أخشى ما أخشاه أن نكون إزاء اغتيال ثانٍ للشهيد محمد البراهمي بدأ يرتكبه البعض بقصد أو بغير قصد ولا تقولوا لي إنّ الاغتيال لا يتمّ إلاّ مرّة واحدة ، فالاغتيال الثاني للشهيد يمكن أن يحصل حين نباشر حالة من الاستهانة والإهمال غير المقبوليْن إزاء الواجب الأساسي نحوه وهو صرف كل الجهد أوّلا وأخيرًا إلى معرفة اليد الآثمة التي ارتكبت جريمة الاغتيال وفكّ شفراتها وتتبّع القتلة ومحاسبتهم الحساب العسير، وهذا أمر يستوجب مشاركة الجميع .. الاغتيال الثاني لمحمد البراهمي يكون حين نُهمِل كل ذلك وننْصرف بدلاً عنه إلى محاولة إغراق البلاد في حالة من الاستقطاب(يشارك فيها الفريقان) حول شرعية الشرعية من عدمها والحال أن دم الشهيد مازال لم يجفّ على الإسفلت والحال أنّ موكب العزاء مازال قائمًا والحال أن لا علاقة بين التصارع على الشرعية وبين واجبنا نحو الشهيد بأنْ نحاسب قتلته ، فهل بإسقاط المجلس التأسيسي الذي هو عضو به نثأر لمحمد البراهمي؟ هل المجلس هو الذي قتل البراهمي؟ الاغتيال الثاني لمحمد البراهمي يحصل حين تتحوّل فاجعة اغتياله الغادر إلى فرصة لتفريق التونسيين وتطاحنهم وللفتنة بين أبناء الشعب الواحد بدل أن تكون فرصة لتجميعنا وتوحيدنا من أجل الاستحقاق الوحيد الشرعي جدًّا الآن وهو معرفة اليد الخبيثة المجرمة والانتقام للشهيد منها ، أليس هذا واجب الجميع؟ أليس محمد رحمه الله هو شهيد الوطن وليس شهيد فريقٍ سياسيٍّ بعينه، وروحه لن تنام قريرة في مثواها إلّا إذا ذَادَ جميع التونسيين على دمها المهدور؟ أليس واضحًا أنّ زعزعة الوحدة بين التونسيين كانت غاية القتلة من جريمتهم فكيف تذهبون إلى تحقيق مُرادهم؟ من قال لكم إن إسقاط المجلس التأسيسي الآن وحلّ باقي مؤسسات الدولة من حكومةٍ ورئاسة لن يؤدّي إلى الفراغ؟ هل نِلْتم اجماعًا من التونسيين على ذلك وهل سيصمت الفريق الآخر؟ ألنْ يأخذنا كلّ هذا إلى المجهول الذي هو في الحقيقة معلوم وهو التطاحن الذي لن يضمن أحد وقتها أنّ الدم لن يُسال معه والمشهد المصري غير بعيد عنّا ولا مشهد الجزائر في التسعينات ولا المشهد اللبناني؟ الاغتيال الثاني لمحمد البراهمي يحصل حين نكون سطحيّين بُلَهاء في التعاطي مع لغز اغتياله ونذهب إلى حصر الاتهام في الجهة التي نحن مختلفون معها سياسيًّا بدل التفتيش في كل الاتجاهات والشك في كلّ طرف داخلي أو خارجي ما لمْ تثبت براءته من دم الشهيد، لِنُحدّد في النهاية الطرف الفاعل وحينها نكون أوفياء للشهيد، بالمناسبة هل أنتم مقتنعون فعلا أنّ النهضة هي من اغتالت محمد البراهمي؟ هل يجوز أصلا أن تكون الجهة الأكثر تضرّرًا سياسيًّا من اغتيال البراهمي ومن تداعيات هذه الجريمة الإرهابية هي الجهة القاتلة؟ أنا أسأل لا غير.. أمرّ إلى الفريق الحاكم وإخفاقاته.. أجلْ لِحكومة الأيادي المرتعشة ذنوب لا تُغتفر، و"شدّوا عندكم": حين وقعت الجريمة الإرهابية الأولى التي راح ضحيتها الرفيق الصديق شكري بلعيد وكانت إيذانًا صريحًا لا يقبل الشك بِأنّ جهةً مّا بدأت تمارس الاغتيال في تونس وبدأت بعدها تفِدُ تهديدات إلى عديد الشخصيات السياسيّة كان لزامًا على الحكومة أنْ تنفّذ استحقاقًا عاجلاً وهو وضع خطّة أمنية حقيقيّة وناجعة لحماية السياسيين شاؤوا هُم أم أبوا، ذلك أنّ أرواحهم مسؤولية الحكومة وكل دمّ يُهدر لا سمح الله هو مسؤولية الحكومة، فماذا أنجزت لنا حكومة الأيادي المرتعشة؟ لقد خصّصت حراسة لِبعض الشخصيات السياسية والنقابية بيْنها الرفيق حمة الهمامي وحسين العباسي الأمين العام لإتحاد الشغل وأحمد نجيب الشابي الأمين العام للحزب الجمهوري ونِزرٌ قليل غيرهم من السياسيين وأمّا البقية فلا.. والأدهى أنّ الحكومة نشرت قائمة من لهم حراسة خاصّة وكأنّها تقول لأي جهة تخطّط للاغتيال: هذه هي قائمة الذين هُمْ من غير حراسة وبالتالي هُمْ طوع بنانِك.. ومن بيْن الذين كانوا من غير حراسة الشهيد محمد البراهمي طبعا.. فما ضرّ لو وُضعت حراسة على كلّ الشخصيات السياسية والحقوقية والصحفية الوطنية البارزة المجلسيّة منها وغير المجلسية لضمان حمايتها؟ ألا تفعل عديد الدول هذا منذ عقود؟ كم عددهم هُمْ حتى تتردّدوا في حمايتهم؟ ألمْ يكن بن علي يصرف الملايين من المال العام علينا نحن معارضيه لمراقبتنا وحماية نظامه منّا؟ فما ضرّ لو حميتمونا أنتم الآن من الأيادي الطليقة التي قد تغتالنا؟ حتّى الذين تلقّوا تهديدات صريحة بالقتل لم تحموهم، وأذكر أنني شخصيًّا كنت تلقّيت عبر البريد والأستاذ عبد الرؤوف العيادي زمن كنت في حركة وفاء تهديدات صريحة بالقتل وكانت أطراف حكومية قالت لنا بصريح العبارة إنّها تلقت معلومات عن جدية هذه التهديدات، فماذا أنجزت وزارة الداخلية إزاء ذلك: رفضت توفير الحماية واكتفت بدوّريات تظهر مرة في اليوم للمرور قرب منزليْنا.. منزليْنا فقط .. وغير العيادي وبوخذير كثيرون تلقّوا تهديدات ولكن لم يوفّر لهم أحد الحماية.. وهناك مسألة أخرى: جريمة اغتيال محمد البراهمي جريمة سياسيّة وهي حلقة ممتدّة من جريمة اغتيال شكري بلعيد، والجريمة السياسيّة تُسمّى سياسيّة ليس فقط لأنّ الضحية فيها سياسيّة بل أيضا لأنّ اليد التي ترتكبها هي سياسية بالضرورة ، وبالتالي التحقيق فيها لا يجب أن يكون بنفس تقنيات ومنظومة التحقيق في جريمة حق عام عادية ، في جريمة الحق العام يجب على المحقّقين معرفة اليد التي ارتكبت الجريمة ودوافعها وحيثيّات كل ذلك ، أمّا في الجريمة السياسيّة فليس مطلوبا فقط يا سادة معرفة اليد التي ضغطت على الزناد ونفّذت ، هذا نصف الطريق فقط وأمّا النصف الثاني الذي على المحقّقين قطعه إلى آخره وهو الأهم فهو معرفة الجهة السياسية التي خطّطت وأضمرت وأعطت الأمر بالتنفيذ.. وهذه هي الحلقة المفقودة في التحقيق في جريمة شكري بلعيد: انظروا ماذا فعلت النيابة العمومية: كلّفت فرقة مقاومة الإجرام والفرق المتفرعة عن إدارة الشرطة العدلية في التحقيق في الجريمة السياسية المرتكبة، وهذه الفرق لها خبرة عالية في جرائم القتل العادية ومجهودها في قضية شكري بلعيد هو محمود بلا شك ولكنّه مجهود قاصر.. مجهود ذهب إلى ظاهر الأمور وباستخدام أدوات التحقيق المعتادة في جرائم الحق العام