أولا أستثني كلّ صحافي حر و شريف من هذا الكلام و أعبّر لهم عن فائق الاحترام و التقدير. و قبل الدخول في صلب الموضوع أفضّل أن أقصّ عليكم هاته القصة: عندما كنت طالبا سنة 1985 بالمدرسة الوطنية للمهندسين بتونس شاركت في احتجاجات و إضرابات من أجل مساندة طلبة المعهد الأعلى لعلوم الأخبار، حيث أنّ نظام بورقيبة آنذاك اشترط على طلبة المعهد ضرورة الانتماء للحزب الحاكم و ضرورة الاستظهار ببطاقة الانخراط في الحزب الاشتراكي الدستوري و إلاّ فلن يقبل و لن يمكّن الطّالب من استئناف دراسته بالمعهد، انظروا إلى أي حدّ كان يمعن نظام بورقيبة في الضّغط و التسلّط و استعباد الشّعب، و من هذه الحادثة تفهم الأسباب التي تجعل الّصحافيين اليوم يصطفّون وراء الجبهة المضادة للثورة و سبب تماديهم في العمل من أجل إنقاذ النّظام السّابق و أزلامه و بالطّبع إنقاذ أنفسهم بما أنّهم كانوا طرفا و عنصرا هامّا في المنظومة السّابقة منظومة السحق و المحق و منظومة الاستبداد و الاستعباد، فبورقيبة و خاصة بن علي لم يحكما بالحزب فقط بل بالدّاخلية و القضاء الفاسد و الإعلام المزيّف للحقائق و المطبّل للطّغاة و المحارب و المتهجّم على الشّرفاء من أبناء هذا الوطن الذين قالوا لا للطّغاة و شاركوا و إن بالقليل في أحزاب المعارضة المعترف و الغير معترف بها قبل 14 جانفي 2011. فكيف لصحفي "دمغج" في المعهد الأعلى لعلوم الأخبار و عمل لعقود كبوق للنّظام و "تمعّش" من هذا الدّور أن يتحرّر من هذا الرّصيد المخزي بين عشيّة و ضحاها، و العجب كلّ العجب من ثلّة هامة من الإعلاميين أهدى لهم الشّعب الحرّية و الإنعتاق على طبق من ذهب إلاّ أنّهم استمرؤوا الاستعباد و الذلّة و المسكنة و واصلوا بعد 14 جانفي في تضليل الشعب و الكذب عليه، و تمادوا في انخراطهم في لعبة التآمر للمنظومة السّابقة منظومة التدجيل و "التكوير" بالرأي العام و الشعب و التي يتواصل دورها و فعلها إلى يومنا هذا مقابل دريهمات ممزوجة بدماء و بعذابات الشّرفاء من هذا الشّعب، إنّها لمفارقة عجيبة و غريبة، ففي كلّ الثّورات و الانقلابات و التحوّلات السّياسية أوّل ما يتم السّيطرة عليه هي المؤسّسات الإعلامية إلاّ في تونسنا بلاد العجائب و الغرائب، منظومة الدّجل و الكذب و تلبيس الحقّ بالباطل مازالت قائمة إلى اليوم و العاملين فيها من المطبّلين و الأبواق و الببّغاوات مازالوا يجتهدون و يعملون بكلّ جرأة و وقاحة مع قوى الشدّ إلى الوراء و قوى الثّورة المضادّة و البرجوازية الفاسدة المرعوبة من التحوّلات. و بالطبع الكلّ يعرف و يشهد أنّه قبل 14 جانفي كان السّواد الأعظم ممّن يشتغلون بالإعلام و العمل الصحفي مصطفّون وراء الحزب الحاكم و يعملون كالعبيد عند النّظام السابق فقد كانوا يردّدون كالببّغاوات ما يملى عليهم و لا يجتهدون و لا يبحثون و لا يحقّقوا في المعلومة و مصادر الخبر فهذا أمر شاق و مضني يتطلّب جهدا و اجتهادا، أمّا هم فقد تعوّدوا على إلقاء و عرض الملفّات و الخطابات الجاهزة دون عناء أو بحث و تحقيق و استقصاء. و من بين مهازل الصّحافة التونسية تحت حكم بن علي، قصّة الملحق الذي خصّصته الشروق للانتخابات التشريعية لسنة 2009، فقد أعدّت جريدة الشروق ملحقا رائعا من حيث الإخراج و الإعداد و لكنّها ارتكبت جرما كبيرا في حقّ المواثيق و الأخلاقيات الصحفية و في حقّ أبناء الوطن من نواب المعارضة أنذاك، فقد كان ملحقا شافيا و ضافيا، فقد نشرت فيه كلّ المعلومات في إخراج رائع عن أعضاء مجلس النواب بالصّورة و الاسم و السن و المهنة و المستوى التعليمي، و لكن و من الممارسات المخزيات، و من ضرورات الجبن و التملّق و الرعب من السلطة المتغلغل في نفوس و عقول الإعلاميين تحت حكم بن علي و تجمّعه، نشروا صور نواب الحزب الحاكم بالألوان و صور نواب المعارضة بدون ألوان أي بالأبيض و الأسود و كأنّنا مواطنون من درجة ثانية أو من المنبوذين أو من جماعة "البيدون" الخليجيين و قد حزّ في نفسي هذا الفعل الأرعن و استفزّني و قد أعددت مداخلة في هذا و لكنّني لم أتمكّن من إلقائها تحت قبة البرلمان بقدوم الثّورة المعجزة و المخلّصة، و ها أنا أذكرها للشّعب و التّاريخ في هذا المقال عن الصحافة و الصحفيين. أمّا عن ترتيبهم للقاءات و حوارات مع نواب المعارضة قبل الثورة، فقد كان أمرا مستحيلا و لا يجرؤون على فعله تحت حكم بن علي عكس ما نشاهده اليوم بعد إزاحة الغول الذي كان يرعبهم و يفرض عليهم رقابة ذاتيّة كانوا يبالغون في تطبقها على أنفسهم بتلقائيّة دون تلقّي الأوامر و التّعليمات خوفا من العقاب و بطش النّظام، فهم اليوم يصدّعوا رؤوسنا بحوارات مع نفس الوجوه من الحابل و النّابل من رجال سياسة و نواب تحوّلوا بقدرة قادر إلى أبطال و عناتر بعدما أصبحت البطولة بلا ثمن. و اليوم يا سادتي الصحفيّون و بعد ما أهداكم الشباب الحرّية و بذل فيها من دمه و صحّته، نجد العديد منكم يواصل العمل بنفس الأسلوب و الطريقة حيث أنّ شقّ منكم مصطفّ وراء أزلام النّظام السابق و شقّ آخر يخدم أجندات حزبية أو أجندات بارونات المال و الأعمال أمّا البعض الآخر فهو أسير ميوله الإيديولوجي و ولائه الحزبي، و بعد الثّورة من المفروض بل من الضّروري أن يصبح الإعلام و الصحافيون مستقلّون و محايدون، و الخطر كلّ الخطر أن يمتهن رجال الصّحافة و الإعلام بالسّياسة، فعندما يشتغل رجال الإعلام بالسّياسة و يتحوّلون إلى سياسيين تكون الكارثة و "تتلخبط" الأمور على الشّعب و رجال السياسة، فعليكم أن تختاروا بين الاشتغال بالسّياسة أو الإعلام، و المطلوب من رجال الإعلام بعد التخلّص من نظام الاستبداد و الاستعباد أن يتّخذوا موقع المحايد و الموضوعي و أن يحرصوا على النّزاهة و المصداقية في طرح المواضيع و المشاكل و عليهم أن يجتهدوا في مجال صحافة الاستقصاء من أجل التحليل و التعمّق في طرح العديد من الملفّات و منها خاصة ملفّات الفساد و التعذيب تحت نظام بن علي و التي لم تأخذ حضّها إلى اليوم. توفيق بن رمضان (ناشط سياسي و نائب سابق عن المعارضة)