اليوم: أعوان الصيدليات الخاصة يحملون الشارة الحمراء    19 مليار دينار استثمارات متوقعة.. الهيدروجين الأخضر طاقة تونس للمستقبل    خامنئي: "طوفان الأقصى كانت ضربة قاصمة للكيان الصهيوني ولن يتعافى منها"..    انتصر على الافريقي...الترجي يقترب من اللقب    وسط تفاعل جماهيري كبير ...أنس تترشح إلى ربع نهائي بطولة رولان غاروس    إدارة الترجي الرياضي تحيل حارس مرمى على لجنة التأديب و الانضباط    بطولة ايطاليا : صعود فينيتسيا بعد فوزه على كريمونيزي    مفزع/ حوادث: 11 حالة وفاة خلال 24 ساعة..    مستعمرون يقتحمون المسجد الأقصى..#خبر_عاجل    سمها قاتل وانتشرت مؤخرا .. أخصائي يحذر من تناول هذا النوع من السمك    الرابطة المحترفة الثانية: برنامج مباريات الجولة الخامسة و العشرين    غرفة تجار المصوغ : البنك المركزي غير قادر على توفير الذهب لأصحاب المعامل    الجزائر: اصطدام شاحنة وقود بسيارة يخلف ضحايا    اليابان : زلزال قوي بلغت شدته 5,9 درجات يضرب وسط البلاد    الهند: 25 ألف ضربة شمس ووفاة العشرات بسبب موجة حر    حرب الاحتلال على غزة في عيون الصحف العربية والدولية...الاحتلال قبل مناقشة إنهاء الحرب    مدرب الترجي معلقا : ''ما شاهدته في الدربي لم يكن كرة قدم، بل حرب وفوضى ''    بداية من اليوم: رئيس الحكومة يؤدي زيارة عمل إلى كوريا الجنوبية    المرصد التونسي للإقتصاد يدعو إلى إرساء سياسة فلاحية تكرّس مبدأ الاستقلالية الغذائية    طقس الاثنين: الحرارة تصل الى 42 درجة بهذه المناطق    وزيرة التربية: لهذا السبب تم منع ارتداء الكوفية الفلسطينية خلال امتحان البكالوريا    الفنانة إبتسام الرباعي ل«الشروق».. أتمنى تطهير الساحة الفنيّة من الدخلاء    القيروان: برمجة ثرية في مهرجان المشمش بحفوز (صور)    فيلم "المابين" لندى المازني حفيظ يتوج بجائزة أفضل فيلم في مهرجان الفيلم العربي بروتردام    عاجل - تونس : ارتفاع استهلاك السجائر لدى اليافعين والأطفال تزداد أكثر فأكثر    نقص أدوية وطول إجراءات...مرضى السرطان يعانون في صمت!    رغم نجاحات أطبائنا...مستشفياتنا تعاني... والصحة «مريضة»    تونس الأولى عربيا في التدخين والسيجارة الإلكترونية بديل قاتل    الطبوبي: نواصل دورنا النضالي    الكاف: 3457 مترشحا لامتحان الباكالوريا    تيسير ولوج ذوي الإعاقة الى المعارض    مع الشروق .. يرومون الدفء العائلي.. لكن !    قريبا شركة اللحوم تشرع في بيع الأضاحي    سريلانكا.. فيضانات وانهيارات طينية تخلف 10 قتلى ومفقودين    أولا وأخيرا...إلى الوراء در    إما صفقة جيوسياسية تاريخية كبرى أو مواصلة الحرب الخاسرة...نتنياهو في ورطة!    مع الشروق .. يرومون الدفء العائلي.. لكن !    لأول مرة في الكويت: نجوم مصريون يحيون 'ليلة النكد'    عاجل/ جريمة قتل شاب بعد رميه من طابق علوي..وهذه حصيلة الايقافات..    الترجي يفوز على الافريقي 2-1 ويصبح على بعد نقطة من التتويج..    هذه أسعار الأضاحي بهذه الولاية..    