التي ليس لهم غيرها، وفي النهاية أعلنت لنا الطبقة السطحيّة من قائمة المطلوبين(المرتكبين للجريمة وأعضادهم) ولكن إلقاء نظرة واحدة على مؤلفات المكتبة الإنسانيّة في موضوع الجرائم السياسية وإجراء جولة قصيرة على محرّك البحث غوغل لِلإطلاع على ما كتبه الكاتبون في هذا الموضوع، سيجعلكم تعرفون أمرًا بسيطًا هو أنّ الضالع الأهم في الجرائم السياسيّة هي الجهة التي خطّطت وأمرت وأمّا المنفّذين فهم فقط من يظهرون في الصورة هذا إنْ ظهروا.. وفي الغالب تكون الدول هي التي تضلع في الجرائم السياسية، وفي الأغلب أجهزة المخابرات بأمر من الحكومات هي الطرف المخطط والساهر عادة على التنفيذ، وفي الأغلب أيضا تحاول هذه الأجهزة توفير أكبر ضمانات لا السريّة فقط لعملياتها القذرة تلك بل أيضا أن تضمن في المقام الأول طريق فرار واختفاء المنفذين قبل طريق توجهم إلى الضحية ، وفي الغالب أيضا تحاول هذه الأجهزة ممارسة التضليل عند ارتكاب هذه الجرائم حتى يُتّهم طرف آخر بارتكابها وهذا راجع إلى كل جريمة من هذا النوع على حدة .. لن أحلِّق بخيالكم البوليسي بعيدا وأنا هنا لا أحاول اقناعكم بأنّني خبير في تحليل الجرائم السياسية، ولكنّي أحاول لفْت انتباهكم إلى الحدّ الآن من المعلومة عن هذا النوع من الجرائم الذي كان يستوجب على النيابة في قضية شكري بلعيد عدم الاكتفاء بمحققين جنائيين فقط يكشفون لنا القتلة على الأرض بل أيضا بمختصيّن يتمعّنون في الخلفيات السياسية للجريمة وتشعّباتها في هذا الباب ويفكّون كل الشفرات لمعرفة القتلة الذين هم ليسوا على الميدان وإنّما خلف الستار وقد تكون جهة خارجية مثلاً، ذلك أنّ المنفّذين على الأرض قد يكونوا مجرّد مأجورين أو قد يكونوا لابسين رداء سياسيًّا محلّيًّا معيّنًا ولكنهم مخترقون مثلاً أو مأمورون من الخلف بعلمهم أو بغير علمهم من جهة خفيّة قد لا تظهر في الصورة.. في الجرائم السياسية أول سؤال يجب طرحه هو: من هي الجهة المستفيدة وإذا أجبنا عليه كنّا في الإتجاه الصحيح والتحقيق في قضية شكري بلعيد لو اهتدى بنا إلى الجهة المستفيدة التي تقف خلف الستار بعيدا وتُحرّك الدمى وأدانها لما كانت كرّرت الفعلة مع محمد البراهمي.. فالموضوع ليس بالبساطة هذه يا سي بن جدّو حتى تعلنوا لنا عن كوكبة من الشبان المورّطين الذين قد يكونوا سلفيّين متشدّدين كلهم وقد لا يكونوا كلهم كذلك وتهملون احتمال أن يكون هناك طرف خفيّ وراءهم .. ولا تقولوا لي إن هذا الاحتمال غير مرجّح بل هو الأكثر ترجيحًا فرائحة المخابرات تفوح في عمليّتيْ بلعيد والبراهمي بصورة جليّة ، تفوح من خلال الحرفية العالية في الجريمتيْن بحيث تُرتكب الجريمتان بشكل غادر وتُصيب الهدفيْن وفي وضح النهار وتنجح في ضمان نسبة نجاح لا تقل عن مائة بالمائة وتعرف كل شيء عن مكان تواجد الضحيّتيْن ساعتيْ الارتكاب وساعتيْ الخروج من منزليهما وتترصدهما دون اكتشاف أمر القتلة وتنجح كذلك كلا العمليّتيْن في ضمان الاختفاء السريع للقتلة ، وكلّ هذه الحرفية العالية تؤكّد أن فريقًا كاملا سهر على نجاح الجريمتيْن وليس