هل يمكن للإعلام أن يكون بخلاف ما هو عليه؟ الكذبة الكبرى وكيفية التعامل معها لا بد من تبديد كذبة كبرى – كذبة السلطة الرابعة - كثيرة التردد على أفواه أدعياء الدفاع عن حرية الإعلام رغم أنها بلغت أسوأ صورها التي نراها الآن. فهذا الشعار حط من هذه القيمة التي لا ينكرها عاقل لأنه جعلها من الحق الذي يراد به الباطل. ذلك أن كذبة السلطة الرابعة هي التي تجعل أصحاب هذه الدعوى أكبر أعداء حرية الإعلام ليس بماضيهم فحسب بل وكذلك بما يواصلون عمله خلال هذه المرحلة الانتقالية التي أصبح فيها الإعلام حربا على كل محاولات بناء الدولة المتحررة من الاستبداد والفساد. إن كذبة الزعم بأن الإعلام سلطة رابعة بمعنى أنها ذات قيام مستقبل يجعلها معدلا للسلط التقليدية الأخرى هي التي نريد فهم الخلط المفهومي الذي تخفيه. فهذا الزعم الكاذب يقبل الرد إلى رفع منزلة إحدى أدوات السلطة بمعانيها التي يلي تحديدها سواء كانت تابعة للحكم أو للمعارضة واعتبارها هي بدورها سلطة. وهذه الدعوى الكاذبة دليل على غباوتين متلازمتين: أولاهما هي الإيهام بأن الإعلام أداة فاعلة بذاتها لكأن المقاتل هو البندقية التي تخرج من فيها الرصاصة القاتلة. والثانية هي الإيهام بأن الإعلامي مستقل و ليس مجرد أداة طيعة بيد المقاتل الحقيقي وراءه أعني مؤجره. لكن الثورة وما حصل بعدها فضح الكثير من الإعلاميين وخاصة مرفهيهم وأصحاب الصحف ووسطاء الصحافة الدولية بينا للجميع أن الإعلام في جله ليس إلا أداة بيد أذيال الاستعلام يستعملها لخدمة دعاية الفساد والاستبداد وتوابعه في الاقتصاد والتربية والثقافة والمناعة الروحية. ولم يكن بوسع الثورة خلال فترات الحكومات الأربع للحقبة الانتقالية أن تغير هذا الوضع أو أن تعرف كيف تتعامل معه: إما لظن القلة الساذجة من الثوار بأن الثورة ستصلح النفوس وتغني أصحابها عن أطماعها، سوء تأويل لموقف الانتظار من الإعلاميين الذين كانوا ينتظرون من النظام الموالي نفس التعاطي. أو لعجز المتلبسين بالثورة ممن يغريهم استعمال ما استعمله النظام السابق عجزهم عن توفير ما كان النظام السابق قادرا على توفيره لأدواته الإعلامية حتى تحقق الخدمات التي كانت تؤديها. والتفسير الأقرب إلى الحقيقة هو أن الإعلام من حيث هو أداة خادمة كما تقتضي طبيعته المنافية لكونه سلطة ذات قيام مستقل ما يزال خادما للنظام السابق وتوابعه. فمستعملوه لم ييأسوا بعد من عودة النظام السابق العودة التي يتصورونها قاب قوسين أو أدنى. وكلما تأخرت رأيت الكثير منهم يزداد حنقا في الظاهر ويشرع في التقرب في الباطن إلى من يتصورهم أصحاب الحل والعقد المقبلين. لكن الراجح لديهم الآن بسبب ما يلاحظونه من سلطان كامن في أعماق كل المؤسسات يحافظ على ما كان موجودا أو يعد لعودته هذا الراجح يجعلهم يواصلون مهامهما السابقة فيشاركون في هذا الإعداد. لكن علينا من أجل فهم أعمق لظاهرة الإعلام بمعناه الشامل فكرا وثقافة واستعمالا للخطاب من أجل التأثير على الرأي العام أن نطرح بعض الأسئلة المحيرة: 1-فهل التحرر الفجئي من الحكم الغاشم وحده كاف لفهم ما وصلنا إليه من سوقية عامة تطغى على الخطاب العمومي وخاصة النخبة الإعلامية والثقافية سواء توسلوا أدواته التقليدية أو ما يسمى بوسائل التواصل الاجتماعي؟ 