مكتب منظمة الصحة العالمية بتونس: معدّل عمر متعاطي أول سيجارة في تونس يناهز 7 سنوات    وفاة المخرج الشاب محمد أمين الزيادي    الليلة: سحب عابرة والحرارة تصل إلى 26 درجة    المخرج التونسي الشاب محمد أمين الزيادي في ذمة الله    شركة اللحوم تشرع في بيع أضاحي العيد بداية من 8 جوان الجاري    ولاية تونس في المرتبة الأولى من حيث عدد حوادث المرور    إحالة اللاعب أصيل النملي على لجنة التأديب والانضباط    متى تبدأ ليلة وقفة عرفة؟...وموعد صيام العشر الأوائل من ذي الحجة    قربة: وفاة تلميذ ال13 سنة غرقا    رئيس الجمهورية يختتم زيارته للصين بزيارة عدد من الشركات    أفضل الخطوط الجوية لسنة 2024    عادل خضر نائب لأمين اتحاد الأدباء العرب    محرزية الطويل تكشف أسباب إعتزالها الفنّ    من الواقع .. حكاية زوجة عذراء !    الشايبي يُشرف على افتتاح موسم الأنشطة الدّينية بمقام سيدي بالحسن الشّاذلي    من أبرز سمات المجتمع المسلم .. التكافل الاجتماعي في الأعياد والمناسبات    مواطن التيسير في أداء مناسك الحج    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سقوط الإسلاموية 1/6
نشر في الفجر نيوز يوم 27 - 03 - 2009

دراسة نقدية لظاهرة الإسلاموية في تيارات الفكر الإسلامي المعاصر
الاستاذ حسن الطرابلسي الفجرنيوز

ظاهرة الإسلاموية مصطلح شاع استعماله في الصحافة والإعلام، بل إنه استطاع أن يصبح دارج الإستعمال في الدراسات والبحوث المتخصصة، وهذا المصطلح/الظاهرة ينطوي على مضمون إجتماعي وسياسي، ورغم شيوعه فإنّه لا يزال يكتنفه الكثير من الغموض والضبابية، إذ نجده متداخلا مع مصطلحات أخرى قريبة منه كمصطلح الإرهاب والتطرف والأصولية. ولهذا فإن هذا البحث يحاول تتبع الإسلاموية وتطورها مفاهيميا وتاريخيا ودراسة تمظهراتها الإجتماعية ليصل إلى إبراز خطورتها السياسية والإجتماعية محاولا فكّ غموضها وتعقيداتها وبيان الحد بينها وبين الإسلامية. ولهذا فالدراسة تعتمد منهجا تاريخيا تحليليا وهو ما جعلنا نعود إلى القرن التاسع عشر، أي إلى بداية النهضة العربية الإسلامية خاصة في رموزها الأساسيين، ثمّ نفحصها في فكر وممارسة أهم التيارات والأحزاب الإسلامية المعاصرة، وفي هذا الإطار كانت التجربة السياسية المصرية والجزائرية والمغربية والتونسية أهم التجارب التي ركزنا عليها لثرائها ولتأثيرها الكبير في الفكر العربي والإسلامي ككل ولكن دون أن نهمل التجارب الأخرى في السودان أو اليمن أو غيرها، كما تتبعنا ظاهرة الإسلاموية في الفكر السلفي بشكل عام.
وفي مثل هذا البحث لا بد من اعتماد النظريات التي تساعد على فهم ظاهرة الإسلاموية فكانت نظرية الحدود1 أقرب النظريات التي تستجيب لهذا الغرض لأنها تمنحنا إمكانية التمييز بين المفاهيم وتساعدنا على رؤية الحد الفاصل بين القضية ونقيضها، ليس بالأسلوب الجدلي الفلسفي البحت وإنما من خلال بيان الحد الفاصل بين الإسلاموية المقيتة والإسلامية الأصيلة.
