صفاقس انقاذ 52 مجتازا وانتشال 5 جثث    منال عمارة: أمارس الفنّ من أجل المال    عاجل/ ضبط 6 عناصر تكفيرية مفتّش عنهم في 4 ولايات    منوبة: الاحتفاظ بصاحب كشك ومزوّده من أجل بيع حلوى تسبّبت في تسمم 11 تلميذا    قريبا: اقتناء 18 عربة قطار جديدة لشبكة تونس البحرية    مديرو بنوك تونسية يعربون عن استعدادهم للمساهمة في تمويل المبادرات التعليمية في تونس    النجم الساحلي يمرّ بصعوبة الى الدور ربع النهائي    الهيئة الإدارية للاتحاد الجهوي للشغل بصفاقس تدعو إلى عقد مجلس وطني للمنظمة خلال سبتمبر القادم    اتحاد الفلاحين: ''أسعار أضاحي العيد تُعتبر معقولة''    عاجل/ مصر: رفع أبو تريكة من قوائم الإرهاب    الوطن القبلي.. صابة الحبوب تقدر ب 685 ألف قنطار    تسمّم تلاميذ بالحلوى: الإحتفاظ ببائع فواكه جافّة    قريبا.. الحلويات الشعبية بأسعار اقل    افتتاح معرض «تونس الأعماق» للفنان عزالدين البراري...لوحات عن المشاهد والأحياء التونسية والعادات والمناسبات    لتعديل الأخطاء الشائعة في اللغة العربية على لسان العامة    سبيطلة : القبض على مجرمين خطيرين    عاجل : مسيرة للمطالبة بإيجاد حلول نهائية للمهاجرين الأفارقة من جنوب الصحراء    قابس: نقل 15 من تلاميذ المدرسة الاعدادية ابن رشد بغنوش بعد شعورهم بالاختناق والإغماء    المهرجان الدولي للمشمش بحاجب العيون في دورته الثانية ...مسابقات وندوات وعروض فروسية وفنون شعبية    قراءة في أعمال ومحامل تشكيلية على هامش معرض «عوالم فنون» بصالون الرواق .. لوحات من ارهاصات الروح وفنطازيا الأنامل الساخنة    شبهات فساد: الاحتفاظ بمعتمد وموظف سابق بالستاغ وإطار بنكي في الكاف    فقدان 23 تونسيا شاركو في عملية ''حرقة ''    صفاقس اليوم بيع تذاكر لقاء كأس تونس بين ساقية الداير والبنزرتي    ليبيا: اشتباكات مسلّحة في الزاوية ونداءات لإخلاء السكان    عاجل/ القصرين: توقف الدروس بهذا المعهد بعد طعن موظّف بسكّين امام المؤسسة    محيط قرقنة مستقبل المرسى (0 2) قرقنة تغادر و«القناوية» باقتدار    كرة اليد: الاصابة تحرم النادي الإفريقي من خدمات ركائز الفريق في مواجهة مكارم المهدية    مدير عام الغابات: إستراتيجيتنا متكاملة للتّوقي من الحرائق    المنستير: إحداث أوّل شركة أهليّة محليّة لتنمية الصناعات التقليدية بالجهة في الساحلين    بلاغ مروري بمناسبة مقابلة الترجي والأهلي    وزارة الصناعة : ضرورة النهوض بالتكنولوجيات المبتكرة لتنويع المزيج الطاقي    بنزرت: جلسة عمل حول الاستعدادات للامتحانات الوطنية بأوتيك    تضم منظمات وجمعيات: نحو تأسيس 'جبهة للدفاع عن الديمقراطية' في تونس    هذه القنوات التي ستبث مباراة الترجي الرياضي التونسي و الأهلي المصري    ليبيا: إختفاء نائب بالبرلمان.. والسلطات تحقّق    نهائي دوري ابطال إفريقيا: التشكيلة المتوقعة للترجي والنادي الاهلي    ضمّت 7 تونسيين: قائمة ال101 الأكثر تأثيرا في السينما العربية في 2023    طقس اليوم: أمطار و الحرارة تصل إلى 41 درجة    جرجيس: العثور على سلاح "كلاشنيكوف" وذخيرة بغابة زياتين    إنقاذ طفل من والدته بعد ان كانت تعتزم تخديره لاستخراج أعضاءه وبيعها!!    