ألمانيا سبعة أشهر تفصلنا عن موعد الإنتخابات في ألمانيا (27.09.2009) وأهمّ ما يواجه السياسي الألماني في هذه الفترة هو التحدي الإقتصادي وتبعاته الإجتماعية والسياسية، هذا التحدي الذي تقف أمامه ألمانيا لأول مرة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. ورغم أن جهود التصدي لتبعات الأزمة المالية قد بدأت منذ نهاية السنة الماضية إلا أن الخوف والإنتظار المتوجّس هي السمات البارزة التي تخيم بظلالها على سوق الشغل والمال والسياسة. 1 إجراءات مواجة الأزمة المالية لا شك أن الأزمة المالية ليست قضية ألمانية بحتة ولكنها أزمة عالمية تهدد الدول الصناعية والرأسمالية خاصة ، إلا أنها تأخذ في ألمانيا طابعا خاصا ، نظرا لثقل ألمانيا الإقتصادي وللدور الذي ينتظر منها أن تقوم به في الحفاظ على إستقرار الإتحاد الأوروبي. ولهذا فإنّ ألمانيا بدأت في محاولات التصدي للأزمة المالية منذ نهاية السنة الماضية 2008، فكان برنامج الإنعاش الإقتصادي الأول في ديسمبر / كانون الثاني ، ثمّ مشروع الإنعاش الإقتصادي الثاني والذي ستضخ فيه الدولة مبلغا ماليا ضخما يقدر بخمسين مليار دولار توجه أساسا إلى إصلاحات في البنية التحيتة من مدارس وطرقات ومحطات قطارات وغيرها من مؤسسات الخدمات العامة ، إضافة إلى التوجه لدعم قطاع صناعة السيارات، وتخصيص مظلة مالية لحماية القطاع البنكي ، كما لم يغفل هذا البرنامج العائلة والأسرة إذ خصص لهذا الغرض ميزانية مهمة. (للإطلاع على التفاصيل يمكن العودة إلى مقال لي نشرته الفجر نيوز بتاريخ 13.01.2009 بعنوان “تفاصيل خطة الإنعاش الإقتصادي في ألمانيا”) ولكن هذا البرنامج والذي تمت المصادقة عليه في البرلمان وفي مجلس الولايات لم يبدأ عمليا في التأثير على الساحة الإقتصادية ويتوقع الخبراء المتفائلون أن التأثير لن يكون إلا في النصف الثاني من هذه السنة 2009. 2 التحدّي الإقتصادي بنوك على حافة الإفلاس، شركات صناعة السيارات تواجه صعوبات جمة، عروض وطلبات منخفضة ينسبة فاقت 40 بالمائة ، إفلاس لعدد من المؤسسات المالية والصناعية... هذه هي أهم سمات الوضع الإقتصادي في ألمانيا. فقطاع البنوك وشركات التأمين يمرّ بصعوبات كبيرة وصلت فيه عديد المؤسسات إلى العجز الكلي أو الوقوف على حافة الإفلاس وتسجيل خسائر مالية مرتفعة. فالمؤسسة البنكية الكبرى هيبوريال ستيت Hypo Real State (وهي مؤسسة بنكية في حجم ليمان براثر التي كانت السبب المباشر في اندلاع الأزمة المالية العالمية) مهدّدة بالإفلاس رغم الدعم الحكومي المقدم لها، كما أن العديد من المؤسسات المصرفية البنكية سجلت في الربع الأخير من السنة الماضية خسائر قياسية “فالدويتش بانك”، أكبر مؤسسة بنكية خاصة في ألمانيا ، سجلت خسائر مالية كبيرة بلغت أكثر من 3,5 مليار يورو. كما أعلن دريسنر بنك أنه تكبّد خسائر بقيمة 6,3 مليار يورو عام 2008 بسبب الأزمة التي ضربت الأسواق المالية، وهو ما قد يؤدّي إلى تسريح عاملين في البنك الذي باعته مجموعة أليانز الألمانية العملاقة للتأمين إلى كوميرتس بنك العام الماضي والذي بدوره أعلن عن خسائر قياسية. هذا العجز المالي يجعل هذا الملف يتصدّر الأولوية في السياسة الألمانية. وأمّا في مجال