في المفهوم: ما هي الإسلاموية؟
الإسلاموية هي مصلح جديد الإستعمال في الدراسات والبحوث السياسية والإجتماعية المهتمة بالحركات والأحزاب الإسلامية المعاصرة، وهي عادة ما تحمل في طياتها شبهات عديدة، إذ هي أشبه من حيث غموضها المفاهيمي بمصطلحي الإرهاب والأصولية. فهذه المفاهيم عادة ما تخضع للتوظيف السياسي القائم على المصلحة وعلى الموقف من الإسلام عموما، ومع الأسف عمّقت فترة رآسة جورش بوش الإبن من ضبابية هذا المفهوم، لأنها تحت شعار مقاومة الإرهاب، الذي تتبنى له الولايات المتحدة أكثر من تعريف واحد خدمة لأغراضها السياسية، أسست لهذه الفوضى المفاهيمية. هذا الوضع أدّى إلى تداخل العديد من المفاهيم، الشيء الذي أحرج المثقف الغربي خاصة الذي وجد نفسه أمام ضبابية مفاهيمية لم تسعفه معرفته الدقيقة بتاريخ الإسلام في فهم بعض التمفصلات الدقيقة لهذا المفهوم فلم يستطع أن يجد الحدّ الفاصل بين الإسلاموية والإسلامية، وبيان الفرق بينها وبين الأصولية والإرهاب والجهاد في بعض الأحيان.
ونجد صدى لهذا التداخل في أغلب المعاجم والقواميس التي تصدت لتعريف مفهوم الإسلاموية، فمعظمها لا يقيم تمييزا بينها وبين الأصولية، بينها وبين الإرهاب، وأحيان بينها وبين الجهاد. ومعجم تورافال2 للثقافة الإسلامية خير دليل على هذا المثال إذ لا يقيم تمييزا بين هذه المصطلحات فعنده أن التيارات والأحزاب الإسلامية، سلفية وأصولية ومتعصبة وتدعوا إلى الحرب المقدّسة.
والإسلاموية هي ظاهرة إجتماعية وسياسية طفت على الساحة الفكرية في السنوات الأخيرة في إطار واقع سياسي قائم على الإقصاء، سواء في بعده الحضاري أو السياسي أو الفكري. وهي تمثّل في العالم الإسلامي تيارا سياسيا وفكريا له تبعاته الإجتماعية والسياسية، ومبدؤها الأساسي أنها تنطلق من الإعتقاد بتملّك الحقيقة وبالتمتع بالفهم الصحيح لتعاليم الدين نافية هذا الحق على غيرها، ولهذا فإنها تقصي الآخر المختلف وتعاديه ولا تسمح له بالتعايش معها ولا تقبله شريكا محاورا أو طرفا مغايرا. وتصبح بذلك شكلا توتاليتاريا طوباويا أشبه منه بالفكرة الأيديولوجية والعقيدة القومية، فهي بهذا المعنى تلتقي مع النظريات الأيديولوجية التي سادت في القرن الماضي مثل الماركسية والنازية والفاشية. ومن ثمة تصبح الإسلاموية شكلا من أشكال التعالي على المجتمع والثقافة ويشكل أنصارها مجتمعا موازيا ومنعزلا ومعاديا للثقافة والحضارة.
وللإسلاموية وجهان خطيران:
الأول موجّه نحو المسلمين ويتمثّل في نفي حقهم في الفهم وبالتالي مصادرة حقهم في القراءة الخلاقة والمبدعة. ويتم ذلك بالتكفير أو الإتهام بالزندقة وأغلاق باب الإجتهاد والإبداع.
الثاني هو معادات الآخر المختلف سياسيا، فكريا، عقائديا أو دينيا وعدم القبول به كمحاور وشريك.