ألمانيا: إجلاء المئات في الجنوب الغربي بسبب الفيضانات (فيديو)    قانون الشيك دون رصيد: رئيس الدولة يتّخذ قرارا هاما    5 أعشاب تعمل على تنشيط الدورة الدموية وتجنّب تجلّط الدم    الكاف: انطلاق فعاليات الدورة 34 لمهرجان ميو السنوي    كاس تونس لكرة القدم - نتائج الدفعة الاولى لمباريات الدور ثمن النهائي    منوبة: إصدار بطاقتي إيداع في حق صاحب مجزرة ومساعده من أجل مخالفة التراتيب الصحية    وزير الصحة يؤكد على ضرورة تشجيع اللجوء الى الادوية الجنيسة لتمكين المرضى من النفاذ الى الادوية المبتكرة    نحو 20 بالمائة من المصابين بمرض ارتفاع ضغط الدم يمكنهم العلاج دون الحاجة الى أدوية    أب يرمي أولاده الأربعة في الشارع والأم ترفضهم    معلم تاريخي يتحول إلى وكر للمنحرفين ما القصة ؟    غدا..دخول المتاحف سيكون مجانا..    البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية يدعم انتاج الطاقة الشمسية في تونس    منبر الجمعة .. المفسدون في الانترنات؟    ملف الأسبوع...المثقفون في الإسلام.. عفوا يا حضرة المثقف... !    التحدي القاتل.. رقاقة بطاطا حارة تقتل مراهقاً أميركياً    منها الشيا والبطيخ.. 5 بذور للتغلب على حرارة الطقس والوزن الزائد    مفتي الجمهورية : "أضحية العيد سنة مؤكدة لكنها مرتبطة بشرط الاستطاعة"    عاجل: سليم الرياحي على موعد مع التونسيين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عوائق العلاج السليم أبو يعرب المرزوقي
نشر في الفجر نيوز يوم 28 - 07 - 2013

لو كنت ممن يمارسون العمل السياسي المباشر أو ممن ينوون العودة إليه لترددت ربما في الوصف بالصراحة التي ستتضمنها هذه المحاولة لأنها "تعرية للمذابح" كما يقال. وأول أمر أريد أن أعلن عن رأيي الصريح فيه هو: عبث كل محاولة للكلام على حل للخروج من الأزمة الحالية في تونس ومصر قبل الجواب المنهجي والنسقي عن سؤال يتعلق بأداة الإخراج القصدية أعني أداة التعبير الحديثة عن الإرادة السياسية. ففي غياب دكتاتورية الأجهزة التي كانت أداة الحكم قبل الثورة وخاصة في مرحلة السعي للتحرر من سلطانها الذي لا يزال من المؤثرات القوية في الأحداث كيف يمكن للحياة السياسية أن تنتظم وأن تكون مستقرة وسلمية إذا لم يتقدم عليها وجود شرط الشروط أعني: تنظيمات حزبية قادرة على جعل الإرادة السياسية ذات فاعلية خاضعة لعمل ذي خطط وبرامج ومناهج مع الإجماع حول شرط الوجود السياسي ذاته أعني الأمن بمعانيه الشاملة لكل مقومات الحياة العضوية والنفسية للجماعة. ذلك أن أي شعب إذا خير بين دكتاتورية تضمن هذه المعاني وديموقراطية لا تستطيع ضمانها فإنه سيختار الأولى دون تردد.