صناعة السيارات فإن هذا القطاع يمر بصعوبات كبيرة طالت لحد الآن الشركات التابعة لعملاق صناعة السيارات جنرال موتورز GM (أوبل Opel وسابSaab) حيث تقف هذه الشركات على حافة الإفلاس، أمام هذا الوضع طلبت الحكومة من أوبل إعداد خطة دقيقة لإعادة هيكلتها كشرط لدعمها ، وفي هذا الإطار تجدر الإشارة إلى أن هناك جدلا يدور حول إمكانية انفصال هذه الشركة عن المؤسسة الأم جنرال موتورز، الذي يستجدي هو الآخر الحكومة الأمريكية حنى تنقذه من الإنهيار، إلا أن هذا الإنفصال ليس بالأمر الهين. ويعكف وزير الإقتصاد الجديد كارل تيودور تسوجوتنبرج على دراسة ملف أوبل. وكانت شركات ألمانية أخرى في صناعة السيارات ، أساسا مرسيدس وبي إم دبليو، قد أعلنت عزمها اختصار أوقات العمل وخفض الإنتاج لمواجهة التراجع الحاد في المبيعات، خاصة في الأسواق المهمة مثل غرب أروبا وأمريكا واليابان. كما اضطرت مجموعة فولكس فاجن الألمانية، كبرى الشركات الأوروبية في صناعة السيارات، لخفض ساعات العمل في العديد من مصانعها وذلك لأول مرة منذ 25 سنة. وقد شملت هذه السياسة أيضا شركة أودي التابعة لشركة فولكس فاجن . ولكن إلى جانب هذه الأزمة فإن برنامج الإنعاش الإقتصادي الذي صادق على تشجيع شراء السيارات الجديدة بمبلغ مالي قيمته 2500 يورو مقابل التخلص من السيارة القديمة ساهم في زيادات المبيعات بشكل كبير. إن السمة البارزة للقطاع المالي والبنكي وأيضا لقطاع السيارات هي البدء في تخفيض الإنتاج واختصار ساعات العمل وربما تسريح العمال وهو ما يؤدي إلى تحد وأزمة إجتماعية 3 التحدّي الإجتماعي كان للأزمة المالية والإقتصادية وللصعوبات التي تعيشها المؤسسات والشركات الصناعية تأثير مهم على سوق العمل لأنّ انخفاض نسبة العروض والطلبات جعل الشركات تخفض الإنتاج وتحد من ساعات العمل وهو ما يعني ضعف دخل العمال الشهري ، أضافة إلى أن شركات اخرى قامت عمليا بتسريح عدد كبير من العمال وهو ما جعل نسبة العاطلين عن العمل ترتفع في شهر فبراير /شباط 2009 لتصل إلى أكثر من 3,5 مليون شخص أي بزيادة 63 ألف عاطل عن العمل مقارنة مع شهر يناير من نفس السنة حسب تقرير مكتب العمل الإتحادي الذي عرضه يوم الخميس 26. شباط/فبراير 2009 . أدى هذا الوضع إلى أحتجاجات وإضرابات في أغلب المدن الصناعية خاصة لدى عمال أوبل. 4 التحدي السياسي آثرت أن يكون تحليل الوضع السياسي في العنصر الأخير نظرا لأن التحدي المالي والإقتصادي وتبعاته الإجتماعية التي أشرنا إلى أهمّ مظاهرها باختصار هي المهمّة الأساسية والتحدّي المطروح على السياسي الألماني ولهذا فإن أغلب التصريحات السياسية التي بدأت هذه الأيام في إطار الإستعداد غير المباشر للإنتخابات القادمة يدور معظمها حول تقديم تصوّرات الحل الأنجع للخروج من الأزمة بسلام فالتحالف الحاكم الذي يجمع بين الإتحاد المسيحي والحزب الديمقراطي الإشتراكي يسعى للمحافظة على الإستقرار السائد حاليا والمشوب بشيء من الخوف والحذر من تفشي الأزمة المالية والسقوط في انفلاتات إجتماعية . ومن الملفت للإنتباه أن يوم أربعاء الرماد السياسي الموافق 25.02.09، وهو اليوم الذي عادة ما يتمّ فيه توجيه نقد لاذع إلى الخصوم السياسيين ، مرّ بدون هجومات كبرى