وهكذا فهي تختلف عن الأصولية3، التي من أهم سماتها التعصب. فالأصولية تقوم على مبدأ رأيي صواب لا يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ ولا يحتمل الصواب. كما أنها تختلف عن الإرهاب الذي أهم سماته العنف لأنه يعرّض الأرواح والممتلكات للخطر، أو يهدد بتعريضه لها. وأما السمة الأساسية للإسلاموية فهي قيامها على إقصاء الآخر ونفيه، وهنا يكمن خطرها. وفي هذا المستوى بالضبط تكمن أيضا صعوبة تحديدها إذ أن الحدّ الفاصل بينها وبين الأصولية والإرهاب رفيع جدا.
فالإسلاموية بهذا المعنى الذي عرفناه هي الخطوة الأولى أو التمهيد المباشر للأصولية ثم الإرهاب.
وإذا أردنا وصفا للإسلاموية فإننا نقول: إن الإسلاموية هي فقدان فقه الشرع وفقه الواقع، وتغليب العاطفة على العقل، والحماسة على العلم، والمسارعة إلى الإتهام بالفسوق، بل بالكفر الصريح. وخطأ الإسلاموية أنها تقوم على العموم والإطلاق فهي تجهل ما يريده الآخر، والذي قد يكون صديقا، رغم اختلافه الفكري وحتى العقائدي، أو تنفيه بدعوى تملّكها الحقيقة.
وأصبحت هذه المفردة في السنوات الأخيرة تستعمل عادة لوصف التيار الإسلامي أو جزء منه في سعي حثيث للتخويف من هذا التوجه أو لحصاره في دولة ما أو باعتباره مهددا للحضارة. ويعد المستشرق الكبير برنارد لويس4 أول من تنبّأ بأن سقوط الإتحاد السيوفياتي سوف يقود إلى الصراع بين الحضارة الغربية والإسلامية كما ساهمت نظرية فوكوياما عن نهاية التاريخ في نشر حالة من الخوف والضبابية الفكرية ثمّ جاء صامويل هانتينغتن وبشر بما سمّي بحرب الحضارات حين أعتبر أن المستقبل لا تلعب الدول فيه دورا أساسيا وإنما سيكون للحضارات دور أكبر في الصراعات الناشئة، وقد نشر هانتينغتن بحوثه لأول مرة في مجلة شؤون خارجية الأمريكية سنة 1994إبان اشتعال حرب البلقان وعندما كان علي عزت بيكوفيتش يؤسس لدولة البوسنة والهرسك على أسس إسلامية. وقد لاقت جهود بيكوفيتش معارضة من القوى الغربية التي تخوّفت من ظهور دولة إسلامية في أوروبا الشيء الذي جعل الغرب وأوروبا يصمت أمام المذابح التي تعرّض لها البوسنيون لمدة طويلة.
الإحياء الإسلامي وموقفه من الإسلاموية
في هذا العنصر نحاول العودة إلى التتبع التاريخي لظاهرة الإسلاموية منذ عصر النهضة أو بداية الإحياء الإسلامي كما يسميه الدكتور محمد عمارة.