لذلك فإني أعتقد أن أهم العوائق أمام فهم هذا العامل الخطير في بلاد الربيع العربي هو الإيهام بأن ما يوجد الآن في الساحة السياسية يمكن أن يسمى أحزابا يعول عليها في قيادة البلاد إلى بر الأمان. والإيهام هو عدم الوعي بأن العمل بالموجود وكأنه هو الكافي والشافي في حين أنه لا يكون مقبولا إلا إذا صاحبه الوعي بما ينقصه ومن ثم السعي الجدي الموازي لسد النقص بالتعلم والتكوين للإطارات وبالتنظيم المؤسسي للفعاليات. ولعل ما ينفي حقيقة الحزبية على ما نتصوره أحزابا اليوم ظاهرتان لا تكذبان:
الأولى هي معركة الديكة على الزعامة في كل تنظيم يسمى حزبا وهي معركة الجميع فيها من جنس "من راسي تقرن". والجميع لا يثق في الجميع ومن ثمة فالجميع "يعس" على الجميع. لذلك تتوالى فيها الانقسامات لكأنها خاضعة للقسمة الخلوية البدائية في الظاهرة الحية. لذلك تراهم كلما ازداد عدد الأحزاب قل عدد المنتسبين إلى كل واحد منها لأنها تتولد عن هذه القسمة وليس عن تزايد عدد المتحزبين المعبرين عن الإرادة الجماعية.
والثانية هي العمل المقصور على التكتيك وعلى تقافز بعض الأغرار الذين يتعلمون الحجامة في رؤوس اليتامي ويرسلون الكلام على عواهنه. ولعل أصح حكم على هذه الظاهرة تمثله الحكمة الشعبية التي تسمي من يقتصر فكره على التكتيك في إدارة شؤون الأحزاب والبلاد على إخفاء الارتجال بالفهلوة التي تسمى تكتيك فيمسى صاحبها: مْتَكْتِكْ.
وهذا الوصف "متكتك" يصح اليوم على جل المهرولين للزعامة في كل الأحزاب تقريبا سواء كانت الأحزاب الحاكمة الثلاثة أو الأحزاب المعارضة لأنها تعمل بارتجال عجيب ينقلنا من أزمة إلى أزمة حتى صار ما يقدم حلا لكل أزمة من جنس دحرجة كرة الثلج التي قد تؤدي إلى ما لا تحمد عقباه. ويكفي أن تنظر إلى خطاب الأحزاب:
فهي جميعا "ديوان ورقلية" كل من هب ودب يعبر عن رأي حزبه فتسمع الشيء ونقيضة لفرط الارتجال والتزاحم على الزعامة.
كما يمكن أن تنظر إلى الجدل في درس الملفات أو مناقشتها بعد كل مصيبة تصيب البلد: فلا ترى تحليلا بل ترى تبادل تهم.
أعراض المرض السياسي
وهذا الخطر المعبر عن هشاشة الحياة السياسية تام الوضوح في أقطار الوطن العربي التي كنا نتصور أنها تجاوزت الخطر في الموجة الأولى من الربيع العربي و التي بدأت تحاول أن تنتقل من حياة سياسية لم يكن للأحزاب فيها دور سياسي فعلي حتى لو كان لبعضها الوجود الشكلي إلى حياة سياسية لا يمكن أن تدار بغير فاعلية حقيقية لهذا الدور الذي لا تؤديه التنظيمات المرتجلة ولا التنظيمات التي لم تحدد طبيعتها السياسية بالدقة التي تمكنها من الفصل بين المرجعية الفلسفية أو الدينية والآلية السياسية لتحقيق قيمها.
ففي أقطار الربيع العربي لم تكن الأحزاب معبرة عن إرادة هي منبع الحكم ولا كذلك المعارضة في البلاد. فحتى المعارضة ربما بسبب الطغيان لم تكن مقبولة الوجود إلا بشرط فقدان الفاعلية وبضمانة خارجية في الغالب. لذلك بقي التعبير عن الإرادة الجماعية سواء في الحكم أو في المعارضة عديم الوجود: ومعنى ذلك أن الأحزاب الحاكمة هي بدورها لم تكن حاكمة بل كانت محكومة بالأجهزة التي تتبع إرادة أجنبية مباشرة أو بصورة غير مباشرة هي تابعة لإرادة موكلة من الإرادة الأجنبية المستتبعة لكل الحكام غير الشرعيين في أوطاننا.