2-وما السر الذي يجعل بعض الإعلاميين ومن يلف لفهم من أشباه المثقفين والمتشاعرين والمتفلسفين والمحللين النفسيين والاقتصاديين والاستراتيجيين - وهم بعدد شعر الرأس - كل واحد منهم يتصور نفسه خبيرا ومحاميا وقاضيا في كل شؤون الناس بلا حسيب ولا رقيب لكأنه فريد نوعه عبقرية عصره؟ 3-وكيف يستطيع هذا البعض أن يكون فوق القانون لأن الخوف على هشاشة الوضع مهما كان حذر أصحابه لا يمكن أن يكفي لتفسير السكوت عن مثل هذا التردي بدعوى عدم تقييد حرية الإعلام خاصة والكلام هنا لا يتعلق بمضمونه بل بشكله؟ 4-وما العلة في تردي الأخلاق العامة حتى باتت النخبة السياسية تخلط بين المعارضة التي هي حق بل وواجب بين الاستهانة بالصالح العام أمنا واقتصادا بحيث باتت تصفق لكل ما تتصوره مساعدا لها حتى لو كان ما تصفق له يقطع فرع الشجرة الذي يجلس عليه الجميع: الحط من مهابة الدولة شرطا في الحكم السلمي للجماعة لأن العنف عكسي النسبة مع منزلة الرموز؟ كلما حططنا من هذه ازداد مقدار تلك. و5-كيف يعقل ويقبل أن تصبح وسائل الإعلام لغتها السب بأقذع الألفاظ ومعجمها لا يدل على سوقية مستعمليه في الإعلام العام فحسب بل على انحطاط الذوق العام إلى حد لم نر له مثيلا في أي شعب مهما قل مستواه الحضاري؟ و طبعا فمن العسير أن يتصور المرء ذلك كله لوجه الله وحبا في الوطن أو احتفالا بحرية الإعلام: فسواء التفت إلى مصر أو إلى تونس ستجد أن هؤلاء الأسود لم يكن لهم ذكر قبل الثورة بل كانوا نعاجا. وإذن فليس مستبعدا أن يكون الدافع إذن هو مواصلة الحصول على الشرنان الرنان المدفوع من مافية المخلوع وأمراء الثورة المضادة لأصحاب قبيح اللسان وسقيم البيان: الظاهرة واحدة في تونس ومصر ومن ثم فتفسيرها واحد. لذلك فلا بد من محاولة فهمها من خلال آليات متماثلة. ولست أنوي الكلام على رموزها بالاسم ولا حتى بالرسم لكنهم معلومون للجميع ذلك أنهم تحولوا إلى قضاة في كل صغيرة وكبيرة بما في ذلك حياة الناس الحميمة حتى إن المرء ليقول: لا عجب أن تُحكم شعوبنا بالاستبداد والفساد إذا كان هذا مستوى نخبها بمثل خلق هؤلاء الأعزة على الشعب الأذلة على مستكلبيهم. لعل دافعي الأساسي للإقدام على الكلام في مسألة الإعلام وكيف يطرأ عليه الفساد في ظل الاستبداد هو تحليل الكذبة السائدة والقائلة إن الإعلام سلطة رابعة خلطا بين مفهوم السلطة ومفهوم أداتها. فالإعلام ليس سلطة بل هو أداة من أدوات السلطة بل إن اعتباره سلطة من علامات العدوان على سيادة الشعب لأنه يكون سلطة عديمة الشرعية حتى لو اتصف بأقصى درجات الأمانة في الإخبار. ففي حالة رفضت أن تكون لصاحب