وأهمّ رموز هذا التيار هو فيلسوف الإسلام وموقظ الشرق جمال الدين الأفغاني (12541314 ه/18371897) الذي دعى إلى إنشاء الجامعة الإسلامية ، واعتبر أن استعارة الدولة العثمانية ومصر لحلول التمدّن الغربي ونماذجه في التحديث “تحديثا شكليا” و”تقليدا” “ لأنه يعتبر أن هذا التمدن هو “في الحقيقة تمدّن للبلاد الذي نشأ فيها مع نظام الطبيعة وسير الإجتماع الإنساني” ثم يتسائل عن المنافع التي جلبها معه هذا الشكل “فهل انتفع المصريون والعثمانيون بما قدّموا لأنفسهم؟” ويجيب بأنه قد يكون هذا التمدن قد جعل البعض” يتشدّقون بألفاظ الحرّية والوطنية والجنسية وما شاكلها،” كما ساعد آخرين فقلبوا “أوضاع المباني والمساكن وبدّلوا هيئات المآكل والملابس والفرش والآنية وسائر الماعون”5 إلا أن الأفغاني لا يرى في هذا الشكل من التمدّن هو الحلّ الأمثل لأن “العلاج الناجع لإنحطاط الأمة الإسلامية إنما يكون برجوعها إلى قواعد دينها، والأخذ بأحكامه على ما كان في بدايته، وفي زواياها نور خفيّ من محبّته، فلا يحتاج القائم بإحياء الأمّة إلاّ إلى نفخة واحدة يسري نفسها في جميع الأرواح لأقرب وقت، فإذا قاموا وجعلوا أصول دينهم الحقة نصب أعينهم، فلا يعجزهم أن يبلغوا في سيرهم منتهى الكمال الإنساني”6
ثم جاء الإمام محمد عبده (12651323 ه/18491905) وانتقد النزعة المادية للنموذج الحضاري الغربي، عندما تحدّث عن مدنيّته فقال:”إنّها مدنية الملك والسلطان، مدنية الذهب والفضة، مدنية الفخفخة والبهرج، مدنية الختل والنفاق وحاكمها الأعلى هو “الجنيه” عند قوم و”الليرا” عند قوم آخرين ولا دخل للإنجيل في شيء من ذلك”7. ويضيف في موقع آخر “ إن الإسلام دين وشرع فهو قد وضع حدودا ورسم حقوقا، ولا تكتمل الحكمة من تشريع الأحكام إلاّ إذا وجدت قوّة لإقامة الحدود، وتنفيذ حكم القاضي بالحق، وصون نظام الجماعة.”ورغم نقده الموجّه إلى أسس الحضارة الغربية إلا أنه دعى إلى الإستفادة منها لبناء نهضة إسلامية، ثم إنه “بعد هذا الحديث عن تميّز الإسلام، ومن ثمّ نموذجه الحضاري، عن النموذج الغربي في المرجعية والتحديث يدعوا الشيخ محمد عبده تيار التقليد للغرب إلى الأقلاع عن محاولتهم، فالبذرة الغربية غير صالحة للإنبات في التربة الإسلامية، والإسلام هو السبيل للإصلاح في أمة الإسلام وواقع المسلمين.”
ولا يكتفي الإمام محمد عبده بتوجيه نقده للنموذج الحضاري والتنموي الغربي بل يتجه بنقده أيضا إلى المسلمين فهو وإن اعتبر العقيدة الإسلامية سليمة، إلاّ أنه يخطّأ المسلمين في فهمها وتجميدها حكاما ومحكومين ودعى إلى إصلاح التعليم وكانت له خلافات مع بعض علماء الأزهر الشريف.
إذن قامت فكرة الإحياء الديني كما دعا لها أهم روادها على بعدين أساسيين :
أولا بعد نقدي لإبراز تهافت الأسس التي قامت عليها الحضارة الغربية ولذلك رفض هؤلاء الرواد مقولة التقليد الأعمى للنموذج الغربي.
، كما قامت على بعد أساسي ثان وهو جهد تركيبي أو بنائي يهدف إلى “إحياء علوم الدين” و”تجديد الفكر الديني” من خلال نقد مظاهر الخلل في العقلية الإسلامية التقليدية السائدة آنذاك والدعوة إلى إصلاح شامل يقوم على أساس فهم سليم للدين الإسلامي .
