أطل علينا السيد الباجي قايد السبسي عشية السبت 16 جوان بقصر المؤتمرات بالعاصمة ليعلن رسميا عن ميلاد حزبه الجديد " حركة نداء تونس " وسط حضور جماهيري كثيف وتعبئة واضحة لرموز تجمعية ودستورية ويسارية في مشهد احتفائي استعراضي ذكرنا باجتماع المنستير الذي انعقد في شهر أفريل الماضي ليكون بالون اختبار لدرجة تسامح التونسيين ومدى تقبلهم لعودة أزلام النظام السابق ومن دار في فلكهم من مرتزقة السياسة . ويبدو أن قائد السبسي وفريقه قد انتظروا عمدا اللحظة المناسبة لتمرير هذه المبادرة والتسويق لها خاصة وأن الفكرة قديمة نسبيا وتعود إلى شهر جانفي الفارط . ولعل الهيئة التأسيسية للحزب لم تجد أفضل من هذه المرحلة التي اتسمت باحتقان في الشارع التونسي وبتوتر بين المعارضة والسلطة لتعلن عن ميلاد حركة هي أقرب للجبهة (front ) منها للحزب ( parti ) وتسعى للترويج لها عبر توصيفها بالحزب الوسطي الكبير القادر على جمع أكثر من تنظيم سياسي والمفتوح على مختلف الأطياف الفكرية والايديولوجية باستثناء أقصى اليسار و أقصى اليمين وربما التيار القومي . بهذه الدقة في تخير الزمن و بهذا الدهاء في انتقاء الاسم أراد الباجي و صحبه أن يسوقوا الحزب في شكل حركة وطنية " معاضدة " لا " معارضة " ، تتعالى عن الحسابات الحزبية الضيقة و تستبطن المصلحة العليا للبلاد وبذلك حرص الجَمْع‘ على إظهار " القايد " بمظهر البطل " المنقذ " (le sauveteur ) ، ابن بورقيبة البار والدستوري الأصيل في مشهد مسرحي (scène théâtrale ) امتزج فيه الحماس الدغمائي ( هتاف ، بكاء ، زغاريد .. ) بالحنين إلى الأب " الغائب " . الملفت للانتباه هو تزامن الإعلان عن الحزب الجديد مع الحملة التي تقودها وسائل الإعلام وبعض وجوه المعارضة في اتجاهين متوازيين ، الأول يدعو إلى تشكيل حكومة إنقاذ وطني والثاني يروج لرموز التجمع المنحل وينادي بعدم إقصائهم رغم كل ما ارتكبوه في حق هذا الشعب . وبقطع النظر عمن يقف وراء هذا الحزب ومن يحرك من ؟ هل الأطراف المحيطة بالسبسي هي من تدفعه إلى ليكون واجهتها الأمامية (vitrine ) أم أنه هو الذي دفع بها لتكون حديقته الخلفية ؟ ودون الخوض في الجدوى المرجوة من إضافة حزب جديد إلى قائمة الأحزاب التي غصت بها بلادنا بعد الثورة ، نعتقد أنه من المفيد إبداء ملاحظتين لا غير ، الأولى في علاقة بملامح الفريق المؤسس للنداء والداعم له والثانية تتعلق بمضامين النداء ورسائله السياسية . ( 1 )- ملامح الهيئة التأسيسية : إن قراءة أولية في تركيبة أعضاء الهيئة التأسيسية للنداء ومن يدعمها يمكن أن تكشف لنا عن بعض ملامح التكتل الجديد الذي يبدو وللوهلة الأولى ودون حط من التاريخ النضالي لبعض رموزه غير متجانس بالمرة ( incohérent ) فهو عبارة عن خليط من القوى الحداثية والتقدمية والديمقراطية والدستورية بل والتجمعية . وهذا الملاحظة المبدئية تحيلنا إلى استنتاجات ثلاث : * وجود وجوه سياسية وحقوقية مستهلكة وغير قادرة على تقديم الإضافة التي تفرضها المرحلة الراهنة قد يحد من إشعاع هذه الجبهة ويضعفها . * وجود أطراف محسوبة على العهد البائد ولو من الحضور والداعمين من شأنه أن يضع هذا التنظيم الحزبي الجديد موضع التساؤل خاصة وأن هذا الشعب الأبي لا يمكن له أن يغفر لها تواطؤها مع النظام السابق مهما تلونت لتجميل صورتها المشوهة أصلا . * وجود تناقضات كبيرة بين مختلف الشخصيات والأطياف المكونة للجبهة مما يطرح عدة تساؤلات حول قدرتها على تجاوز الصراعات حول الزعامة والمناصب القيادية والإشكالات التي لها علاقة بالبرامج وأولويات التنظيم والتسيير ، ولعل تعجيل عمر صحابو أكبر المتحمسين للمشروع الإتلافي بالانسحاب قبيل الإعلان عنه بقليل أكبر دليل على ذلك. هذه الملاحظات تحيلنا إلى مشكلين قد يعاني منهما هذا المولود وقد يعصفان بوجوده أصلا وهما : - مشكل شكلي ( formel ) يحوم حول هوية الحزب وهل هو مفتوح أصلا للأفراد أم للأحزاب أم للاثنين معا كما نفهم من خطاب