نحو 53 ألف شخص حاولوا اجتياز الحدود البحرية خلسة نحو أوروبا منذ بداية العام    نبيل عمّار يتلقّى دعوة من نظيره القطري لزيارة الدّوحة وعقد الدّورة 8 للّجنة العليا المشتركة بين البلدين    النادي الإفريقي يعزّي رئيس الترجي في وفاة شقيقه    قفصة: تدعيم المدرسة الإبتدائية لالة بمعتمدية القصر بتجهيزات رقمية في إطار برنامج التربية الرقميّة    تشييع مليوني للرئيس الإيراني الراحل إبراهيم رئيسي في مدينة قم    سيدي بوزيد: برمجة ثرية في الدورة 21 لملتقى عامر بوترعة للشعر العربي الحديث    القصرين: تنظيم يوم جهوي للحجيج    سعاد الشهيبي تستعد لإصدار "امرأة الألوان"    في مهرجان "كان": كيت بلانشيت تتضامن مع فلسطين بطريقة فريدة    نواب الشعب يدعون الى استغلال الأراضي الفلاحية الدولية المهدورة لتجاوز أزمة الحبوب    رئيس منظمة ارشاد المستهلك يدعو إلى التدخل السريع في تسعير اللحوم الحمراء    اضطراب توزيع مياه الشرب بهذه المناطق    البريد التونسي ونظيره الموريتاني يُوقّعان اتفاقية تعاون    البطولة الانقليزية: نجوم مانشستر سيتي يسيطرون على التشكيلة المثالية لموسم 2023-2024    متعاملون: تونس تطرح مناقصة لشراء 100 ألف طن من قمح الطحين اللين    الاحتفاظ بتونسي وأجنبي يصنعان المشروبات الكحولية ويروّجانها    عاجل/ مدير بالرصد الجوي يحذر: الحرارة خلال الصيف قد تتجاوز المعدلات العادية وإمكانية نزول أمطار غزيرة..    عاجل : نائب يكشف : صور و فيديوهات لعمليات قتل موثقة في هواتف المهاجرين غير النظاميين    بطولة العالم لالعاب القوى لذوي الاعاقة : وليد كتيلة يهدي تونس ميدالية ذهبية ثالثة    الرابطة المحترفة الأولى (مرحلة تفادي النزول): حكام الجولة الحادية عشرة    ارتفاع أسعار الأضاحي بهذه الولاية..    موعد تحول وفد الترجي الرياضي الى القاهرة    معين الشعباني يكشف عن حقيقة إقالته من تدريب نادي نهضة بركان المغربي    عاجل : قتلى وجرحى في غرق ''ميكروباص'' بنهر النيل    وزير الفلاحة : أهمية تعزيز التعاون وتبادل الخبرات حول تداعيات تغيّر المناخ    إحداث خزان وتأهيل أخرين واقتناء 60 قاطرة لنقل الحبوب    مفزع/ حوادث: 22 حالة وفاة و430 مصاب خلال 24 ساعة..    عاجل/ آخر المستجدات في ايران بعد وفاة "رئيسي": انتخاب رئيس مجلس خبراء القيادة..    كوبا أمريكا: ميسي يقود قائمة المدعوين لمنتخب الأرجنتين    وفاة نجم منتخب ألمانيا السابق    في الملتقى الجهوي للمدراس الابتدائية لفنون السينما ..فيلم «دون مقابل» يتوج بالمرتية الأولى    إختفاء مرض ألزهايمر من دماغ المريض بدون دواء ماالقصة ؟    اصابة 10 أشخاص في حادث انقلاب شاحنة خفيفة بمنطقة العوامرية ببرقو    نقابة الصحفيين تحذر من المخاطر التي تهدد العمل الصحفي..    هام/ هذا عدد مطالب القروض التي تلقاها صندوق الضمان الاجتماعي..    صلاح يُلمح إلى البقاء في ليفربول الموسم المقبل    رئاسة الجمهورية السورية: إصابة أسماء الأسد بسرطان الدم    وزير الأعمال الإيطالي يزور ليبيا لبحث التعاون في مجالات الصناعة والمواد الخام والطاقة المتجددة    سليانة: معاينة ميدانية للمحاصيل الزراعية و الأشجار المثمرة المتضرّرة جراء تساقط حجر البرد    كان يتنقل بهوية شقيقه التوأم : الاطاحة بأخطر متحيل عبر مواقع التواصل الاجتماعي ...    