مجرّد شخصيْن(سائق وقاتل) في كل جريمة.. رائحة المخابرات تفوح خاصّة من خلال استعمال نفس السلاح بعيْنه في الجريمتيْن بدل استبداله بسلاح آخر فهذا دليل صريح على أنّ الطرف الذي وقف وراء الجريمة الثانية يُريد أن يقول بصوت عالٍ إنّه هو نفسه الذي ارتكب الثانية وهي رسالة مشفّرة عادة ما ترسلها أجهزة المخابرات لخصومها لتؤكّد تحدّيها للمخابرات النظيرة بأنّها تستطيع اختراق أجوائها ومحيطها وارتكاب عمليات جديدة على أرضها وبنفس السلاح.. وهذه حلقة مفقودة أخرى في تونس بعد إسقاط بن علي وأعني جهاز المخابرات الوطني المفترض، ففي عهد الدكتاتور كان لنا في تونس جهاز مخابرات (البوليس السياسي) يتوفّر على ما شاء الله من الرصيد اللوجستي والبشري والمالي ولكنه كان مسخّرا كلّه لحماية بن علي منّا نحن معارضيه، هذا الجهاز العالي الإمكانات كان يباشر حماية مفهوم خاطئ لِأمن الدولة ، الدولة لم تكن تعني عندهم في تلك السنوات الحالكة الأرض والشعب والعلم واللغة والحضارة والمؤسسات، بل كانت تعني فقط الحكومة ورأسها ، وبعد الثورة كان يجب أن يكون لنا جهاز مخابرات يحمي فعلا أمن الدولة الحقيقي ويكافح بشكل استباقي كل أشكال الاعتداء عليه (تجسس – اختراق- عنف واغتيالات....إلخ) ، ولكن ماذا فعلوا في تونس: قالوا لنا إنهم حلّوا أجهزة البوليس السياسي ولم يحاسبوهم طبعا وتلك مسألة أخرى، وفي المقابل لم نسمع أنهم أنجزا لنا أجهزة مخابرات بديلة تحقّق الهدف الأصلي لأي جهاز مخابرات واستعلامات وهو حماية أمن الدولة أرضا وحكومة وشعبا ونخبة و.. و.. إلخ ، ولو كان هذا الجهاز قائما وفعّالاً لوقعت الاستعانة به في التحقيق في جريمة اغتيال الفقيد بلعيد .. بالمناسبة: انظروا من حولكم: من هذا الحزب السياسي الذي مارس الاغتيالات في تونس هذا إن وجدتم؟ ثمّ دقّقوا النظر إلى أبعد من ذلك قليلًا هل هناك دول أخرى تضرّرت من الثورة التونسية ولا يعجبها استمرار الاستقرار في تونس؟ ما الذي يمنع أجهزتها السرية من اختراقنا والعبث بأوضاعنا؟ وما الذي يضرّها في أن تفعل ذلك إذا ضمنت سهولة العبور والمرور والتجنيد والتنفيذ؟ حتّى الاكتفاء بذكر إسم المتهم الفرنسي التونسي بوبكر الحكيم في الندوة الصحفية لوزير الداخلية وخلع صفة سلفي عليه ليس يغنينا عن طرح الأسئلة، فمن قال إنّ هذا السلفي غير مجنّد؟ ومن قال إنّه ليس وراءه جهة داخلية أو خارجية؟ إذا كانت جريمة اغتيال محمد البراهمي هي جريمة سياسية بامتياز ما في ذلك شك فما المشاكل السياسية التي لم نسمع بها يومًا بين محمد البراهمي وبين السلفيّين في تونس حتّى يقتلوه؟ ما صحة أنّ بعض من إتّهمهم وزير الداخلية موتى؟ من هو أحمد الرويسي وما مدى صحّة أنّه ليس سلفيًّا؟ ما مدى صحة ما ذُكر من أنّ تونس صارت مرتعًا لمخابرات دول مجاورة وغير مجاورة بعد الثورة؟ المسؤولية السياسية الواقعة على النخبة الوطنية في هذه المرحلة تحتّم عليهم حكومة ومعارضة مواجهة اليد الآثمة أوّلا وهذا هو المشترك الوطني العاجل: "شكون قتل بلعيد والبراهمي" .. وبعدها نتحدّث.. المصدر بريد"تونس برس"