تذكر . فلقد اختارت المستشارة الألمانية ورئيسة الحزب الديمقراطي المسيحي أن توجها حديثها إلى الشعب وتحاول طمأنته ودافعت عن برنامج الإنعاش الإقتصادي واعتبرته سفينة النجاة من الأزمة. وأما حليفها من الحزب المسيحي الإشتراكي ورئيس مقاطعة بافاريا الحرة (حوالي 13 مليون ساكن) فإنّه كان منشغلا بالوضع الداخلي الصعب لمقاطعته وحتى هجومه على الحزب الإشتراكي الديمقراطي لم يتّسم بالحدة المعهودة في نقده للأحزاب الأخرى كما كان الحال أيام فرانس جوزيف شتراوس ، المؤسس الفعلي لتقليد إربعاء الرماد السياسي، وخلفه إدموند شتويبر. أما مرشح الحزب الإشتراكي الديمقراطي للمستشارية في الإنتخابات القادمة ووزير الخارجية الحالي فرانك والتر شتاينماير فإنّه حرص هو الآخر على الإلتفاف اكثر بالعمال ، وشارك في إضراب عمال أوبل وساهم في المهرجان الخطابي الذي أقيم على هامش هذا التجمّع بكلمة ساند فيها العمال ولكن دون أن يقدّم أي مشروع دقيق لكيفية حل أزمة أوبل. وإذا أردنا أن نتحدّث بموازين الربح والخسارة فإن الحزب الليبرالي الديمقراطي يعتبر اكثر الأحزاب استفادة من الأزمة المالية ، فلقد أثبتت آخر استطلاعات الرأي أن هذا الحزب كسب نسبة 16 بالمائة من أصوات الناخبين، وهي نسبة عالية لم يحصل عليها منذ سنين طويلة، ويعيد الخبراء نسبة هذا النجاح إلى النقد اللاذع الذي وجهه الحزب، وخاصة زعيمه قيدو فستفيلا، لبرنامج الإنعاش الإقتصادي واعتباره قاصرا عن حل الأزمة المالية في ألمانيا ، كما أنّه اعتبر أن الحلّ الأمثل للخروج من الأزمة هو تخفيض نسبة الضرائب على المواطنين. وأما حزب الخضر الذي يرأسه جم أوزدمير ذو الأصول التركية الشركسية، فإنّه يحاول أن يجد توفيقا بين دفاعه عن البيئة وحرصه على المساهمة في حل الأزمة المالية. وأوزدمير يعتبره البعض “أوباما ألمانيا”، ولكن إلى أي مدى يمكن أن يقوم أوزدمير ومن ورائه حزب الخضر، الذي لم تزد استطلاعات الرأي الأخيرة من رصيده الشعبي كثيرا كما هو الحال مع الحزب الفيدرالي، بهذا الدور. حزب اليسار الذي يقوده زعيم الحزب الديمقراطي الإشتراكي سابقا أوسكار لافونتان، لا يزال التيار المشاكس للحزب الديمقراطي الإشتراكي والذي يفتك منه يوما بعد يوم العديد من الأنصار، لم ترتفع كثيرا نسبة المتعاطفين معه من الناخبين لحد الآن وظل يراوح بين 10 بالمائة و12 بالمائة . هذه القراءة السريعة لحظوظ الأحزاب لا يمكن أن تكون هي الحكم الفصل في تحديد الفائز والخاسر في الإنتخابات القادمة لأن الفترة الزمنية الفاصلة عن موعد الإنتخابات لا زالت بعيدة وهذه النسب قابلة للتغير بين اليوم والليلة طبقا لتطوّرات الأزمة المالية ومآلاتها التي لا يستطيع أحد أن يستشرفها الآن وهو ما منع العديد من الشركات والمؤسسات المالية من الصمت وعدم الحديث عن استشرافات مستقبلية لا تزال مجهولة ويكتنفها الكثير من الغموض. ولكن الإيجابي في هذا الخضم من التشائم أن معهد يوني كريديت للأبحاث الإقتصادية أصدر دراسة أكد فيها أن ألمانيا ستخرج منتصرة من الأزمة المالية العالمية لعوامل داخلية وخارجية. ولهذا فإنّ الأيام والأشهر القادمة لا تزال تخبئ لنا حتما في جعبتها الكثير من المفاجئات. حسن الطرابلسي ألمانيا