عمرو دياب يضرب مهندس صوت في حفل زفاف.. سلوك غاضب يثير الجدل    الدورة 24 للمهرجان العربي للإذاعة والتلفزيون تحت شعار "نصرة فلسطين" و289 عملا في المسابقة    عاجل/ تركيا تكشف معطيات خطيرة تتعلق بمروحية "الرئيس الإيراني"..    قبلي: تخصيص 7 فرق بيطريّة لإتمام الحملة الجهوية لتلقيح قطعان الماشية    طقس الثلاثاء: الحرارة في انخفاض طفيف    49 هزة أرضية تثير ذعر السكان بجنوب إيطاليا    وزير الدفاع الأميركي: لا دور لواشنطن بحادثة تحطم طائرة رئيسي    منوبة.. إيقاف شخص أوهم طالبين أجنبيين بتمكينهما من تأشيرتي سفر    هل فينا من يجزم بكيف سيكون الغد ...؟؟... عبد الكريم قطاطة    أغنية لفريد الأطرش تضع نانسي عجرم في مأزق !    تقرير يتّهم بريطانيا بالتستر عن فضيحة دم ملوّث أودت بنحو 3000 شخص    الشاعر مبروك السياري يتحصل على الجائزة الثانية في مسابقة أدبية بالسعودية    نحو الترفيع في حجم التمويلات الموجهة لإجراء البحوث السريرية    تحذير من موجة كورونا صيفية...ما القصة ؟    لتعديل الأخطاء الشائعة في اللغة العربية على لسان العامة    ملف الأسبوع...المثقفون في الإسلام.. عفوا يا حضرة المثقف... !    منبر الجمعة .. المفسدون في الانترنات؟    عاجل: سليم الرياحي على موعد مع التونسيين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نهاية الأحزاب العربية!بقلم:محمد شاويش

محمد شاويش- برلين
الأطروحة التي أدافع عنها في هذا المقال تقول إن الأحزاب العربية قد انتهت، حتى لو بقيت هياكلها وأسماؤها، لقد انتهت لأنها فقدت قوتها المحركة ولم يعد أعضاؤها أنفسهم مقتنعين بأن بإمكان أحزابهم تنفيذ مهامها التي نشأت نظرياً على أساسها.
و"نهاية الأحزاب" لا تعني أن الناس فقدت اقتناعها بصحة الأهداف النظرية لهذه الأحزاب، بل تعني أن هذه الأحزاب اقتنعت بالممارسة أنها ما عادت قادرة على أداء مهامها، وهذا اليأس لا بد أن ينعكس على شكل تفكك للحزب، على حين يكون أعضاء الحزب في فتوته ممتلئين بالقناعة بأن هدفهم من جهة محق ومن جهة ممكن بفعلهم هم وفقاً للتكتيك الذي اختاروه لتحقيق الهدف. هل هناك شك كبير الآن في أن أحزاباً ذات تراث نضالي عريق قد انتهت حتى لو كانت ما زالت مستمرة كهياكل وأسماء من نوع "الحزب القومي الاجتماعي السوري" و "حزب البعث" بتلاوينه العديدة الموجودة وغير الموجودة في السلطة، و"الأحزاب الشيوعية" على اختلافاتها وانشقاقاتها؟ ومن الغني عن البيان أنني لا أقرر هذه القناعة بانتهاء هذه الأحزاب من باب الشماتة أو لإرضاء خصومها الذين كثيراً ما يكونون بدؤوا حياتهم بحال لا يقل عن أسوأ حالات نهايتها سوءاً في حين لم يمروا قط بحالاتها النبيلة التي كانت! ولا يعني هذا الرأي أيضاً إنكاري لصحة الأهداف العامة التي حددتها هذه الأحزاب لنفسها (من نوع "الوحدة السورية والعربية" و "العدالة الاجتماعية" و"الاستقلال السياسي والاقتصادي").