خصائص الحزبية قبل الثورة
فالأحزاب الحاكمة قبل الثورة تبدو مسلوبة الدور بذاتها لكنها في الحقيقة لا تختلف عن الأحزاب المعارضة بحكم تبعيتها لحاكم هو بدوره مسلوب الإرادة ما دام تابعا مطلق التبعية. وهذا العامل يجعلها عديمة الفاعلية باستثناء دورها كأدوات للأجهزة الحاكمة بالفعل إخفاء للطابع المافياوي والجهازي التابعين والمفروضين على الشعوب دون شرعية. والأحزاب المعارضة كانت مسلوبة الدور بغيرها بوضوح حتى وإن كانت تمثل السبابة التي تشير إلى الظاهر الأولى وتحتمي بمن خلقها ويحكم بها. والغالب في الحالتين هو سلب الدور الفعلي. فالأحزاب الحاكمة كانت مكاتب تجييش مناسباتي وانتداب مخابراتي في خدمة حكم مصدر شرعيته ليس الحزب المعبر عن الإرادة الشعبية بل هو الأجهزة الخاضعة لطابعها المافياوي ولما تخللها من تحريك خارجي بالأجهزة التي يستمد منها الحاكم وجوده المستغني عن الشرعية الشعبية.
لذلك فالحزب الحاكم قبل الثورة-في تونس وفي مصر وكلاهما يسمى تجمعا للخاضعين طمعا أو خوفا أو بهما كليهما لمافية المستبدين والفاسدين-أصبح بالتدريج مجرد غطاء مناسباتي لإخفاء هذه الحقيقة المتمثلة في الأجهزة الحاكمة-المخابرات والبوليس والعسكر والمافية المالية والنقابية والإعلامية الثقافية-ولم يكن معبرا بحق عن الإرادة الشعبية. لكنه اليوم بصد العودة ليصبح معبرا صراحة وبالفعل عن إرادة زبائن النظام السابق وزبانيته باعتبارهما ممثلين للجماعة التي تستمد من كل ما تتمتع به من مزايا من الفساد والاستبداد. فيكون هذا العائد متصفا بصفات الحزبية شكلا حتى وإن كان مضمونا أفسد ما في الحزبية لأنها تتحول في هذه الحالة إلى التنظيم المافياوي للدفاع عن المصالح الفئوية على حساب المصلحة الوطنية.
وظيفة العودة التي يسعون إليها
ذلك أن هذه العودة مشروطة من قبل موظفهم الأجنبي بتقديم ما لم يستطيعوا تقديمه له سابقا لما كان حاميهم ضد شعوبهم دون أن يطلب منهم تحقيق آخرة مراحل الاستعمار الذي لا يقبل الإدبار أعني إتمام ما فشل فيه إلى حد الآن. فما فشل فيه هو المرحلة الجوهرية والأخيرة في الحروب كما تحدده نظرية كلاوسفيتس وهي مرحلة لا يمكن أن تنجح إذا كان القائم بها بين الغيرية ما يقتضي اللجوء إلى الطوابير الخامسة حتما في المستويين المادي والرمزي أعني الأجهزة التي تتحكم في قوة الجماعة المادية (الجيش والأمن) وأجهزتها التي تتحكم في قوتها الرمزية (الإعلام والثقافة): غزو الروح معينا للصمود الروحي بعد كسر القوة العسكرية وغزو الأرض معينا للصمود المادي. ينبغي أن تصبح قوة الجماعة المادية والرمزية أداة غزو الجماعة من الداخل فيكون المحارب لأصل المناعة هم من يقدمون أنفسهم على أنهم مخلصون للجماعة ويريدون الدفاع عن مصالحها العليا.