أسمى معرفة أي المعرفة الدينية سلطة لا يمكن أن تكون لمن عداه ممن له علاقة بما ينتج عن المعرفة العادية كالإعلام: وذلك هو معنى التحرر من الكنسية. إن هدفي من هذه المحاولة هو طلب الجواب عن هذا الأسئلة المحيرة التي صدرت بها البحث انطلاقا من حقيقة الإعلام ووظيفته وصلته بقابلية توظيفهما في المجتمعات الإنسانية بحسب الحال التي عليها تطور أخلاقها العامة. ولنوجز هذه الأسئلة بأكثر دقة: فكيف تنقلب حقيقة الإعلام المعرفية (تحصيل المعلومة) إلى نقيضها. فتحصيل المعلومة لا يبقى في الإعلام فعلا معرفيا نقديا يطلب حقيقة ما يخبر عنه فيميزها عن كذب ما يشاع بل هو يتحول إلى فعل دغمائي يزين الشائعات بل ويبتدعها؟ وكيف تنقلب وظيفة الإعلام التعليمية (تبليغ المعلومة) إلى نقيضها. فتبليغ المعلومة في الإعلام لا يبقى فعلا تنويريا يحرر المتقبل من التصديق الغفل بل هو يتحول إلى فعل تنويمي يفقده القدرة على الحكم السوي والحر في ما يتعلق به الأمر؟ وهل يمكن تحرير الإعلام من هذين القلبين إذا كان وجوده ذاته رهين توظيف المعلومة الحاصلة وتوظيف تبليغها لغاية هي غير طلب الحقيقة لذاتها والإيمان بالتواصل الصادق في المجتمعات التي صارت أخلاقها العامة مخلدة إلى الأرض؟ مجالات الانحراف الإعلامي وتبعيته فسواء أخلدت المجتمعات البشرية بمقتضى ما تعتبره نخبها جوهر السياسية الواقعية ليس في الأنظمة المستبدة والفاسدة وحدها بل حتى في الأنظمة الديموقراطية حيث يكون الإعلام أداة بيد اللوبيات الاستعلامات والحرب النفسية على الغير أو تردت بسبب ما حل بقيمها من نكبات ناتجة عن الانحطاطين اللذين سيطرا على مجتمعاتنا الذاتي أعني انحطاطنا الموروث عن ماضينا بحكم تخلف نخبنا التي تدعي تمثيل الأصالة وانحطاطنا الموروث عن الاستعمار بحكم تخلف نخبنا التي تدعي تمثيل الحداثة؟ إن هذين الانحطاطين لا يحكمان إلا بالاستبداد والفساد سيطرة على أبعاد العمران جميعها مع غياب شبه مطلق للثقافة النقدية. وهما المحددان الأساسيان لحال الإعلام في لحظتنا التاريخية الراهنة وخاصة بحكم مستويي الصراع الجاري في أوطاننا مستواه الداخلي ومستواه الخارجي. فالإعلام ليس توظيفه مقصورا على الصراع بين صفي الثورة والثورة المضادة محليا فحسب بل إن هذا التوظيف نفسه تابع لتوظيف أشمل وأبعد غورا هو التوظيف في الصراع بين محاولات الأمة استئناف دورها التاريخي الكوني ومنذ قرنين كل أعداء هذه العودة من القوى الاستعمارية وأذيالها: ففي السياسة ينقلب الإعلام دعاية سياسية. وفي الاقتصاد ينقلب الإعلام إشهارا تجاريا. وفي التربية ينقلب الإعلام تكوينا إيديولوجيا. وفي الثقافة ينقلب الإعلام تزييفا قيميا. وفي أصل هذه الأبعاد جميعا أعني في حصانة الجماعة الروحية ينقلب الإعلام تهديما ذاتيا بالتثبيط الدائم لطموحات الأمة من أجل تأبيد التبعية الروحية التي تنتج عنها التبعيات في تلك الأبعاد الأربعة النابعة منها. تونس في 2013.10.23