والاستثناء من هذه الأطروحة هو الأحزاب الإسلامانية الكبيرة في مصر والأردن والمغرب، فهي لا زالت لها جماهير متحمسة، ولكني أعتقد أن هذا الاستثناء مؤقت لأن برنامج هذه الأحزاب عاجز عن الإجابة على المشاكل الكبرى للمجتمعات التي تعمل في صفوفها، ونهايتها الفعلية لا تتأخر للأسف بمجرد استلامها للسلطة (وهو ما رأيناه في حالة إنقاذيي السودان)، وإن كان هذا لا يعني أن كثيراً من الكوادر الذكية في هذه الأحزاب لن يستفيدوا من تجاربهم ولن يستطيعوا تطوير أشكال أكثر مناسبة للواقع الاجتماعي، وهذه الملاحظة تنطبق على الكوادر النزيهة الشريفة الذكية في الأحزاب العربية القديمة كلها.
يستطيع الباحث إن شاء مراجعة تاريخ نشوء ظاهرة "الأحزاب السياسية" في الغرب، والبداية المفيدة لغرضنا هنا هي أن ندعو القارئ لملاحظة أن مفهوم "الحزب" عندنا في المشرق العربي اختلف عن مفهومه الغربي، وإن لم يخل طبعاً من محاولة محاكاته أحياناً.
وبالتحديد نشأت محاولة لمحاكاة الأحزاب البرلمانية الغربية في المراحل القصيرة زمنياً التي شهدت قدراً من "اللبرالية" في السياسة، وكان ذلك في فترات توازن معين بين القوى الأجنبية والمحلية أتيحت فيها لنخب اجتماعية معينة الفرصة للتنافس على السلطة عبر الانتخاب إلى البرلمان في بعض البلاد نصف المستعمرة أو المستقلة ( تجارب "الكتلة الوطنية" و "حزب الشعب" منذ ثلاثينات القرن العشرين
في سوريا حتى الوحدة 1958، تجارب "الوفد" و"أحزاب الأقلية" في مصر منذ ثورة 1919 حتى استلام الضباط الأحرار للسلطة عام 1952، وتجارب مماثلة في السودان والمغرب بعد الاستقلال).
هذه المحاكاة لم يطل بها الأمد فقد أخلت هذه الأحزاب برلمانية الطابع الساحة مختارة أو مكرهة "للشرعية الثورية" المتمثلة في لقاء بين "أحزاب" بمعنى مختلف وضباط عقائديين استخدموا الجيش لإيصال برنامجهم الحزبي إلى السلطة التي لا تتبع الأسلوب البرلماني المعتاد في إقناع الناس ببرامجها، إذ حكمت على البرلمانية حكماً مبرماً بأنها نظام معاد لمصالح الأمة والجماهير الغفيرة، ولا يخدم إلا مصلحة الطبقات الثرية وامتدادها الأجنبي الاستعماري، والنقد الماركسي للديمقراطية البرجوازية كان طبعا في طليعة الجبهة الفكرية مع هذا التوجه اللبرالي الذي انهار بدون دفاع عملياً، من جهة للعجز الفادح للأحزاب البرلمانية عن حل المسائل الاجتماعية المستعصية، ومن جهة أخرى لضعف انغراس الفكر اللبرالي في المجتمع، ولم تكن هناك بعد تجربة سلبية مع البدائل غير اللبرالية تمنع الناس من تأييد الخيارات الانقلابية (لعل بعض القراء يذكر أنه في ذلك الزمان لم يكن مفهوما "الانقلاب" و"الثورة" قد تمايزا بعد في العربية، وكلمة "انقلاب" لم تزل تعني "الثورة" في الفارسية كما نعلم!)