السبسي وهو أمر شديد التعقيد لأن من يريد الانخراط في حزب لا بد له من البحث في ماهيته وفي خلفيته الإيديولوجية وفي مشروعه المستقبلي ومن ثم يبدو " النداء " هلاميا في شكله زئبقيا في خلفيته الفكرية مما يضفي عليه ضبابية تحول دون المغامرة بالانتساب إليه ولعل ذلك ما يفسر تردد عديد الوجوه التقدمية والدستورية في الانضمام إليه رغم قبولهم بالفكرة من حيث المبدا. - مشكل وظيفي (( fonctionnel يهم آليات التنسيق الممكنة بين مختلف الأطراف المساهمة وحصة كل طرف في ظل تعدد المسارات واختلاط الرؤى وضعف القواسم المشتركة . وإذا كانت بعض الشخصيات الفاعلة في المبادرة قد قللت من شأن هذه الانزلاقات بإغفال الشكل والقفز المتعمد على المحتوى فإنها تكون بذلك قد أكدت الشكوك التي تحوم حول " النداء " وتصنفه في خانة الانقلاب الناعم على " الشرعية الانتخابية " باسم " شرعية الأداء " وعندئذ يمكن أن تبرر الغاية ( إسقاط الترويكا وإضعافها ) الوسيلة ( المبادرة ) سواء كانت في شكل حزب ، إئتلاف أم جبهة . ( 2 )- مضامين " النداء " ورسائله : رغم التوصيات التي قدمت للسبسي - على ما يبدو - بضرورة الاختصار والاقتضاب قدر الإمكان إلا أن الرجل قد آثر التمديد في التوقيت المخصص للإعلان عن الحزب مدفوعا بمعطيين - الأول انتشاؤه بالمكان والحضور والشعارات الهاتفة باسمه . - الثاني حرصه الشديد على نقد الحكومة الحالية وتصفية حساب شخصي مع بعض أعضائها ممن اتهموه بالتقصير وبتفخيخ عشرات الملفات . من هذا المنطلق كان بديهيا أن يتضمن خطابه عشرات الرسائل الصريحة منها والمشفرة لهذا لا يمكن أن يصنف موضوعيا على الأقل كنداء متعال عن الحسابات الحزبية وخال من كل طموح سياسي بالرغم من تأكيد السبسي وطاقمه على بادرة حسن النية وحرصهم على تكريس التوافق لإنجاح مرحلة الانتقال الديمقراطي وإنقاذ الاقتصاد الوطني . فبعيدا عن هذه الشعارات الفضفاضة تضمن خطاب السبسي نقدا لاذعا للحكومة الحالية واتهمها في أكثر من مرة بالتقصير و قلة الخبرة والعجز عن إدارة شؤون البلاد ، كما اتهمها بسوء تقدير طبيعة المرحلة الانتقالية وحملها مسؤولية ما حدث مؤخرا من انفلات أمني حمله طرفا بعينه هو الطرف السلفي متجاهلا بقية الأطراف الأخرى التي تتربص بالبلاد وتتآمر عليها من أقصى اليمين التجمعي إلى أقصى اليسار الإستئصالي. هذا النقد اللاذع للحكومة عامة و لحركة النهضة خاصة كان مزيجا بين الإنذار ، التحذير ، التهديد والنصح . وهو في ظاهره تشخيص موضوعي للوضع الراهن وفي باطنه تسويق لمشروع حداثي وهمي و تقييم سابق لأوانه من أطراف سياسية غير محايدة ولها مصلحة في إرباك الحكومة الحالية والاصطفاف ضدها وهو ما لم يستطع إخفاءه " القائد السبسي " الذي تمخضت حساباته الدقيقة عن وجود أكثر من مليون ونيف من الأصوات لم تصوت للنهضة وبالتالي كان لا بد من تجميعها لصالح المشروع الذي يبشر به في إطار ما أسماه بضرورة إرساء" توازن بين القوى السياسية " يمنع تشتتها ويضمن وحدتها في مناكفة مشروع الإسلام السياسي الذي لم يرق - على ما يبدو - بعض الوجوه النقابية والأكاديمية والإعلامية والفنية الحاضرة في اجتماع العاصمة والمستبشرة بميلاد " النداء " . وحتى يكتمل المشهد كان لا بد من تعمد الخلط بين البعدين الوطني والحزبي فصورة العلم التي مثلت خلفية (arrière plan ) لمسرح الخطاب لم تكن عفوية مثلها مثل ترديد النشيد الوطني واستثمار الرأسمال الرمزي للحركة الوطنية وفي ذلك أكثر من إيحاء . إذا وفي انتظار مزيد المبادرات التي يبدو وأنها ستتتالى في الأيام القادمة نرجو أن نذكر بعض الأطراف التي لم تستوعب بعد منطق الثورة واستتباعاتها أن هذا البلد الذي لفظ رموز الأمس غير مستعد لإعادة هضمهم من جديد مهما اجتهدوا في تزيين بضاعتهم ، كما نود تذكيرهم بأن هذا الشعب قد تخطى مرحلة الطفولة ولم يعد يقبل منطق الوصاية ( l'esprit de tutelle ) الذي يسعى البعض إلى فرضه عليه باسم " الوطنية " وبدافع " حب الوطن " .