ومن هنا نفهم أن العودة مشروطة بإعلان الحرب على الإسلام جهارا نهارا الذي صار مجرد الكلام باسمه أو اعتباره مرجعية للخيارات القيمية والسياسية في الجماعة يعد إرهابا كما هو بين من كلام أغبى نسخة كاريكاتورية من عبد الناصر قصدت هذا الكلب العميل الذي يدعي الدفاع عن الأمة المصرية. لكن هذا "الجهار والنهار" له مزية جعلتني أدعو إلى شكر الانقلابيين في مصر ومن يريد أن يحاكيهم في تونس على هذه الفعلة.
ذلك أنها هي التي تمثل بداية الموجة الثانية من الربيع العربي: تحديد طبيعة الرسالة وطبيعة القيادة. فأما الرسالة فهي استئناف العرب والمسلمين دروهم التاريخي في ملتقى القارات العتيقة الثلاث القارات التي أنتجت الحضارة الحالية كلها وأما القيادة فهي كل المؤمنين بهذا الدور. ومن ثم فالفرز النهائي في معركة التحرر من الاستعمار في وطننا العربي وفي دار الإسلام قد تحقق في ميادين القاهرة.
ولْأُنْهِ هذه الملاحظات ببيان القصد من القول إن ما حدث في مصر لو نجح سيكون هزيمة تعد هزيمة 67 لعبة أطفال. فمن قال هذا الكلام لا يتكلم سدى: فهو بكل يقين ممن قرأوا كلاوسفتس. فهزيمة 67 كسرت جيشا. واحتلت بعض أرض. لكنها لم تنتجح في غزو الروح بل بالعكس مكنت من إحياء جذوتها التي ظنوا أنها خمدت خلال قرني الاستعمار المباشر وغير المباشر. لذلك أمكن للجيش الذي ظنوا أنهم قد كسروه أن يحقق نصر 73 النفسي فأصبح الكاسر مكسورا لأنه عديم المناعة الروحية ومجرد أداة لإرادة استعمارية تستعمله لمنع عودة العرب بؤرة فعلية لقوة الإسلام. لذلك فهم موظفو إسرائيل وموظفو العملاء الذين تحميهم إسرائيل ومخابراتها في جل أجهزة الدول العربية ونخبها أنه لن ينجح إلا إذا جعل هذا الجيش نفسه يتحول من جيش 73 الذي أطاح ببرليف مناديا "الله أكبر" إلى من يحاول أن يطيح بالربيع العربي بالحرب على روح "الله أكبر" وتعينها الفعلي حاليا في حركة الشعب للدفاع عنها. المعركة هي إذن حول أصل المناعة الروحية للأمة التي لم تهزم إلى الآن والتي لن تهزم أبدا لأنها من الأزل جعلت لجعل المؤمنين بها هم الأعلون.
مظاهر الهشاشة السياسية في أقطار الربيع العربي
إن ما يحكم الساحة السياسية في قطري الربيع العربي الذي مر إلى موجته الثانية هو منطق "المتكتكين" الذي أريد أن أحدد صفاته بفضل المسافة التي فصلت بها نفسي عن العمل السياسي المباشر المسافة الموالية للمشاهدة عن قرب لئلا يكون كلامي خاليا من المعاينة الفعلية. فلأحاول الآن تعريف منطق التكتيك كما يباهي به أصحابه في الحكم وفي المعارضة خاصة عندما يتهمون من يحاول أن يفهم أخطار مثل هذا التكتيك على الثورة بأنه يتفلسف أكثر من اللازم: إنه منطق الارتجال وتدبير الرأس بأي طريقة بعد حصول النكبة والوقوع في المآزق.