، وقد ذكرنا النقد الماركسي، لكنه لم يكن وحده المسؤول عن انفضاض الطلائع السياسية الفاعلة عن الخيار اللبرالي، فالفاشية الأوروبية أيضاً كانت تقدم نماذج مختلفة وجدت معجبين عندنا (في أمثلة "القومية الاجتماعية" السورية و"مصر الفتاة" المصرية، بل كان هناك بعض التأثر من حيث اندماج الشكل العسكري مع التنظيم السياسي، في حركة الإخوان المسلمين وحتى في حزب الوفد الذي ألف نوعاً من الميليشيا أيضاً-"القمصان الزرقاء")، وقد أعرب الأستاذ حسن البنا عن ضيقه بأحزاب عصره ودعا للتخلص منها وذلك في "رسالة المؤتمر الخامس"(1937)، فعلى حين قرر أن "الباحث حين ينظر إلى مبادئ الحكم الدستوري التي تتلخص في المحافظة على الحرية الشخصية بكل أنواعها، وعلى الشورى واستمداد السلطة من الأمة، وعلى مسؤولية الحكام أمام الشعب ومحاسبتهم على ما يعملون من أعمال، وبيان حدود كل سلطة من السلطات، هذه الأصول كلها يتجلى للباحث أنها تنطبق كل الانطباق على تعاليم الإسلام ونظمه وقواعده في شكل الحكم.
ولهذا يعتقد الإخوان المسلمون أن نظام الحكم الدستوري هو أقرب نظم الحكم القائمة في العالم كله إلى الإسلام، وهم لا يعدلون به نظاماً آخر" نجده من جهة أخرى يرى أن "النظام النيابي، بل حتى البرلماني، في غنى عن نظام الأحزاب بصورتها الحاضرة في مصر(...) كثير من البلاد الدستورية البرلمانية تسير على نظام الحزب الواحد وذلك في الإمكان" (لا أعرف في الحقيقة ما هي البلاد التي أشار إليها الأستاذ هنا، ففي ذلك الزمان كانت إيطاليا وألمانيا وإسبانيا وحدها البلاد التي يسودها نظام الحزب الواحد في أوروبا، علاوة على الاتحاد السوفييتي طبعاً، على حين كانت فرنسا محكومة "بالجبهة الشعبية" التي فازت في انتخابات عام 1936وقد أحتمل مجرد احتمال أنه كان يرى في نظامي إيطاليا الفاشية وألمانيا النازية نظامين دستوريين برلمانيين، فإن كان الأمر كذلك ربما نعزوه إلى ضعف المعلومات عن تلك البلاد في مصر آنذاك، وهناك احتمال أنه يشير إلى تركيا أيضا) والحل الذي ارتآه الأستاذ المرشد لمشكلة وضع الأحزاب التي ليس لديها برامج ومناهج للإصلاح، ولا تعرف الفارق بين حرية الرأي والتفكير وبين التعصب للرأي والخروج على الجماعة والعمل الدؤوب على توسيع الانقسام في الأمة وزعزعة سلطة الحكام، وهو ما تستلزمه الحزبية ويأباه الإسلام الداعي إلى الوحدة والتعاون، هو أن يحل الملك هذه الأحزاب "فتندمج في هيئة شعبية واحدة تعمل لصالح الأمة على قواعد الإسلام" وليست هذه الدعوة لصالح أحزاب ضد أحزاب كما كان "الوفد" يظن مثلاً . ويختصر الأستاذ المرشد رأيه بعبارة جازمة "العلاج الحاسم الناجح أن تزول هذه الأحزاب مشكورة فقد أدت مهمتها وانتهت الظروف التي أوجدتها، ولكل زمان دولة ورجال كما يقولون".