نفس هذا الجهد الإحيائي نجده في تجربة خير الدين التونسي (12381308 ه/18201890 م) الذي استطاع أن يدعوا بل ويقود تجربة إصلاحية رائدة في الإيالة التونسية. فخير الدين الذي زار تسع دول أوروبية منها بالخصوص فرنسا، علاوة على مطالعاته للمؤلّفات السياسية المترجمة في مصر عن الفرنسية بإشراف رفاعة الطهطاوي (12161290 ه/18011873 م)، ومؤلفات خاصة بتاريخ المجتمع الإسلامي، وأخرى بتاريخ الغرب، ومعرفته لفلسفة الدولة عند ابن خلدون ومناقشاته مع أساتذة المدرسة الحربية بباردو ... وقد استطاع أن يقود تجربته الإصلاحية كسياسي ووزير وكان له نجاحات تذكر حتى وصف أحمد بن أبي الضياف (18021874) تجربته بقوله: “إنّ هذه البلاد لها تيمّن بخدمة هذا الوزير المنصف خير الدين الذي صار رئيسا للكمسيون وقد أعانها في شدائد وأنقذها بنصح من معضلات” (إتحاف أهل الزمان 6/135). وقد قام برنامجه السياسي على سنّ التنظيمات السياسية أي الدستور، وما يتفرّع عنه لتقييد السلطة الإستبدادية الفردية... واقتباس العلوم والكنولوجيا من أوروبا باعتماد موقف انتقائي يقتبس الصالح والمناسب إلا أنه لم يعر اهتماما لإصلاح الأحوال الإقتصادية ، فبقيت ضعيفة أمام الإقتصاد الأوروبي الذي كان يتسرّب ليفرض سلطته على الدولة في كل المجالات8.
ولئن لم يكتب لتجربة خير الدين النجاح ففشلت لعوامل مرتبطة بحيثيات داخلية تمثلت في عدم قابلية اللحظة الزمنية لمشروعه ولعوامل خارجية أهمها التدخل المتزايد لفرنسا في الحياة السياسية والإقتصادية في الإيالة انتهى في الأخير عام 1881 باستعمارها.
بالإضافة إلى هؤلاء الرموز الأساسيون، شهدت الساحة الثقافية والسياسية شخصيات أخرى كان لها تأثير مهم من مثل شكيب أرسلان الذي حاول الإجابة عن سؤال لماذا تخلّف المسلمون وتقدّم غيرهم، ومحمد رشيد رضا تلميذ الإمام محمد عبده وغيرهم. كما نشأت حركات قطرية هدفت أساسا إلى مقاومة الإستعمار كالمهدية في السودان والسنوسية في ليبيا والشيخ عبد العزيز الثعالبي (12911363 ه/18791944م)في تونس والأمير عبد القادر الجزائري (18071873) في الجزائر وعلال الفاسي (13281394 ه/19101974م) في المغرب وغيرهم.
وهكذا كانت تجربة الإحياء تجربة ناقدة في مضمونها أصيلة في برنامجها إصلاحية في منهجها مجاهدة ومقاومة في بعدها القطري بعيدة كلّ البعد عن نفي الآخر ولهذا فإنّها كانت منفتحة مقرّة بالآخر داعية إلى العلم وإصلاح العقيدة ومحاربة البدع كما طالبت بالتوفيق بين العلم والدين لأنها أعتبرت أن الحياة الدستورية والحقوق المدنية والحريات السياسية لا تتعارض مع الشرع، فمهّدت بذلك لمشروع نهضوي بعيدا عن الإسلاموية والنفي والإقصاء.
إلا أن النقد الأساسي الذي يمكن أن يوجّه إلى هذه التجربة الرائدة أنها ظلت نخبوية بحيث أنها كانت أصولية فلسفية مع الإمام الأفغاني ، إصلاحية تربوية مع الإمام محمد عبده، توفيقية مع خير الدين، قطرية مع الحركات القطرية المجاهدة فلم تستطع أن تصل إلى كلّ أفراد أمة المسلمين وتأثر فيهم وتحملهم على التفاعل معها.
وبعد فشل جهود الإحياء في الحيلولة دون انحدار الأمة الذي أدى إلى الإستعمار وإلى تقسيم الأمة من خلال اتفاقية سيكس/بيكو والذي انتهى بإلغاء الخلافة الإسلامية، كمؤسسة للإجتماع الإسلامي، تداعت صفوة علماء الإسلام ومفكروه إلى عقد مؤتمر سنة (1345 ه/1927 م) الذي أثمر قيام “جمعية الشبان المسلمين” . وفي العام التالي (1346 ه/1928) أسس الإمام حسن البنا (13241386 ه/19061949م) وهو الذي شارك في المؤتمر التأسيسي للشبان المسلمين، أسس جماعة الإخوان المسلمون كأول تنظيم جماهيري لتيار الإحياء والتجديد في العصر الحديث، وكانت فكرته الأساسية تنطلق من شمولية الإسلام لكل مجالات الحياة فهو يقول :”دعوتنا دعوة أجمع ما توصف به أنّها إسلامية ولهذه الكلمة معنى واسع” يحاول الإمام البنا توضيحه قائلا :” “إننا نعتقد أن الإسلام معنى شامل ينتظم شؤون الحياة جميعا، ويفتي في كلّ شأن منها ويضع نظاما محكما دقيقا.”9 كما يقول في موضع آخر: “والإسلام نظام شامل يتناول مظاهر الحياة جميعا ، فهو دولة ووطن، أو حكومة وأمّة، وهو خلق وقوّة، أو رحمة وعدالة، وهو ثقافة وقانون أو علم وقضاء، وهو مادّة وثروة أو كسب وغنى، وهو جهاد ودعوة أو جيش وفكرة ، كما هو عقيدة صادقة وعبادة”(الأصل الأول من الأصول العشرين) كما أسس دعوته على أساس التسامح والحوار مع الآخر لا على أساس النفي فهو يعتبر في الأصل الثامن أن “الخلاف الفقهي في الفروع لا يكون سببا للتفرّق في الدين، ولا يؤدّي إلى خصومة ولا بغضاء ولكلّ مجتهد أجر” كما لم تقم دعوته على التكفير إذ نجده يقول في الأصل العشرين “لا نكفّر مسلما أقرّ بالشهادتين وعمل بمقتضاهما وأدّى الفرائض برأي أو معصية إلا إن أقرّ بكلمة الكفر” ولقد استطاع الإمام أن يؤسس في أثناء تنقلاته في مصر لعدد من المكاتب لجماعته واستطاع أن يجعل منها تيارا جماهيريا يحسب له حساب. فكانت جماعة الإخوان المسلمين أول تنظيم جماهيري لتيار الإحياء والتجديد في العصر الحديث... واستطاع الإمام البنا أن ينقل حركة اليقظة الإسلامية وتيّار التجديد من إطار الصفوة والنخبة والعلماء المفكرين إلى إطار الجماهير. كما نجح أن يأسس لمفهوم المشاركة السياسية على أساس الدستور فمنذ مؤتمرحركة الإخوان المسلمون السادس سنة 1361 ه/1942 أتخذت الجماعة قرار المشاركة في انتخابات نفس السنة ولكن رئيس الوزراء المصري آنذاك مصطفى النحاس طلب منه عدم الترشح “لمصلحة مصر ومصلحة الجماعة بسبب ضغوط الإنجليز عليه وإلا فإنه مضطرّ إلى حلّ الجماعة ونفي زعمائها خارج مصر”10 كما شارك الإخوان في انتخابات سنة 1945 ولكنها لم تكن انتخابات نزيهة، ثمّ استشهد الإمام سنة 1949 ووئدت تجربة المشاركة في مهدها.
من هذه التجربة نخلص إلى أن جهد الإخوان قام على التفاعل مع الآخر والتواصل معه فكانت حركة الإخوان المسلمون بعيدة عن كلّ أشكال النفي والإقصاء وبالتالي بعيدة عن الإسلاموية.
بعد استشهاد الإمام البنا وتولي عبد الناصر مرة جهود الإحياء في بعدها الشعبي والجماهيري بفترة عصيبة كما شهدت الإسلاموية “أفضل” أيامها.
