تونس:أعادت حادثة غرق مركب صيد تونسيّ يقلّ مهاجرين غير شرعيين نحو أوروبا يوم الأحد 19 كانون الثاني (يناير) الماضي قضيّة الهجرة السريّة إلى الواجهة. واستطاع خفر السواحل ومنقذون إنقاذ تسعة من ركاب الزورق الغريق الذي كان يقل 35 شاباً تونسيّاً من سكان الضواحي الشمالية للعاصمة وتحديداً جهات عين زغوان والبحر الأزرق ومنطقتي الحبيب والزوايدية. فيما انتُشلت جثث عدد من المفقودين الستة والعشرين. الحادثة الأخيرة التي خلفت أسى كبيراً لدى سكان العاصمة التونسيّة وضواحيها تعتبر الأسوأ منذ غرق مركب مماثل في عام 2007 خلّف قرابة 50 قتيلاً. وقال شهود عيان وعدد من أصدقاء القتلى في حادثة الغرق الأخيرة، إن 35 شاباً ممن ينتمون إلى مستويات تعليمية واجتماعيّة مختلفة تمكنوا من سرقة مركب من نوع «مورتيغانا» تعود ملكيّته إلى أحد سكان المنطقة بهدف الإبحار به إلى الضفة الأخرى. ويتراوح طول المركب الذي غرق على بعد 3 كيلومترات من السواحل التونسيّة بين 6 و8 أمتار ويجب ألا تتعد حمولته 13 شخصاً. قربُ تونس من السواحل الأوروبية يعتبر سبباً في إقدام عدد من أبنائها على الهجرة السريّة أو ما يطلق عليه محليّاً «الحرقان» للتخلص من البطالة المتفشية في صفوفهم والمشاكل الاجتماعيّة والاقتصاديّة والثقافية. وعادة ما تتعامل السلطات المحليّة بقسوة مع هؤلاء المهاجرين، فإلى جانب التشريعات الصارمة في هذا المجال، تقيم تونس تعاوناً مع عدد من الدول المغاربيّة والأوروبية لمكافحة الهجرة غير الشرعيّة أو الحدّ منها على الأقلّ ومنها مذكرة تفاهم «إعادة التوطين» الموقعة بين كلّ من ايطاليا وتونس والتي عُدّلت في عدّة مناسبات بهدف تخفيض عدد المهاجرين الذين تستقبلهم ايطاليا من ألفي مهاجر سنوياً إلى 600 فقط. وتزود إيطاليا السلطات التونسية بالمعدات والأجهزة والزوارق السريعة كما تشرف على دورات تدريبية سنوية لأفراد الشرطة المتخصصين في مكافحة الهجرة غير الشرعية وخفر السواحل وفرق الإنقاذ بالإضافة إلى تبادل المعلومات حول المهاجرين السريين ومن يؤويهم في كلا البلدين. وعلى رغم الإجراءات التي تنتهجها الحكومة التونسية لمكافحة الهجرة السرية استمرت المحاولات التي غالباً ما تنتهي بمأساة قتلى. ولا تخلو الصحف المحليّة وبرقيات وكالات الأنباء من أخبار شبه يوميّة عن محاولات مستميتة من شباب يرغبون في التوجّه شمالا إلى جزيرة «لمبدوزا» الايطالية التي لا تبعد عن ميناء محافظة «المهدية» شرق العاصمة سوى 60 ميلاً. سيف ونّاس 25 سنة، غادر مقاعد الدراسة مبكّراً وحاول ثلاث مرات متتالية الهجرة إلى إيطاليا عبر قوارب الموت. أودع سيف السّجن لسنتين بسبب محاولاته تلك ولكنّه مصمّم على إعادة الكرّة للمرة الرابعة إن سنحت الفرصة له. ويقول: «أعدل عن فكرة الهجرة التي يُسمونها غير شرعيّة عندما أجد شغلاً في بلادي أو عيشاً كريماً، أما وحالة التهميش والبطالة مستمرّة فليس أمامي إلا شدّ الرحال إلى أوروبا حيث العيش الكريم». بعض حالات الهجرة غير الشرعيّة «الناجحة» والتي تمكّن أبطالها من عبور المتوسّط والوصول إلى السواحل الأوروبية تشجّع الشباب الحالم بتحسين ظروفه المعيشية. فعبد الرحمن الزايدي من منطقة «جرجيس» الجنوبيّة تمكّن يوم 22 حزيران (يونيو) 2003 من شقّ عباب البحر باتجاه ايطاليا مع 14 من أصدقائه العاطلين عن العمل وهو اليوم في حال ميسورة ومتزوج بسيّدة ايطالية ويحمل جنسيّة البلد الذي استقبله. ويحمل علماء اجتماع السلطات مسؤولية تفشي ظاهرة الهجرة غير القانونيّة، في حين يتهمها البعض الآخر بالاقتصار على الحلول الزجريّة والأمنيّة دون معالجة أصل المعضلة وهي بطالة الشباب وانسداد آفاق المشاركة في نسج معالم مستقبلهم. وكشفت دراسة سابقة أعدها الباحث الاجتماعي مهدي مبروك والباحثة الاسبانية لورا فاليو بعنوان «الهجرة السرية في المغرب العربي» لمصلحة المنظمة العالمية لشؤون اللاجئين عن سيطرة حلم «الجنة الأوروبية» على عقول الشباب المهاجر. وأشارت الدراسة إلى أنّ ثلاثة أرباع المهاجرين في تونس يبحثون عن عمل, أما البقية، فموزعون بين دوافع سياسية، أو هاربون من جنح وجرائم، خصوصاً تلك المتعلقة بمخالفات مالية. ومع تشدّد السلطات المحليّة في مواجهة الشباب المهاجر سرّاً إلى أوروبا توجّه بعضهم، وخصوصاً في السّنتين الأخيرتين، إلى ليبيا التي تعتبر منفذاً جيّداً وأقلّ حراسة يوصل إلى الشواطئ الايطاليّة. نزار كمالي (25 سنة) دخل ايطاليا بحراً من طريق ليبيا التي وصفها ب «الممرّ الآمن». ويقول: «كانت ساعات عصيبة بالفعل، لكننا تمكنّا من الوصول إلى السواحل الايطاليّة بتسهيلات من ليبيين يشتغلون في هذا المجال في مقابل بدل ماديّ، السلطات في ليبيا ليست متحفّزة لقطع الطريق أمامنا كما هي الحال في تونس». ولطالما تحدّثت الصحف المحليّة عن الإيقاع بشبكات متكاملة من العاملين في مجال الهجرة غير القانونيّة خصوصاً في منطقة «بن قردان» الحدوديّة بين ليبيا وتونس، وتقول السلطات التونسيّة إنّ ليبيا تتعاون معها أمنياً في هذا المجال ونتيجة لجهود البلدين تمّ إحباط العشرات من محاولات العبور، لكن يبدو أنّ تصميم بعض الشباب على مغادرة البلاد نحو «الجنّة الأوروبية» لا يرهبه خفر سواحل أو تحذيرات من موت أو غرق. - اسماعيل دبارة الحياة - 09/02/09