والقاعدة قبل وقوع الأزمة هي "احييني اليوم واقتلي غدوة" وبلغة التجار المزورين (بالمعنيين العربي والتونسي) إنها "يمشي الغافل ويجي الجافل". أما بلغة المتفاقهين من المنظرين المزعومين فالعبارة هي "لكل حادث حديث" أو "دعها حتى تقع". ولا يدرون أن المسكن الآيل إلى السقوط إذا وقع ردم ساكنيه تحته لأنهم ظلوا فيه ولم يعوضوه بما ينجيهم منه قبل وقوعه. ورغم أن هذه الخاصية تكاد تكون أهم عيب في ثقافتنا التي تخلط بين التوكل والتواكل فإن بقاءها حتى بعد الثورة يعد من الجرائم وليس من العيوب الخلقية فحسب.
فمن المعلوم أنه لا يعمل بمنطق "احيني اليوم واقتلني غدا" إلا من كان عديم الشهامة في المعاملات أو بمنطق "دعها حتى تقع" إلا من كان عديم الفطانة في النظريات. والمثال الذي يجسد هذا النموذج من التسيير هو التاجر عديم الذمة الذي يدير أعماله بمنطق "يمشي الجافل ويجي الغافل". ذلك هو "المتكتك" يعني فاقد الملكة العقلية النظرية والعملية بلغة الشعب الحكيم ما يعني أن الشعب بحكمته الفطرية لا يرى أن التفكير الرصين شرطا للنظر والعمل قابلا لأن يوصف ب"التخلويض" الفلسفي إلا بتأثير من المتكتكين من الناطقين باسمه في النخبة السياسية الحاكمة والمعارضة التي تسير الأمور برؤية لا تتجاوز الساعة الحاضرة:
فعديم الشهامة يتحول في النهاية إلى متسول دائم في الداخل والخارج. ولا يمكن لمن ثار شعبه من أجل الكرامة والحرية أن يعد ممثلا لإرادته إذا كان هذا تصوره لإدارة شؤونه.
وعديم الذمة يتحول في النهاية إلى مفلس هائم لا يدري إلى أن يولي وجهه لفرط تعقله بالأماني بدل مخاطبة الشعب بكلفة الحرية والكرامة والتعاقد معه على خطة لتحقيق شروطهما.
وهاتان الصفتان تمثلان جوهر الهشاشة السياسة في أقطار الربيع العربي كلها. فلا وجود لحياة حزبية قادرة على التعبير السياسي المؤثر التعبير عن الإرادة السياسية للجماعة أو لبعضها في خدمة المصلحة العامة من خلال خدمة ذاتها. ذلك أن الوزن الانتخابي للأحزاب هو في الحقيقة الترجمة الكمية للعلاقة الكيفية الدالة على التوفيق المعقول والمقبول بين المصلحة الخاصة بالجماعة التي يمثلها الحزب والمصلحة العامة للجماعة ككل. فذلك هو شرط تجاوز الوزن الحزبي للانحصار في الجماعة التي يتألف منها خاصة إذا كان صادقا ولم يكن مجرد خطاب انتخابي خادع.
علل الهشاشة السياسية في أقطار الربيع العربي
من اليسير جدا أن نجيب عن علة الهشاشة السياسية إذا رضينا بالجواب السطحي أعني إذا تياسرنا في تحديد ماهية الهشاشة السياسة. فذلك يكون حينئذ دليلا على بداية الانحراف عن العلاج السوي. فمن البين أن المشهد الذي تكون مباشرة بعد النجاح السهل للموجة الأولى من الربيع العربي علته ما ساد على الساحة التونسية والمصرية على حد سواء من تقافز سريع على التنظيم الارتجالي للأحزاب التي تتلهف على تقاسم السلطة: شاهية عجيبة للحكم والسلطة لا يمكن أن تعبر عن رغبة في خدمة الصالح العام لأن المتطوعين لمثل هذا الدور من المفروض عند من يعلم حقيقة هذه الخدمة ينبغي أن يكونوا أقل من القليل.
