من الثنائيَّات المتقابلة و المتضادَّة التي بنى عليها الله سبحانه الكون و سائر الخلق ثنائيَّة الصدق و ما يتفرَّع عنه من أمانة و نزاهة و وضوح و يقابله الكذب بروافده المختلفة كالمكر و الخداع و الغش و التقيَّة .. و أكثر ما تنشط و تتجلى هذه الثنائيَّة في عالم ساس ..يسوس ..سياسةٌ !! إن تاريخ هذه الثنائيَّة في ذلك العالم حافلةٌ بالمآسي و المكائد و الدسائس - مع الأسف - حيث كان الكذب و أخواته سلطان مطاعٌ و أمرٌ مُشاعٌ به تُنشَّأ الأحلاف صباحًا و تهدم مساءً و تقام العهود اليوم و تُخان في اليوم الموالي و تأتي التوافقات الآن و يُتنكرُ لها بإنقضاء ظروفها و موجباتها و لو بعد حين ... بدأها الشيطان و أعوانه مع أبينا آدم في الجنَّة فأخرجه منها ..مرورًا بقصَّة يوسف و إخوته و إمرأة العزيز الشهيرة بقصَّة "القمصان الثلاثة " و كانت عاقبتهم خُسرَا .. ثمَّ اأكاذيب بنو إسرائيل على سيدنا موسى عليه السلام ثمَّ إفتراءاتهم و أهل فلسطين على سيدنا عيسى عليه السلام ثمَّ عرب قريش و حليفاتها على أشرف خلق الله صل الله عليه و سلَّم ..و كانت النهاية ما دونته كتب التاريخ و السير و الروايات من تدمير على الكذب و أهله ما تعلمونه .. و تاريخ الكذب مع البشر مواصل منذ ذلك الزمان بلا إنقطاع سنَّة الله التي خلت في الذي سبقوا و الذين لمَّا يلحقوا بهم .. في المقابل خلَّد لنا التاريخ ملاحم و بطولات و مآثر كان الصدق و توابعه روَّادها و عليه بنيت أُسُسُها تجلَّت كأبهى ما يكون في قصص الرسل و الأنيياء و العظماء من خلقه سبحانه كالخليل إبراهيم عليه السلام و محمد بن عبد الله عليه الصلاة و السلام و الصديق أبا بكر رضي الله عنه و عمر الفاروق رضي الله عنه و الخليفة الراشد الخامس عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه و غيرهم كثير .كثير و كانت العاقبة نجاح و فلاح و نصر و تمكين طبقت شُهرتها الآفاق و دُونت قصصها في الأوراق .. يُستخلصُ أنَّ ما يُبنى على الكذب لا يدوم و إن دام لا يثمر و إن أثمر كان زقُّومًا و علقمًا على أهله و كانت عاقبته خسرانًا مُبينًا و هوانًا في الدنيا و في الآخرة حصرةً و ندامةً و نكالاً من الله جُل شأنه .. في مقابل ذلك ما يُؤسَسُ على الصدق يدوم و إن صَعُب تحصيله و يُثمر و إن حُورب أهله و تكون عاقبته عاقبة تجارة لا تبور و سلامة على مر الأزمنة و الدهور و صلاحُ يتبعه فلاحٌ في الدنيا و في الآخرة نصرٌ و فوزٌ و علوُ مقام و درجات في جنَّة الفردوس و قربٌ من الله سبحانه .. (حديث مرفوع) أَخْبَرَنَا الإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ فَوْرَكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ : أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ أَحْمَدَ الأَصْبَهَانِيُّ قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو بِشْرٍ يُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ قَالَ : حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مَنْصُورِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَنَّهُ قَالَ : لا يَزَالُ الْعَبْدُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى صِدِّيقًا ، وَلا يَزَالُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا ." إنَّ أفسد الأشياء في دنيا البشر الكذب فهو مُضيعٌ للمصالح مضللٌ للناس مفسدٌ للعلاقات مخربٌ للمواثيق و العهود مدمرٌ للأوطان و الأمصار مفقدٌ للثقة و الآمان مهلكٌ للعمران و البنيان ..بينما الصدقٌ نقيضه في كل شيء ضامنٌ للنجاح في الدنيا و الآخرة به تُبنى العلاقات و الصداقات و يحقق مراد الله سبحانه في الإستخلاف و التعمير و التشييد و العمل و تنشأ الثقة و التراحم و التواشج بين سائر البشر لا سيما من أبناء الوطن الواحد.. هذا التنظير لا يفيد في شيء إذا لم ينزَّل منزلته في الواقع و لم يصبح ناموسًا يعتمدُ و ديدنًا يتبعُ ..فما مأساة وطننا اليوم في تونس إلا غياب الصدق و كساد سوقه و "سيادة" الكذب" و نفوق سلعته حتى و إن قيل لكم " الصدق في القول و الإخلاص في العمل " فهو كذب مضاعفٌ و إفتراءٌ موغلٌ في المكر و الخديعة .. بل أصبح الكذب و مشتقاته خُللُ يفتخر بها و إتقانها و البراعة فيها ممَّ يُثمتدح به في السر و العلن و يُنظَّر له بين الأمم و الملل ... فلو كان الصدقٌ مُسيَّدٌ و بين الخلق مؤيَّدٌ لما خُولف بين النَّاس و لما ضربوا رأسًا برأس ..فالجميع يلبس القناع و يستبطنُ الخداع و يُخفي الحقيقة عمدًا و يتلوَّنُ أبدًا تقوده المصالح الشخصيَّة و الحزبيَّة و تُعمى بصره و بصيرته نوازعه الفرديَّة و غاياته الآحاديَّة حتى و إن أزهق من أجلها الأرواح و أغرق بني جلدته في الأحزان و الأتراح و أسقط بلدًا بأكمله في عالم الإرهاب و الرعب و الأشباح ... إنَّه -والحال هذه - لا دواء للقلوب و لا شفاء للعيوب إلا الإستعانة بالله سبحانه و التوكل عليه و تحري الصدق في الأمر كله و كشف كل مخبَّأ و فضح كل خيانة و تعرية كل مُتآمر و توضيح كل غموض لسائر النَّاس حتى تطمئنَّ النفوس و تهدأ الخواطر و يعلو منسوب الثقة بين سكَّان الوطن الواحد و تنشط المحاسبة و يُضرب على يد العابثين الكاذبين الحربائيين الفاسدين المفسدين .. من دون ذلك لن نُصلح و لن نَصلُح طال الزمن أو قصر بل سنستمر في دئرة كذب و خداع تفضي إلى أخرى أكبر منها و أفضع منها .