ولا شك أن هذا الرأي لم يكن رأي البنا وحده، فقد كان سمة لذلك العصر، ومن المهم أن نلاحظ أن البنا لم يعدّ الهيئة التي أسسها وقادها في طريق النجاح الجماهيري منقطع النظير وهي "الإخوان المسلمون" من جملة هذه الأحزاب المراد حلها! وحين سينفّذ بعد بضعة عشر عاماً الضباط الأحرار هذه "التوصية" بحل الأحزاب، وإنشاء هيئة واحدة مكانها، سيستثنون الإخوان فعلاً من قرار الحل، ولكن لفترة وجيزة: حتى "حادث المنشية" عام 1954 الذي نتجت عنه الكارثة الكبرى في حياتنا السياسية الحديثة، إذ من هنا بدأ الانفصام الكبير بين التيارات الوطنية القومية وبين من سموا أنفسهم "الإسلاميين"، مما قاد الأخيرين إلى خط سعودي- أمريكي مغترب عن المعارك الكبرى للأمة العربية في الخمسينات والستينات، ولولا هذا الصدام لاتخذ التاريخ وجهاً آخر، إذ لم يكن توجه إخوان مصر حتى ذلك التاريخ يختلف هذا الاختلاف الجذري الذي وجدناه لاحقاً عن التوجه الوطني العام في بلادنا، ومن المصائب التي جلبها هذا الصدام نزعة العداء للدين بحد ذاته عند كثير من الحركات الوطنية واليسارية، ومن هذه المصائب أيضاً الأهاجي العجيبة التي صدرت عن الإخوان بحق كل نزعة ترفع راية "الوطنية" على أنها راية وثنية تتناقض مع مبدأ "الجهاد في سبيل الله وحده"، ولا شك أن قارئ فكر البنا سيرى عياناً أنه لم يكن يفكر بهذه الطريقة، وأنها نتاج نكد لتلك الفترة التالية النكدة من الصدام مع الأنظمة القومية، وإذا كان البنا قد أسس "الأيديولوجيا الإسلامانية" في المؤتمر الثالث للجماعة عام 1935 بما هي أيديولوجيا حديثة منافسة لأيديولوجيات أخرى كالاشتراكية واللبرالية والقومية، وبهذا لم تعد نزعة دينية اجتماعية مألوفة وموروثة بل أصبحت فريقاً أيديولوجياً في المجتمع ضمن فرق أخرى، وهو معرّض كغيره للصعود والنزول من حيث النفوذ، فإن الطابع المعادي جذرياً للفرقة الأيديولوجية التي ستصبح الأهم في العقود الثلاثة اللاحقة وهي الأيديولوجيا القومية لم يظهر على عهد البنا، ولم يكن ظهوره حتمياً لولا الصدام المأساوي مع التظام الناصري.
إن الأحزاب البرلمانية التي ضاق بها البنا ذرعاً اختفت بالفعل على يد فاعلين سياسيين آخرين من أبناء جيله، ولكن المنطقة كانت قد استوردت نوعاً آخر من التنظيمات السياسية الثورية أطلقت على نفسها اسم "الأحزاب" أيضاً، وهذا الاسم مصدر للالتباس، لأنه يمكن عده في الحقيقة نوعاً من "المشترك اللغوي" أي اتحاد كلمتين في اللفظ مع الاختلاف في المعنى، وهو ما حصل لكلمتين أخريين من هذا المجال الدلالي نفسه هما كلمتا "سياسي" و "سياسة".
في روسيا القيصرية استورد الثوريون أشكالاً سياسية من غرب أوروبا، وأهمها كان شكل "الحزب الاشتراكي الديمقراطي"، وإذا كانت الحركات الثورية في فرنسا أخذت شكل الأجنحة المسماة بأسماء "اليمين" (الجيرونديون في ثورة 1789) و"اليسار" (اليعاقبة في تلك الثورة وقد يسمون "الجبل" وكل هذه التسميات جاءت مصادفة نسبة إلى أماكن جلوسهم في الجمعية التشريعية) وتحولت أشكال هذه الحركات لاحقاً وفقدت حدتها الجذرية دون أن تفلح فرنسا في إيجاد نظام سياسي برلماني مستقر تمارس فيه "السياسة" بمعناها اللبرالي الذي مورس منذ زمن طويل عند جارتها إنجلترا، فإن الشكل الثوري للأحزاب سينشأ فعلياً في ألمانيا مع نشوء "الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني" الذي تتلمذ عليه الماركسيون الروس وفي مقدمتهم لينين، ولكن الحزب الألماني تحول عن حاله الثوري في عهد إنجلز الذي ابتهج في آخر حياته لنمو الحزب من حيث القوة البرلمانية بحيث أن "عضلات الحزب" التي تقوى عبر النضال البرلماني جعلت من غير المفيد له أن يلجأ إلى الأساليب الثورية التي اعتادت ألمانيا وغيرها من بلاد أوروبا أن تستوردها من فرنسا التي كانت عاصمتها باريس مغرمة بنصب المتاريس بين فترة وأخرى!