لكن أهم ظاهرة هي -إذا ما استثنينا الجماعتين السياسيتين ذاتي المرجعية الدينية للعل تاريخية سنحاول فهمها لاحقا أعني النهضة في تونس والإخوان في مصر وهما جماعتان وليستا حزبين بعد وقد تصبحان كذلك إذا تحقق لهما فهم الفرق بين آليات العمل السياسي وفعاليات المرجعيات الفكرية والعقدية فالتزمتا بما يقتضيه الطابع اللامباشر المحدد للعلاقة بينهما-كانت:
إما الملء السريع لأحزاب مدنية معارضة حقيقية لا ديكورية سابقة الوجود على الثورة لكنها خاوية على عروشها أو تكاد لأن جل النخب السياسية المدنية كانت قد انضمت للحزب الحاكم قبل الثورة. لذلك فهذا الملء السريع وخاصة من أجل تكوين القوائم الانتخابية لم يكن له من معين إلا زبائن الحزب التي كان حاكما قبل الثورة وزبائنه. ومنهم جاءت جميع الخيانات في المجلس وفي الإدارة وخاصة في الحزبين المحالفين للنهضة.
أو النشأة الحزبية عن عدم. والأحزاب التي هذا نوعها رغم كثرتها لم تتمكن من تجاوز الوجود الورقي في تونس وفي مصر. وحتى ما بدا واعدا منها فهو من جنس نداء تونس فهو لم يصبح ذا وجود إلا بتحوله إلى مصب لمياه عكرة أعني للمنشقين عن الأحزاب الثلاثة أو من بقايا التجمع أو من توابع النظام السابق من اليساريين والقوميين والليبراليين الانتهازيين.
عموم الداء وتجلياته الخطيرة
قد يفكر البعض في استثناء حزب الأستاذ الشابي من هذا الخواء المتقدم على الثورة لما عرف على هذا الحزب من حيوية كانت فيه قبل الثورة ولما عرف به زعيمه من نضال صادق قبل الثورة. لكن الحيوية كانت في الحقيقة حيوية ظرفية ومخادعة لأنها لم تكن معبرة عن جماعة ذات مرجعية فكرية ذاتية لها بل هي كانت ثمرة تمثيل حزبه ملجأ للإسلاميين والقوميين. لذلك فبمجرد انفتاح المجال السياسي للجميع غادره جل المنتسبين لهذين التيارين فأصبح حزبه مثله مثل حزبي المرزوقي وابن جعفر بلا جمهور واحتاج إذن إلى الملء السريع من بقايا الحزب الذي كان حاكما. فكان ذلك مقتله مثله مثل الحزبين الآخرين فضلا عن كونه أفقده أخلص من كان معه ممن آمن برسالة الحزب. والشابي لم يفته مثل هذه الأمور لأنه ذكي ومثقف وذو خبرة فحاول قدر مستطاعه مباشرة بعد الثورة أن يجد البديل أعني وراثة الحزب الحاكم. لكن ذلك لسوء الحظ لم يتحقق. وكانت آخر طعنة قاتلة شرط السبسي في تكوين حكومته: لأنه نزع منه آخر أوراقه.
كما يمكن أن يرى البعض أن الأحزاب التي من جنس نداء تونس يمكن أن تكون ذات مستقبل. وهذا وهم لأن هذا الخليط عديم الهوية المرجعية فضلا عن كون تواريخ مكوناتها متنافية ولا يمكن إذن أن يمثل إلا ظاهرة فقاعية مؤقته علة قوتها هي سوء تدبير الحزب الحاكم الأغلبي. لذلك نصحت بعض أهل القرار بأن يتركوا الأمور تجري بحرية بين مكونات نداء تونس والساحة السياسية. فذلك وحده كاف ليجعله ينفجر بذاته بمجرد حصول الأمرين التاليين:
فيكفي أن يستأنف الدساترة نشاطهم مثلا حتى ينفجر النداء-وهذه أهم حجة جعلتني أعارض قانون التحصين المزعوم-لأنهم لن يقبلوا أن يعود أعداء بورقيبة للحكم باسمه. وقد قال أحد الزعماء الكبار من أفاضل البورقيبيين الصادقين ومن العارفين برجالات العهد إن الباجي يمكن أن يسبب الكثير من الضرر لكنه لا يمكن أن يحصل على شيء أو أن يكون نافعا للبلد.
كما يكفي أن يتبين لكل الأحزاب المدنية الأخرى ما يسعى إليه نداء تونس لتفريغها من المنتسبين إليها حتى تتجند لمصارعته مصارعة الندية لأنه لا يستطيع أن يدعي أنه ممثل للديموقراطية والتنوير كما يمكن أن يخادع بذلك عند حصر معارضيه في الإسلاميين.
والجميع يعلم أن الخيانة النيابية والتلاعب بهيبة المؤسسات علتها الأساسية هذا الحزب اللقيط الذي أفسد الحياة السياسية بل إن أول من "طيح قدر" المؤسسات بما كان يتصوره خفة دم هو زعيم الحزب نفسه فضلا عن دروشات بعض من انتسب إليه في جلسات المجلس: فعندما يصف رئيس الدولة بأنه يبرطع وعندما يصف زملاءه السياسيين بأقذع الأوصاف فهو يضع هيبة الدولة والنخبة السياسية في أسفل سافلين خاصة وهو قد أوهم عامة الاستبلاسمنت بأنه سياسي محنك.
ولولا انخداع قيادات هذا الحزب بما يخادعون به الرأي العام إذ صدقوا أكاذيبهم لكانوا مثلهم مثل دراويش اليسار أول الدعاة لمبدأ على وعلى أعدائي أيا كان النتيجة بالنسبة إلى الوطن. فالنواب الذين خانوا الأحزاب التي رشحتهم في المجلس التأسيسي انظموا إليه ليس حبا في مصلحة البلاد بل بسبب خدعة المخدوع: فقد صدق نداء تونس أنه قوة سياسية حقيقية واقتنع الفاسدون من الأصل بسبب ما أسال به لعابهم ولعاب بعض النخب الهامشية والأحزاب الديكورية في العهد السابق توهما منهم أنه يمكن يوصلهم لما هم واثقون من عدم قدرة أحزابهم على إيصالهم إليه.
والحق أقول إن هذه الظاهرة ليس المسؤول عنها نداء تونس وحده بل خاصة الحزبان المشاركان للنهضة إذ إن أغلب من أوصلاهم للمسؤولية تنصلوا منها وعينهم على النداء وزراء وسفراء ونواب ومديرين ولحاسين من الإعلاميين: كان هذان الحزبان في عجلة من أمرهم سعيا منهما لترشيح قوائم في كل الولايات دون أن يكون لهم جمهور حقيقي فلم يميزوا بين الغث والسمين وأخذوا أفسد ما ورثته البلاد عن النظام السابق. وهما إلى الآن يعانيان من هذا الخطأ الفادح. وكم من مرة حذرت رئيس الحكومة من البعض فلم يصدق حتى تبين الآن أنهم في خدمة أجندة لا صلها لها بالثورة.
ولم تكن النهضة غير بريئة من مثل هذا السلوك. لكنه لم يكن مؤثرا بسبب حجم الحزب ومن ثم نسبة هؤلاء المتسللين بالقياس إلى من هم معلومي التوجه فضلا عن كون حصوله إن صح فهو في المسؤوليات الإدارية وليس في النيابة أو في الحكومة وفضلا عن كون الاستثناء الكامل لرجال العهد السابق لم يكن ممكنا كما حصل في تسميات رفيعة المستوى أدت إلى معارك يعلمها الجميع لكن نواب كتلة الحركة مضطرين للموافقة تجنبا للأزمة مع الحزبين الآخرين وكذلك للفراغ في مؤسسات ضرورية الدولة.
منزل بورقيبة في 2013.07.28


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.