في الجزء الثاني نبحث عن الإسلاموية في فكر الإخوان بعد الإمام حسن البنا حيث سنجد سيطرة للإسلاموية على الفكر الإسلامي سواء في علاقته مع الآخر المسلم أو غير المسلم! فكيف سيتفاعل العقل المسلم مع هذا الواقع الجديد؟
الهوامش
1 الحد، كما يعرفه الفيروز أبادي ، هو الحاجز بين شيئين وهو “الذي يمنع اختلاط أحدهما بالآخر” كما يقول الأصبهاني، الذي يضيف “وحدّ الشيء، الوصف المحيط بمعناه المميّز له عن غيره” (مفردات غريب القرآن، ص 109)
والحدّ في الشرع عقوبة مقدّرة على من ارتكب موجبها، وإنّما سميت العقوبات المقدرة في الشرع حدودا لمنعها من الفواحش، أو لأنها محدودة أي مقدّرة من قبل الشارع فلا يزاد عليها ولا ينقص، كحد الزنا وحد الخمر إلخ...
وأمّا قاموس مصطلحات القانون الدولي فإنه يعرف الحد (Frontière/ Grenze)على انّه: “الخط الفاصل الذي تبدأ أو تنتهي عنده أقاليم دول متجاورة.
ويرى شارل روسو أن قيام الحدود يولّد نظاما قانونيا يرافقه، وهو نظام الجوار الذي يطرح:
أولا موضوع سكان طرفي الحدود، من حيث ما لهم من حقوق (كحق المرور والعمل) وما عليهم من واجبات (كتأدية الخدمة العسكرية)
ثانيا تعد هذه المناطق مكان التقاء للمرافق العامّة (مراكز أمن ودوائر للجمارك)
ثالثا يقع على عاتق الدول المتجاورة التزامات وحقوق يجب مراعاتها، كحق الملاحقة القضائية مثلا.
والحدّ في اصطلاح الفلاسفة هو القول الدّال على ماهية الشيء، وهو تعريف كامل، أو تحليل تامّ، لمفهوم اللفظ المراد تعريفه، كتعريف الإنسان بالحياوان الناطق. (جميل صليبا، المعجم الفلسفي، ج1، مادة الحد)
وتوجد جذور نظرية الحدود في نظرية الضرورة.
2 Thorafal, Yves; Lexikon der Islamischen Kultur (Franc.: Dictionnaire de civilisation musulmane), Primus Verlag, Darmstadt 1999
3 الأصولية يمكن أن تكون سلفية قوامها الحنين إلى الماضي الذي يصير معيارا ذاتيا ينكشف في ضوئه فساد الحاضر وانحطاطه، أو تكون إصلاحية ومستقبلية قوامها تأصيل المنجزات الثقافية والعلمية والتقنية والأفكار والمفاهيم السياسية المعاصرة بغية إدماجها في المجال الثقافي الخاص بالجماعة أو الأمّة المعنية، لتحقيق ضرب من التكيّف مع العصر ... وبحسب مقتضيات العودة إلى الأصول ودواعيها تكون الأصولية إما حركة إصلاح وتجديد وإعادة تأسيس عملية
4 Lewis, Bernard; Der Atem Allahs, die islamische Welt und der Westen: Kampf der Kulturen?, Dt. Taschenbuch-Verlag, München 2001
5 الأعمال الكاملة لجمال الدين الأفغاني، دراسة وتحقيق الدكتور محمد عمارة، طبعة القاهرة، 1968 ص 533
6 الأعمال الكاملة لجمال الدين الأفغاني، ص197
7 الأعمال الكاملة لمحمد عبده، دراسة وتحقيق محمد عمارة، طبعة القاهرة 1993ج 3 ص 223
8 محفوظ، محمد: تراجم المؤلّفين لتونسيين، الجزء الأول، مادة خير الدين
9 مجموعة رسائل الإمام الشهيد حسن البنا، دار الدعوة للطبع والنشر والتوزيع، الطبعة الشرعية 1990م/1411 ه ص 23
10 الدكتور جابر قميحة، حسن البنا والسهام السوداء، المجتمع، العدد 1288، شوال 1417ه/فبراير 1998، ص 54


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.