلة تخامر أذهاننا وتملؤنا قلقا بدأ يتّخذ شكل المزمن لما نرى فيه من خطر يهدّدنا ويأخذ بلادنا إلى «الدّخول في الحائط» كما يعبّر عن ذلك بعض عامّتنا:
• ما سرّ إحضار أكياس بيضاء مُعبّأة حجرا إلى الأنهج والشّوارع المتفرّعة عن شارع بورقيبة يوم 9 أفريل 2012 لإحياء ذكرى عيد الشّهداء؟!- جاء هذا في مشاهد واضحة على الفيديوهات المقدّمة عبر شاشات التلفزيون التونسيّة.
• قذفُ الحجر قد يكون سببا في الوفاة. هذا وارد تأكيدا وبنسبة مُخيفة. ألا يُعدّ إحضاره واستعماله من قبيل الجرائم الحينيّة التي تهدف القتل العمد مع سابقيّة الإضمار والتّرصّد - في قانون الجريمة-؟!
• هل التّسلّح بمثل هذه الأداة الحجريّة وغيرها مع استعمالها يُعبّر عن سلميّة المسيرات والمظاهرات ويعطي ردود أفعال معقولة من طرف رجال الأمن؟!
• ما سرّ قصّة تحرير شارع بورقيبة وإسقاط الحكومة؟ هل لديكم رجال أمن أفضل من الموجود حتّى تهاجموا الحاضرين منهم بذلك العنف لاستدراجهم إلى العنف المضادّ؟! صورة عون الأمن المفتوح الخدّ على طوله، والشّابّ المتظاهر المشجوج الرّأس في أمّه تدمي القلوب وتزرع الرّعب...
• هل بديل الحكومة التي تنوون إسقاطها على غاية من الكفاءة وفي تمام الجاهزيّة لتسلّم الأعمال برقا، وتسليط الضّوء على الملفّات لمحا، وإعطاء قيصرَ حقًّا داخل هذا الشّعب؟!
• نيّة إسقاط الحكومة ألا تُعتبر جريمة في حقّ هذا الشعب الذي تنوون إدخاله في دوّامة لا يعلم وقوف دورانها إلاّ الله؟!
• المعارضة، هذه المَجنيِّ عليها في واقعة الحال... فيها ما فيها من الحكماء والعلماء والخبراء وأصحاب الرّأي الحصيف، وهم يمثّلون خير سند ومدد لتونس بجميع مكوّناتها... ألا تؤمن هذه المعارضة بمبدأ التّداول السّلمي على السّلطة بحسب ما تقرّه القوانين ولعبة الديمقراطيّة هذه التي تبدو ضالّة الجميع وعلى وقعها نتحرّك لنبنيَ مستقبلنا الواعد... لما لا تُعدّ نفسها لمباراة الانتخابات القادمة ربيع 2013 بأشكال وطرق ومناهج أكثر واقعيّة ونجاعة وذكاء بعيدا عن كل حركة استفزاز واحتقار وسوء تقدير يقودنا جميعا إلى متاهات العنف المقيت؟!
• هل تعتقد المعارضة أنّ ما قامت به خلال هذه المظاهرة يُعتبر عيدا وتخليدا لذكرى الشّهداء:مشاهد ثقافيّة تفعّلها مجموعات متعدّدة في شكل عروض احتفاليّة وعكاظيات ومنابر تروي سير ونضال الأبطال من الشهداء الذين ساهموا في تحرير تونس؟!.
4- الخلاصة:
اليومَ، تونس الأمّ في حاجة إلى جميع أبناءها باختلاف مشاربهم. لغة «الشّرنبيط» تطبيقا لم تعد واردة بعد الثّورة، كما كانت غير واردة تطبيقا عند والدتي المرحومة، وإنّما هي لغة «هشٍّ ونشٍّ» عن بُعد، حين يركب بعض النّاس منّا رؤوسهم. قد ينشأ في استعمالها أحيانا خدش أو جرح، ذلك داخل في قوانين اللعبة وقاعدة الجزاء من صنف العمل. إذا ما أردنا أن نُنشد بعض الشّعارات، فلا غضب ولا عتب حتّى يثيبَ الكلّ إلى رشده، ونُبطلَ ولو لحين لعبة المظاهرات والاحتجاجات والعويل، ونهتمّ بحالنا هذا الذي يدعو إلى الشّفقة والرّأفة في عيون زائرينا من الأشقّاء والأصدقاء دون جدوى...


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.