تونس بحري العرفاوي : يُطرح هذه الأيام في وسائل الإعلام وبين النخب السياسية والفكرية موضوع "الفصل بين الدعوي والسياسي" داخل حركة النهضة بل ثمة مطالبة من قِبل أطراف سياسية ومحللين بضرورة إحداث هذا الفصل وثمة أيضا وعود من قبل بعض قيادات حركة النهضة بتحقيقه. والسؤال هو: هل من الممكن فعلا تحقيق فصل بين الدعوي والسياسي إن أي حزب سياسي إنما يتأسس على مرجعية عقدية يستمد منها بدائله وحلوله ونظامه الاجتماعي والاقتصادي وقيمه ومبادئه الكبرى... تلك المرجعية هي التي يُفسر بها مواقفه وهي التي يُقيّم على أساسها لمعرفة مدى التزامه بها أو مدى انحرافه عنها وهذا شأن كل العقائد والفلسفات...ثم إن كل حزب إذ يحرص على توسيع قاعدته الشعبية واكتساب الأنصار إنما يعتمد ألدعوة لأفكاره وقيمه وبدائله ،و"الدعوة" هي عرض الأفكار والمشاريع على الناس ولا نجد حزبا إلا ويستعمل هذه المفردة في خطاباته فكلهم يقول "ندعو" الناس إلي أو نتوجه ب"دعوتنا" إلى الشعب و"ندعو" جماهير شعبنا إلى... إضافة إلى الممارسة الفعلية للعمل "الدعوي" سواء لدى الماركسيين حين يشرحون نظرياتهم للشباب والجماهير أو لدى القوميين حين يقدمون رؤاهم ومشاريعهم وكل هؤلاء يُرغبون الناس في الإنضمام إليهم لتوسيع دائرة انتشارهم...لماذا تطالب بعض الأطراف الإسلاميين وحدهم بالفصل بين الدعوي والسياسي؟ أليست هذه المطالبة ممارسة لنوع من "الدعوة" حين تعرض فكرة ومنهجا وحين تريد تعليم الآخرين ما لا "يعلمون" وحين تمارس عليهم دور "الداعية" الناصح /الموجه والمعلم؟... السطحيون وحدهم يرون إمكانية الفصل بين الذات السياسية والذات العقدية حين يقترحون على الإسلاميين تحديدا فصل آدائهم السياسي عن جوهرهم العقدي وكأنهم يريدونهم أن يتلبسوا سلوكا آخر حين يكونون في وظائفهم أو في مكاتبهم الحزبية فالدعوة لا تكون دائما بخطاب دعوي إنما في الغالب تكون باستقامة سلوكية فالسياسي الذي يصدر عن عقيدته الإسلامية ويلتزم بمنظومتها الأخلاقية عادة يكون مستقيما متواضعا بما يجعله محل ثقة الناس واطمئنانهم إليه ولعل هذا ما يفسر تصويت التونسيين بأغلبية لحركة النهضة في الإنتخابات الأخيرة .فالناس في الغالب لم يصوتوا لبرامج وأفكار إنما صوتوا لأوجاع هؤلاء ونضالاتهم وصدقيتهم وسيظلون يفعلون ذلك دائما ماداموا مستقيمين...إن المواطن الذي يقف أمام مسؤول فيجد لديه حسن القبول وحسن الإستماع وسرعة الخدمة ولطف المعاملة ووضوح القول لا أظنه محتاجا خطابا "دعويا" كي يتأثر بهذا الشخص...يمكن أن تستجيب حركة النهضة لهواجس السطحيين أولائك فتعدهم بالفصل بين الدعوي والسياسي وقد تتوزع بين "جهاز" سياسي تسميه "حزب" وبين حقل دعوي تسميه "حركة" وستكون الحركة هي المنبت الخصب لتكويين أجيال من السياسيين القادمين مجهزين برؤية عقدية عملية وبقراءات للواقع عميقة واستشراف للمستقبل متبصر متفائل وسيكون "الجهاز" هو المحرك الذي يستمد وقوده المسطصفى من "الحركة" بل سيكون هو خلاصة التكوين العقدي أي "الدعوي". دعاة ألفصل أولائك يتعللون بأن الإسلام قيم نقية وبأن السياسة لعبة قذرة ومن ثم لا يليق الجمع بين الديني والسياسي... مثل هذا التصور يجعلنا لا نثق بهؤلاء ولا نطمئن على مستقبل بناتنا وأبنائنا بين أيديهم حين يتصورون السياسة لعبة قذرة ولا يعتبرونها فنا من أرقى فنون الحياة لكونها متعلقة بتصريف الشأن العام وتنظيم العلاقات والمعاملات ومنع المظالم والمفاسد...ثم إن كلامهم عن نقاوة القيم الإسلامية إنما هو قول ماكر يريد أن يجعل من الإسلام شأنا خاصا لا علاقة له بالحياة ولا صلة له بالدنيا...هم يقصدون ذلك ولكنهم لا يمتلكون الشجاعة العقدية والسياسية لمواجهة الناس بحقيقة تصورهم ذاك ... على الإسلاميين ألا يقعوا في "انفصام" مضاعف فالإسلامي الساجد في المسجد هو نفسه الإسلامي الجالس على كرسي الإدارة ولا فصل بين العقل والشرع وفي قولة عميقة للفيلسوف أبو حامد الغزالي:" فالعقل كالأسّ والشرع كالبناء ولن يغني أسّ ما لم يكن بناءٌ ولن يثبت بناءٌ ما لم يكن أسّ فالعقل شرع من داخل والشرع عقل من خارج" وفي القرآن :"قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين"