إتحاد الفلاحة : كتلة أجور موظفي إتحاد الفلاحة 6 مليارات و700 ألف دينار    مراسل قنوات بي إن سبورت "أحمد نوير" في ذمة الله    أبرز اهتمامات الصحف التونسية ليوم الجمعة 17 ماي    اغتيال قائد في سلاح جو حزب الله بضربة للكيان الصهيوني    البرازيل تستضيف نهائيات كأس العالم لكرة القدم    سيدي بوزيد: وفاة كهل وزوجته في حادث مرور    قابس: تراجع عدد الأضاحي خلال هذه السنة    إسبانيا تمنع السفن المحملة بأسلحة للكيان الصهيوني من الرسو في موانئها    الخارجية : نحو إبقرام إتفاقية مع الدول الإفريقية بخصوص المهاجرين .. التفاصيل    حريق بمستودع بين المروج 6 ونعسان    عاجل : الكشف عن مصنع عشوائي لتعليب المنتوجات الغذائية و الأمن يتدخل    مباراة الكرة الطائرة بين الترجي و الافريقي : متى و أين و بكم أسعار التذاكر؟    اتحاد الفلاحة: أسعار أضاحي العيد ستكون باهضة .. التفاصيل    الحماية المدنية: تسجيل 16 حالة وفاة و 503 إصابات في حوادث مختلفة    هام/ مناظرة لانتداب 34 متصرفا بالبريد التونسي..    يصنعون ''مواد المسكرة محلية الصنع القرابا'' و يقومون ببيعها بمدينة أم العرائس    كأس أوروبا 2024: كانتي يعود لتشكيلة المنتخب الفرنسي    تونس : 80 % من الشباب ليس له مدخول    انتخاب تونس عضوا بالمجلس الوزاري الإفريقي المعني بالأرصاد الجوية    كاتب دولة سابق : تعلية السدود لرفع طاقة إستيعابها جزء من الحل    ذهاب نهائي رابطة ابطال افريقيا : الترجي يستضيف الاهلي برغبة تعبيد الطريق نحو الظفر باللقب    روعة التليلي تحصد الذهبية في بطولة العالم لألعاب القوى لذوي الاحتياجات الخاصة    محيط قرقنة اللجنة المالية تنشد الدعم ومنحة مُضاعفة لهزم «القناوية»    بطولة اسبانيا : برشلونة يتخطى ألميريا بثنائية وريال بيتيس يسقط في فخ التعادل أمام لاس بالماس    اعزل الأذى عن طريق المسلمين    البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية يدعم انتاج الطاقة الشمسية في تونس    النائب طارق مهدي يكشف: الأفارقة جنوب الصحراء احتلوا الشريط الساحلي بين العامرة وجبنيانة    الجزائر تواجه الحرائق مجدّدا.. والسلطات تكافح لاحتوائها    نجاح الأسرة في الإسلام ..حب الأم عبادة... وحب الزوجة سعادة !    منبر الجمعة .. المفسدون في الانترنات؟    ملف الأسبوع...المثقفون في الإسلام.. عفوا يا حضرة المثقف... !    خطبة الجمعة...الميراث في الإسلام    التحدي القاتل.. رقاقة بطاطا حارة تقتل مراهقاً أميركياً    الشرطة الفرنسية تقتل مسلحا حاول إضرام النار في كنيس بشمال غرب البلاد    منها الشيا والبطيخ.. 5 بذور للتغلب على حرارة الطقس والوزن الزائد    التوقعات الجوية لهذا اليوم…    الاطاحة بمنحرف خطير بجهة المرسى..وهذه التفاصيل..    الصحة العالمية.. استهلاك الملح بكثرة يقتل 10 آلاف شخص يوميا في أوروبا    عاجل: لأول مرة: تونس تصل المرتبة الثانية ضمن التصنيف الدولي للبيزبول    المنستير .. المؤبّد لقاتلة صديقها السابق خنقا    ارتفاع عجز الميزان الطاقي    دخول مجاني للمتاحف والمواقع الأثرية    صفاقس تستعدّ للدورة 44 لمهرجانها الصيفي    القيروان: إنقاذ طفل إثر سقوطه في بئر عمقها حوالي 18 مترا    توقيع إتفاقية قرض مجمع بالعملة لدى 16 مؤسّسة بنكية محلية لفائدة تمويل ميزانية الدولة لسنة 2024    الناطق باسم وزارة الداخلية: "سيتم تتبع كل من يقدم مغالطات حول عمل الوحدات الأمنية في ملف المحامي مهدي زقروبة"    باجة: باحثون في التراث يؤكدون ان التشريعات وحدها لا تكفي للمحافظة علي الموروث الاثري للجهة    توزر: تظاهرة احتفالية تستعرض إبداعات أطفال الكتاتيب في مختتم السنة التربوية للكتاتيب بالجهة    وزارة الثقافة تنعى المطربة سلمى سعادة    جندوبة: وزير الفلاحة يُدشن مشروع تعلية سد بوهرتمة    عاجل: "قمة البحرين" تُطالب بنشر قوات حفظ السلام في فلسطين..    استشهد 3 فلسطينيين برصاص الجيش الصهيوني في الضفة الغربية..#خبر_عاجل    سيدي بوزيد: انطلاق الدورة 19 من مهرجان السياحة الثقافية والفنون التراثية ببئر الحفي    عاجل: متحوّر كورونا جديد يهدّد العالم وهؤلاء المستهدفون    ظهورالمتحور الجديد لكورونا ''فيلرت '' ما القصة ؟    الأيام الرومانية بالجم . .ورشات وفنون تشكيلة وندوات فكرية    مفتي الجمهورية : "أضحية العيد سنة مؤكدة لكنها مرتبطة بشرط الاستطاعة"    عاجل: سليم الرياحي على موعد مع التونسيين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في أمة النّعال:ألم يئن زمن الطير الأبابيل لإنقاذ المهزومين...:أنور مالك
نشر في الفجر نيوز يوم 19 - 12 - 2008

إضافة إلى ما قلته من قبل حول الحادثة التاريخية التي قام بها الصحف العراقي منتظر الزيدي، والتي بلا شك هي إهانة قوية – في العرف العربي طبعا- ستبقى ترويها الأجيال، لا لشيء إلا لأنها إرتبطت برئيس أرعن إسمه جورج دبليو بوش، لو حدثت مع غيره لكان لنا معها شأن آخر... لكن نرى من الضروري أن نتحدث عن أمور أخرى جوانبها مهمة في حمى "زمن النعال والأحذية"، فلو كانت أمتنا المغبونة ذات سيادة ومنتصرة ما صار حذاء الزيدي إلى مثل هذا الشأن، ولكن مادامت أمة مهزومة داخليا وخارجيا، فكريا وسياسيا، ماديا وروحيا، عسكريا ومدنيا، إقتصاديا وإجتماعيا... فإنه لو صاح ديك في وجه بوش لأصبح ذلك الديك قائدا لهذه الأمة التي لا تزال تائهة تبحث عمن يرشدها ويرفع من شأنها، وستظل ضائعة من على أرصفة هذا العصر الأمريكي الأغبر تتسول القائد المنقذ، فمنذ الناصر صلاح الدين الأيوبي وهذه الأمة لم تعرف قائدا يرفع رأسها، وحتى التجارب التي حدثت كانت كلها بطولات كرتونية وهمية مخدوعة لم تتعد تلك اللحظات الهستيرية الغرائزية، بدليل توالي بعدها الهزائم تلوي أختها، لسبب واحد أنها تجارب لا منطلقات لها وتهدف أساسا لتبرير وتمجيد والتهليل لحكم الزعيم "المفدى" وليس من أجل الأمة المستباحة في أرضها وعرضها...
نطحة زيزو في أفق مفقود
قام اللاعب الفرنسي زين الدين زيدان بنطح اللاعب الإيطالي ماركو ماتيرازي فأحدث ضجة عالمية، وصارت ألعاب فيديو تدرّ الملايير على الشركات المنتجة، وتناقلتها الشبكات الإعلامية والفضائيات حتى عدّت أشهر نطحة في العصر الحديث، لأنها كانت على المباشر وفي أشهر وأضخم دورة كروية عالمية، يتابعها الملايين من المغمورين بالنجوم وشطحاتهم وفنياتهم إلى حد الذوبان، وخاصة أنها في النهائي من عمر سحر الكرة المستديرة، ومادامت هذه الأمة مهزومة فقد راحوا يبحثون عن المبررات والمسوغات السياسية والعقدية والدينية التي يراد منها تحويل تلك النطحة الزيدانية الفرنسية، إلى حدث سياسي عربي وربما إسلامي يختزل بين ثناياه حقيقة الصراع القائم بين الحضارات، فيوجد من زعم أن اللاعب الإيطالي ماتيرازي قد وصف زيدان بالإرهابي، وهو الذي دفع هذا "المسلم الغيور على دينه وأمته" إلى نطحه وإعادة كرامة هذه الأمة التي توصف بالإرهاب، ليس من الغزاة فقط بل حتى من حكامها !!
آخرون ذهبوا إلى أن الإيطالي تلفظ بكلام عنصري ضد اللاعب الفرنسي الذي تتحدّر عائلته من أصول جزائرية، وبموقف زيدان هذا على المباشر وفي لحظات حاسمة من عمر نهائي كأس العالم، أشفى غليل المهاجرين العرب في الغرب الذين يوصفون دوما بأبخس النعوت ويعانون من التمييز العنصري المشين وخاصة منذ 11 من سبتمبر/أيلول 2001، ولهذا صارت نطحة زيدان هي ثورة مهاجر ضد عنصرية الإنسان الأوروبي في ديار الغرب !!.
أيضا نجد من زعم أن ماتيرازي شتم العرب من خلال زيدان، ولهذا نطحه ثأرا لهذه الأمة التي تشتم صباح ومساء من الجميع وحكامها يطبلون، وآخرون ذهبوا إلى حد التأكيد على أن الإيطالي أهان الدين الحنيف وربما الرسول الأكرم (ص)، فغيرة الفرنسي زيدان الذي لم يركع لربه يوما دفعته إلى ما قام به... وبينهم من أكّد على أن شقيقة زيدان شتمت بألفاظ قبيحة، وبغيرة عربية على الشرف جاءت نطحة زيزو الشهيرة.
ليس المجال للتحدث عن هذه النطحة ولكن أردت فقط الإشارة إلى ظاهرة الإستثمار في الحدث لإشفاء غليل منهزم من محتل منتصر، حيث قامت جهات مختلفة في الداخل العربي بمحاولات لجعلها موقفا بطوليا يتعلق بالقيم والمعتقدات والغيرة والشهامة، بالرغم من أنها لم تتعدّ كلام شوارع بين لاعبين دأبت أفواههم بمثل هذا الكلام الفاحش البذيء، ولكن لما صرنا نغرق في الهزيمة حد النخاع، وما عدنا نرى أي بصيص أمل لرفع الرأس وربما لإعادة الكبرياء المفقود، ما عاد همنا سوى البحث عما يشفي الغليل في رحلة الضياع هذه، ولو كانت نطحة من لاعب فرنسي، للأسف لو أشار زيزو إلى ما يدغدغ مشاعرنا الدينية بمجرد التلميح لقلدناه الزعامة المطلقة، وهكذا هي الأمم المهزومة يسهل التسلل لقيادتها لأنها تحولت إلى قطيع من الماشية كل من صفّر عليها يقودها حيث يريد، وإن المغلوب مولوع بتقليد الغالب فقد صار اليوم موهوم بالإنتصار وهو يركع تحت الأقدام من حيث لا يدري.
مفارقات الوقت الضائع
أذكر أنه لما دكّ الرئيس العراقي صدام حسين تل أبيب بصواريخ العباس والحسين في عام 1990 اهتزّت الأمة اليائسة البائسة من شرقها لغربها بعد الأنين تحت حوافر المحتلين، وإرتفع اليقين بأن زمن الفتوحات قد حضر بلا جدل ولا تردد، بل يوجد من ذهب حينها أن الناصر صلاح الدين الأيوبي بعث من مرقده لإنقاذنا في الوقت الضائع، وجابت المسيرات كل أرجاء المعمورة، تمجّد هذا الزعيم العربي الفحل الذي إستطاعت صواريخه أن تضرب الكيان الصهيوني في عقر داره، ولكن ماذا حدث في ما بعد؟ !! والعبرة طبعا بالنتائج وليست بالشعارات، فقد خطط للعراق بإحكام وهاهو اليوم يعبث فيه عملاء وجنود الموساد وينهبون ثرواته وخيراته وعلى مرأى الجميع.
لا أقول هذا من باب أنني أشتم الرئيس الراحل صدام حسين كما يخيّل للبعض، وأناقض نفسي لما إمتدحت نهايته، وهو يأتي غالبا من محدودي الأفق والفهم والرؤية، لأنه فرق شاسع بين محطة وأخرى في التحدث عن تاريخ هذا الرجل، فمنها التي كان فيها ديكتاتورا إلى حد لا يمكن وصفه، وقاتلا وبطرق بشعة لا يمكن تخيلها ككل الحكام العرب، وحتى سياسته أوصلت بلاده إلى ما هو عليه اليوم، وهذا طبعا لا يعني تبريري للعمالة وموافقتي على أفعال عصابة المالكي والسيستاني العميلة والخائنة، ولست ممن يتشفّون بمثل هذه الطرق المحرمة... ومنها أيضا تلك التي صار كالجبل الشامخ في وجه هؤلاء المرتزقة.
إن الموقف من صدام حسين يتغيّر بلا شك عندما نصل إلى مرحلة القبض عليه وتلك المحاكمات الصورية من طرف المحتل الأمريكي والتي نرفضها وندينها ونكفر بها، لأسباب عديدة سواء كانت قانونية أو أخلاقية، فالرجل أسير حرب والمحكمة من صناعة المحتل الأمريكي، والقضاة والمشرفون عليها من العملاء الذين ينفذون الأوامر العليا القادمة من البيت الأبيض فقط... أما إن وصلت إلى إعدامه الذي وقف فيها كأسير حرب بشجاعة يقلّ نظيرها وهو يتلوا الشهادتين بصوت جهور وبكبرياء، فهنا الواجب الأخلاقي والعقدي يوجب علينا أن نشهد له بالإيمان والبطولة والتحدي، فعندما نتحدث عن صدام الرئيس فبلا شك لنا مؤاخذات كبيرة على حكمه، أما صدام الأسير فلا نجد إلى أن نجلّ شجاعته ووقفته وخاصة أنه كان بين يدي عملاء من طائفة يردد التاريخ سوادهم ومواقفهم المشينة وخياناتهم للأمة التي لا تنتهي وستظل مستمرة، فالقضية تتعلق بالأفعال والأعمال وليست بالأشخاص...
نعم... في زمن الهزائم والإنكسارات يتجلّى الإيمان بالمعجزات والكرامات إلى درجة الهوس، ولهذا ما يجري اليوم واضح لا محالة، فالكل يعرف أن الرئيس الأمريكي المعتوه مجرم عالمي ومن طراز خطير، حيث إحتقر الأمة ودكّ حصونها وإنتهك أعراضها وسفك دماءها وبمباركة حكام خونة ولا استثني أحدا، سواء لما إحتلّ العراق الذي حوله إلى مستنقع للدم والجثث المتعفنة لأطفال أبرياء، أو في فلسطين التي حوّلها إلى سجن يموت فيها أشبال غزة جوعا ومرضا وبتوقيع مصري وعربي، فالرجل - إن كان كذلك - حول العالم إلى ساحة حرب لا يمكن أن تنتهي أبدا، بل ستكبر وتتجلى في صور مختلفة، حتى لو جرى الإنسحاب من العراق وهو الذي لن يحدث كما يردد ويخيل للبعض، فالمحتل لا ينسحب إرضاء لمن إحتلهم أو لمن يناصرونهم، ولا يمكن أن يتنازل عن أطماعه لأجل سواد عيوننا... وأكثر من ذلك أن صدام الحضارات ستتوسع دائرته أشمل من تلك التي نظرّ لها من طرف غربان المحافظين الجدد، لأن المظلوم سيعلو شأنه لا محالة، وسيقتص من أولئك القتلة الذين سفكوا دمه بهتانا وعدوانا مهما طال الزمن.
حذاء في مزادات الوهم العربي
لقد أشدت بحادثة الحذاء كثيرا وبمنتظر الزيدي الذي قام بها، وهو الذي لن أتراجع عنه أبدا، وقد تحوّل الرجل في لحظة شاردة من شاب يبحث عن فضاء له في زمن الفضائيات المتناحرة، إلى أشهر صحفي ستتسابق عليه القنوات يوما لما يعود سالما إلى أهله، وهذا الذي سيحدث بلا شك مادام ينتمي لطائفة الشيعة الذين خانوا العراق وباعوه في أسواق النخاسة، ولن يتأخروا لحظة في إستثمار الحدث بعد رحيل بوش الرسمي، لترقيع بكارتهم التي فضّت في حوزات العهر السيستاني... وستبقى ضربة الحذاء تلاحق اشهر الرؤساء الأمريكيين دموية، والوحيد الذي إنتهى حكمه بهذه الصورة المخزية والمذلّة، ومن المستحيل على عائلة بوش أن تعيد الإعتبار لإبنها حتى وإن تسلل الشقيق الآخر يوما إلى البيت الأبيض، ولا أعتقد أن شعور العرب يهمهم بقدر ما يسعدهم النفط المتدفق على شركاتهم الضخمة.
حتى لا أعيد ما قلته من قبل في لحظة عاطفية هوجاء حول رشقة الحذاء الشهيرة، والذي ساعدت عوامل مهمة في جعلها تصل إلى هذه العالمية، وأهمها أنها جاءت في زمن الهزائم والإنكسارات المتوالية، والذل الذي لا يمكن وصفه حلّ على أمتنا العربية والإسلامية، فلو تتبعنا التاريخ لوجدنا الحال أيام التتار أفضل بكثير مما هو عليه أمرنا، لأنه على الأقل جاء التحرير واليوم لا شيء يمكن أن نتفاءل به، بل أن رشقة الحذاء بقدر ماهي إهانة للأرعن بوش نمجدها ونسوق لها ونشكر فاعلها كثيرا ونشيد به في هذا الفعل طبعا، وليس في أمور أخرى قادمة تخيطها في الظل شبكات المنتفعين من الريع والهوان، بقدر ما نبكي حسرة على هذه الأمة التي صار فيها الحذاء يرفع فوق الرؤوس، وتحول النعل بقدرة قادر إلى مرجع ومكسب وفخر للأمة، التي كانت من قبل ترفع كتاب الله والذي يحفزها على المضي قدما نحو المجد والخلود والكبرياء، ولكن لما تحولت هذه الأمة إلى غثاء لو فعلها شخص آخر ورمى بوش بالبراز –أكرمكم الله- لحملوه فوق رؤوسهم ولصاروا يتغوّطون في الصحون بدل المراحيض، ولولا إحترامي لكم لقلت أنه سيغدو طبقا مشهورا يتلذذ به أشباه الرجال... بعد هذا هل من الممكن أن نتفاءل بالمستقبل وندّعي أننا على أبواب المجد؟ !!.
لما أشاهد المفكرين والكتاب والصحفيين والمثقفين أو ما يحبذون مصطلح النخبة، يحملون الحذاء فوق رؤوسهم ويهددون أمريكا وإسرائيل بالزوال، وإن كان حذاء الزيدي يستحق أن يكرم بلا منازع وليست أحذية لبسها ممن لا يعرفون إلا التردد على سرايا الحكم تتسول الرضا، أدرك أن حال الأمة وصل للحضيض، ولا يختلف علينا أولئك الأطفال الذي حولوا من هذه الحادثة إلى لعبة يتبارون بها في شوارع واشنطن وقبالة البيت الأبيض، إنه فرق شاسع أن تكره شخصا وتفعل ضده كل ذلك، وبين أن تحمل مشروع أمة يهدد الأمم الأخرى بالفتح المبين، فرق شاسع أن نكنّ لجورج بوش كل ذلك الحقد، وفي الوقت نفسه لا نجرؤ على حكامنا الذين يقلدونه بالأوسمة سواء في أرض الحرمين أو غيرها، فهل يوجد صحفي يتجرأ أن يقذف أي حاكم عربي بالحذاء أو حتى يكشف فساده من على صدر صحيفته؟ !!
يحق للشرفاء أن يشيدوا بحذاء الزيدي ولكن لا يحق لأولئك الصحفيين الذين هم من يصنعون مجد الحكام ويبيضون تاريخهم، أن يهبّوا اليوم للتمجيد والبحث عن البطولات البراقة في زمن الذل والخنوع، فتوجد أخطار كثيرة تهدد رشقة الحذاء، من بينها أن يتحوّل الزيدي إلى مهدي منتظر على الطريقة الشيعية، ويستغل من طرف المبشرين وأصحاب العمائم السوداء لمدهم الفارسي في بلاد العرب، كما يجري مع المقاومة اللبنانية التي هي عربية ولكن بتلك العقائد تحولت إلى ذراع فارسي في المنطقة، وأيضا أن يتحول تمجيد رشقة الحذاء إلى تقديس لمنتظر الزيدي، ومنه يتمّ إستغلالها ايما إستغلال من طرف عصابة السيستاني من أجل تمرير مشاريع مشبوهة للغاية على غرار ما حدث مسبقا،هي بلا شك محل مفاوضات مع الزيدي في دهاليز المنطقة الخضراء.
فأؤكد هنا حتى لا أفهم خطأ كما يجري دائما، أنه يوجد فرق شاسع بين أن تشيد بفعل بعينه وبين أن يستغل ذلك الفعل لتمرير أشياء أخرى على حسابه، وأقولها هنا وهو ما يتعلق بي شخصيا، أنني أشدت برشقة الحذاء وفقط وتمنيتها لكل الحكام العرب بلا إستثناء، كما بشرت الشعوب البائسة بالحفاء بعد الخراب، ولكن لا يعني أبدا أنني سأنخدع إلى ذلك الحد، الذي ظهر عليه الكثيرون جاعلين من ضربة الحذاء هي بداية إنتفاضة الأمة للتحرر من الإستدمار والإستحمار الأمريكي، لأنه يوجد أمر واحد أن أمتنا عزّتها في دينها وقيمها وحضارتها ولا يمكن أبدا أن تتحرر إلا بذلك، وإن لم تتحرك إنطلاقا من هذا الأصل فهو غثاء آخر سيركن للماضي ويبقى مجرد نكت وحكايات ترويها الأجيال، فكلما يذكر إسم بوش يرافقه الحذاء، ولكن تبقى أمريكا هي أمريكا، لأن الحذاء ليس سلاحا نوويا أسقطها من عرشها، وقد يصل الحال إلى نسيان حتى إسم الزيدي كما نسي الناس خروشوف وإن بقيت عالقة حادثة حذاءه.
الكل صار يريد أن يرى الزيدي ينتمي لتياره، فهذا يقول هبّوا لنصرة الصحفي اليساري، والآخر يؤكد أنه شيعي من "آل البيت"، وآخر يريده بعثيا ممن يحفظون الجميل للراحل صدام حسين... الخ، وهكذا ستضيع حادثة الحذاء بلا شكّ في هذه المزادات والمتاهات التي يصنعها الوهن العربي، لأن أخطر ما يقتل الأشياء التي تحدث هي طرق إستغلالها فيما بعد، ولا اعتقد أن العرب يتقنون إستغلال الأحداث في صالحهم، ولو كانت رشقة حذاء في وجه شياطين من طينة المالكي وسيده، لأن التاريخ علمنا أن المفاجآت لا تصنع الأمم وترفع مجدها، وأعتقد أن الصحفي العراقي فاجأ العالم بعمله هذا.
زمن التسلية والخيبات
لا خير في أمة لم تخرجها صرخات أطفال غزّة وهم يموتون جوعا، وأخرجهم حذاء للشوارع يهتفون بموت أمريكا وإسرائيل، ويستبشرون خيرا بالفتح المبين في حادث له دلالاته الرمزية فقط، وإن فكّت الرموز الشفرات ولكنها لا ترد الإحتلال أبدا، والأمر نفسه حدث –مثلا- مع الرسوم الدنماركية لما هبت المسيرات تجوب العالم العربي، حتى ظن الناس أن القيامة ستقوم، وزغردوا لإقتراب نهاية الدنمارك على الأقل إن لم نقل الغرب المسيحي والصهيوني كله، ولكن لم يحدث أي شيء إطلاقا فقد جابت المسيرات الشوارع ورفعت الشعارات وركن الناس إلى بيوتهم وأعمالهم ورحلاتهم الشاقة في البحث عن خبزهم وحليب صبيانهم، وتواصل مسلسل الإساءة للرسول الكريم (ص) وكأنك كنت في حلم ولم تشاهد يوما تلك الشعارات ولا ذلك الغضب المزعوم والثورات الشعبية...
ولهذا أؤكد أننا صرنا أمة عواطف ليس إلا، لو قذف غراب بوش بالحصى ولو صدفة، لحولناه إلى أشهر من هدهد سليمان، ولجاء من حول سواده ذلك إلى علامة من علامات الغضب التاريخي على الغرب الصليبي، بل يأتي آخرون ويفسرون تردده على الجثث النتنة دليل بيّن على أنها كرامة ربانية، تحث على الرباط والإستبسال وذبح الغزاة وتحويلهم لجثث تترامى في الشوارع والمزابل والطرقات.
إن الأمة التي تغفر للمحتلين بعد جلدها لا تستحق الحياة، وأخشى ما أخشاه أن تتحول حادثة الحذاء إلى علامة مميزة في سوق النخاسة والبزنسة العربية، فقد جاء هذا يريد شراء الحذاء بعشرة ملايين دولار، ولم يجرؤ يوما أن يرسل ولو مليونا واحدا لغزة المحاصرة، وجاء ذاك يريد أن يزف إبنته للزيدي وعلى حسابه الخاص، وكأن تحرير الأمة تحقق عند لحظة رشق بوش بالحذاء... ربما ما قام به الزيدي كان ثورة منه على الوضع القائم ولا علاقة له بالبحث عن الأضواء، ولا هو سيناريو قدمه المالكي لحليف الأمس بعدما صار يلفظ أنفاسه الأخيرة في البيت الأبيض، الله اعلم بمكنونات الرجل ونواياه وبما جرى في الكواليس، وبحسن الظن في الفعل نؤكد على أنه لو ترك الأمر على ماهو عليه سيظل خالدا، ولكن أخطر ما حدث هو ذلك الإستغلال الفظيع لموقف الزيدي الذي تحول إلى لعبات إلكترونية تدرّ الكثير على مجانين الربح السريع من المضاربين وأرباب الجشع، وخاصة في ظل أزمة مالية تعصف بالعالم، ولقد أنست هذه الحادثة الأطفال في لعبة أخرى إسمها نطحة زيزو الإلكترونية، وإن تمّ تخليد العمل بلا شك في دفتر التاريخ ولكن هل تخليد الشيء يحرر الأمة؟ وهل يوجد أخلد من فتح بيت المقدس على يد عمر بن الخطاب (ر) أو الناصر صلاح الدين الأيوبي؟ وهل يوجد أخلد من تلك الفتوحات التي بلغت الصين؟...
أعتقد أن ترديد الشيء للتسلّي كما يجري مع رشقة الحذاء ما يزيد الأمة إلا هزائما وتخلفا، ومن زعم أن العراق تحرر على يدي الزيدي فهو واهم، لأن من دخل على متن دبابات وفوقه أسراب الطائرات النفاثة لن يخرج برشقات أحذية العالم كله ولو كانت ملغومة، ولا يعني مطلقا أننا نستخف بما حدث لأن بوش يستحق الموت وبعقال البغال وليس بحبل لف على عنق صدام كما يريد البعض، لأنه تكريم له أن فعل به ذلك... أخيرا لقد إكتشف العرب أنهم كانوا ينتعلون الأحذية فيالها من مفارقة في زمن الهزائم، ويبقى السؤال معلقا حول زمن طير الأبابيل نكمل فيه الحديث إن شاء الله.
انور مالك - فرنسا


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.