هذه النزعة البرلمانية الإصلاحية كانت غير مناسبة للثوريين الروس، وقد عكس انشقاق الاشتراكيين الديمقراطيين الروس مطلع القرن العشرين بين "بلاشفة" و "مناشفة" علامة من علامات عديدة على أن روسيا تسير بطريق خاص بها.
رغم الإقرار النظري للينين بحسنات الديمقراطية البرجوازية مقارنة بالاستبداد القيصري الروسي، فإن لينين كان الشخص الذي سيقود محاولة بناء نظام ديمقراطي برجوازي في روسيا في شباط عام 1917 إلى حتفها، ومع استلام البلاشفة السلطة في تشرين الثاني (الأول بالتقويم الروسي القديم) عام 1917 سيظهر شكل "الحزب النقيض" لمعنى "الحزب" المعروف في النظام البرلماني (كان الشيوعيون يؤكدون دوماً على أن حزبهم هو "من طراز جديد").
وهذا الشكل الجديد المبني على مركزية صارمة (وصلت إلى درجة الكمال مع وصول ستالين عملياً عام 1923 ورسمياً عام 1924 إلى السلطة) تكفر بالحريات العامة المألوف في الديمقراطيات الغربية وبنظام تعدد الأحزاب والانتخابات الحرة سيستورد إلى بلادنا ليس على شكل "أحزاب شيوعية" فقط، بل على شكل أحزاب غير شيوعية تأثرت بالتجربة السوفيتية وطبقتها عند وصولها إلى السلطة، وهي أحزاب البعث في سوريا والعراق، وجبهة التحرير في الجزائر، وأما الشكل الناصري "الاتحاد الاشتراكي العربي" والمحاولة المتأخرة لبناء "التنظيم الطليعي" فقد ظلت أقل صرامة في الأخذ بهذا الشكل، ولكن مصر كانت عملياً عند وفاة عبد الناصر نظاماً سياسياً بلا أحزاب (أو إن عددنا "الاتحاد الاشتراكي" حزباً، ولا أراه كذلك، ستكون "نظام حزب واحد").
استوردت بلادنا شكل "الحزب الثوري" اعتباراً من عشرينات القرن العشرين الميلادي، وقد استولت هذه الأحزاب الثورية على السلطة جاعلة نموذج الحزب الشيوعي السوفيتي القائد نموذجها الهادي في ربط المجتمع بالحزب الواحد و"تنظيماته الشعبية" مع مصادرة كل تجمع مستقل عن السلطة، وقد شرعنت لسلطتها التحكمية المطلقة بضرورة التنمية ومواجهة الخطر الصهيوني، لكن التحولات الداخلية ضمن هذه الأحزاب قاد إلى ظهور شرائح جديدة ضمنها طلقت المبادئ الأصلية وقررت التحول إلى نوع جديد من الطبقات المالكة التي تجمع معاً شكل الطبقة المصادرة للثروات القطرية لحسابها الخاص وبتوزيعها مع الأزلام كل بقدره وشكل الإدارة البيروقراطية الاستبدادية المطلقة معاً، وهذا كان بلا شك خروجاً بيناً على النموذج السوفيتي الشبيه شكلاً الذي كانت فيه إمكانية تكوين طبقة مالكة بمعنى الكلمة أمراً غير متيسر للشريحة الحزبية الحاكمة، ومن الاختلافات المهمة بين النموذجين الدور المفقود للعسكر في السلطة عند السوفييت، والأهم من كل هذا أن هذه الطبقات المالكة الجديدة لكي تحافظ على سلطتها في وجه التهديدات المحتملة من المجتمع والجيش لجأت لاستزلام عصبيات عشائرية وعائلية وطائفية لم يكن الحزبيون الأوائل ليقبلون التعامل معها.
في هذه النقطة انتهت هذه الأحزاب عملياً حتى مع بقائها نظرياً كهياكل للمنتفعين دون استبعاد وجود عناصر مخلصة في هذه الأحزاب تمارس عملها كإدارة، ولكن وجودها هو من النوع الفردي على ما يظهر، وهذا ما يتجلى في إخفاق محاولات الإصلاح (مثل تلك التي بدأ بها الرئيس السوري الشاب بشار الأسد).
في الساحة الفلسطينية تحولت بعد هزيمة 1967 التنظيمات التي تكونت منذ الخمسينات بهدف تنظيم العمل على مستوى قومي لتحرير فلسطين إلى منظمات مسلحة، وباستثناء فتح كان المثل الأعلى لهذه التنظيمات هو الأحزاب الشيوعية التي قادت بلادها إلى التحرر من الاستعمار(كالحزب الشيوعي الفيتنامي والصيني وحركة كاسترو في كوبا التي تحولت لاحقاً بعد انتصار الثورة إلى حزب شيوعي) وفي كل منظمة فلسطينية يسارية (وبالتحديد في الجبهتين الديمقراطية والشعبية) كان هناك تنظيم سياسي داخلي يسمى "الحزب"، وقد ظل العمل في "الحزب" في حدود علمي بدون نتائج عملية على هذه التنظيمات التي فوجئت بانهيار مثلها الأعلى السوفييتي مما قادها إلى انشقاقات أو انخفاض كبير في العضوية والجماهيرية، وهذا ما جرى كما نعلم مع الأحزاب الشيوعية العربية أيضاً.
المنظمات الفلسطينية المسلحة فقدت أرضية عملها من الخارج بعد أيلول 1970 في الأردن، وبدأت مصاعب العمل المسلح تتجلى في لبنان إلى أن تحول هذا العمل بعد 1978 إلى عمليات متفرقة ذات تأثير ذي طبيعة إعلامية أكثر مماهو ذو طبيعة عسكرية، وقد تلاشى الكفاح المسلح كما هو معلوم بعد اجتياح 1982 تاركاً هذا الكفاح لقيادة حزب الله الصاعد الذي اكتسب بالتدريج وبالتنسيق مع الحكومتين الإيرانية والسورية صفة صاحب الحق الحصري في العمل العسكري ضد الاحتلال الصهيوني في جنوب لبنان.
لنقل كحصيلة أولية لهذا الاستعراض أن الأحزاب العربية قد انتهت فعلياً كأحزاب جماهيرية وانتهت مشروعيتها مع تخليها عن أهدافها التاريخية وتحولها إلى إدارات لأنظمة إقليمية عملياً متصالحة مع نظام التجزئة الذي انطلقت ضده، وهذا لا يعني أننا يجب أن نتنازل كمواطنين لا نزال نؤمن بصحة الأهداف العامة التي وضعتها هذه الأحزاب لنفسها عن مكتسبات واقعية في الدول التي لا زالت هذه الأحزاب حاكمة فيها، من ذلك مثلاً التعريب في سوريا للمناهج والفكر القومي في المدارس، والتعامل مع سوريا بما هي "قطر عربي سوري" لا بما هي "أمة سورية" أو كما يريدنا اللبراليون الجدد أن نقول "مجموعة من الإثنيات والثقافات" (انظر مشروع دستور المحامي أنور البني، ولا يمنعنا التناقض مع هذا التعريف لسوريا عنده من أن نطالب بإطلاق سراحه وجعل الصراع معه صراعاً فكرياً لا تستعمل فيه قوة السلطة).
إن الأحزاب المعارضة العربية بمجملها قد انحدرت، جزئياً بسبب القمع الوحشي، ولكن أيضاً لأسباب بنيوية متعلقة بها وبالمجتمع، إلى وضع تجمعات صغيرة من الأفراد الذين لا فاعلية لهم، ولا يبدو خطابهم خطاباً ذا أثر اجتماعي حتى لو فرضنا انزياح القمع والعرقلة السلطويين.
وهذا ما يبدو جلياً حتى في بلاد يسمح فيها ضمن عوائق كبيرة بالوجود الاسمي للأحزاب المعارضة من نوع الأردن ومصر واليمن.
ثمة أحزاب لا زالت لها جماهيرية تدعمها كالإخوان في مصر والأردن، وقد يبدو هؤلاء على أنهم حجة معاكسة لأطروحة هذا المقال القائلة إن الأحزاب العربية قد انتهت، ولكن ما أراه أن هذه الأحزاب معتمدة على الأساس الواهي نفسه الذي اعتمدت عليه الأحزاب العربية التي نرى الآن نهايتها، فهي تعتمد على آليات سلطوية وقانونية (تطبيق قوانين مشتقة من الشريعة الإسلامية) لحل مشكلة هي في الأساس حضارية لا تستطيع أي بنية سياسية فوقية حلها ما لم تدعم بانقلاب جذري في الأساس الاجتماعي، وهو الانقلاب الذي يراهن عليه كاتب هذا المقال عبر مفهوم جديد للنهضة يستند للناس وليس للتعبيرات السياسية الفوقية.
لو لجأنا أخيراً إلى المنظمات التي تبدو كأنها لا زال لها وظيفة اجتماعية، وهي منظمات المقاومة الفلسطينية بالداخل، فسنرى بوضوح التآكل الكبير في شرعيتها وفاعليتها، بدأ هذا التآكل منذ عهد بعيد في حركة فتح التي تتخبط بين برنامج سياسي يتدهور باستمرار إلى ما هو أبعد من حدود الاستسلام، وبين قيادات متسلطة فاسدة فقدت كل اعتبار لها عند الشعب، ولم تستطع القيادات المناضلة المتبقية (مروان البرغوثي مثلاً) أن تعمل شيئاً لتستعيد منها ولو قليلاً من زمام المبادرة، والسبب هو أن هذه القيادات المناضلة أيضاً لا تجد البرنامج المقنع الذي تستطيع عبره أن تلف الناس حولها لإسقاط نفوذ القيادات المتنفذة المدعومة عربياً ودولياً وأحياناً صهيونياً ، مع أن الهدف النهائي للصهاينة كما صار واضحاً يتلخص في الإبادة المعنوية إن لم تمكن المادية للشعب الفلسطيني بكل شرائحه حتى المساومة منها.
وتقدم تنازلات حركة حماس النظرية الكبيرة الأدلة الكافية على أنها سائرة على خطى حركة فتح، وإن الصدامات العسكرية التي وقعت في غزة بين حركتي حماس والجهاد الإسلامي لدالة دلالة كبرى على المسيرة المحزنة لهذه الحركات التي ضمت أشجع شباب الشعب الفلسطيني وأكثرهم مقدرة على التضحية.
لقد انتهى عصر الأحزاب العربية، ولكن عصر النضال العربي في سبيل مستقبل حضاري ناهض لم ينته، وإننا لنرى طلائع فكر جديد تجلى في الأشكال الجماهيرية المبتكرة في الانتفاضة الفلسطينية الأولى، وفي إضرابات مصر وتحركات حركة "كفاية"، وفي حركات جنينية نشأت من الأساس الاجتماعي في سوريا لم تستند إلى تراث الأحزاب بل إلى عمل الناس الذين قرروا إنهاء عهد التوكل على الأحزاب السياسية والمراهنة على مشروع وحيد حمله القرن الماضي هو مشروع "السلطة المنقذة" (تتجلى هذه الحركات على شكل جمعيات أهلية عفوية وحركات للعمل الشعبي غير المؤطر بأحزاب سياسية).
لا توجد "سلطة منقذة" بل الأرضية الاجتماعية حين تتغير هي التي تفرض الأشكال السياسية الملائمة لنهضة ولنصر.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.