محامي الصحفي مراد الزغيدي يكشف الاسئلة الموجهة لموكله من قبل فرقة مكافحة الاجرام    عاجل/ بطاقة ايداع بالسجن في حق سنية الدهماني..    جمعية القضاة تعتبر"اقتحام مقر دار المحامي،سابقة خطيرة وتعد على جميع مكونات الاسرة القضائية"    سيدي بوزيد: توقّعات بارتفاع صابة الحبوب بالجهة مقارنة بالموسم الماضي    المسؤولية الاجتماعية للمؤسسات: الشركة التونسية للبنك تدعم مقاربة الدولة للأمن الغذائي الشامل    تورّط موظفين في الدولة ورجال أعمال: بن حجا يكشف تفاصيل قضية تهريب المخدرات    الكرم: القبض على افريقي من جنوب الصحراء يدعو إلى اعتناق الديانة المسيحيّة    صفاقس: ايقاف افريقي يساعد على اجتياز الحدود والإقامة غير الشرعية    صفاقس : فتح بحث في وفاة مسترابة لشاب    عاجل/ الهيئة الوطنية للمحامين تعلن عن قرارات تصعيدية..    من هو وزير الدفاع الجديد المقرب من فلاديمير بوتين؟    عاجل : التمديد لبرهان بسيس و مراد الزغيدي ب 48 ساعة اخرى    عاجل/ قوات الاحتلال تنفذ حملة مداهمات واعتقالات في عدة مناطق بالضفة الغربية..    إيران تعلن عن مفاوضات لتحسين العلاقات مع مصر    ليلة ثالثة من الأضواء القطبية مع استمرار عاصفة شمسية تاريخية    الرابطة الثانية (ج 9 إيابا)    الترجي الرياضي النجم الساحلي (3 2) الترجي يُوقف النزيف والنجم يحتج على التحكيم    تصفيات أبطال إفريقيا لكرة السلة: الإتحاد المنستيري يتأهل الى المرحلة النهائية    36 مليون دينار على ذمة الشركات الاهلية.. نموذج تنموي جديد    مصر تسعى لخفض الدين العمومي الى أقل من 80% من الناتج المحلي    5 جامعات تونسية تقتحم تصنيفا عالميا    مسؤولة بالستاغ : فاتورة الكهرباء مدعمة بنسبة 60 بالمئة    الاحتفاظ بعنصر تكفيري في تالة من أجل ترويج المخدرات..    مغني الراب سنفارا يكشف الستار : ما وراء تراجع الراب التونسي عالميا    نور شيبة يهاجم برنامج عبد الرزاق الشابي: ''برنامج فاشل لن أحضر كضيف''    وفاة أول متلقٍ لكلية خنزير بعد شهرين من الجراحة    راس الجدير: ضبط 8 أفارقة بصدد التسلل إلى تونس بمساعدة شخص ليبي..    كاس تونس لكرة القدم : برنامج مباريات الدور ثمن النهائي    بطولة ايطاليا: تعادل جوفنتوس مع ساليرنيتانا وخسارة روما أمام أتلانتا    حوادث/ 6 حالات وفاة خلال 24 ساعة..    رئيسة لجنة الشباب و الرياضة : ''لم تحترم الوزارة اللآجال التي حددتها وكالة مكافحة المنشطات ''    صفاقس موكب تحية العلم المفدى على أنغام النشيد الوطني بالمدرسة الإبتدائية محمد بالي    نائبة بالبرلمان : '' سيقع قريبا الكشف عن الذراع الإعلامي الضالع في ملف التآمر..''    مصر: انهيار عقار مأهول بالسكان في الإسكندرية وإنقاذ 9 أشخاص    بداية من الغد: درجات الحرارة تتجاوز المعدلات العادية لشهر ماي    دربي العاصمة 1 جوان : كل ما تريد أن تعريفه عن التذاكر    أرسنال يستعيد صدارة البطولة الإنقليزية بفوزه على مانشستر يونايتد    بين الإلغاء والتأجيل ... هذه الأسباب الحقيقة وراء عدم تنظيم «24 ساعة مسرح دون انقطاع»    المالوف التونسي في قلب باريس    نتنياهو: نناقش "نفي قادة حماس.."    بعد اجرائها في مارس.. وفاة المريض الذي خضع لأول عملية زرع كلية خنزير    التوقعات الجوية لهذا اليوم..    دراسة تربط الوزن الزائد لدى الأطفال بالهاتف والتلفزيون..كيف؟    مئات الحرائق بغابات كندا.. وإجلاء آلاف السكان    وفاة أول مريض يخضع لزراعة كلية خنزير معدلة وراثيا    مفتي الجمهورية... «الأضحية هي شعيرة يجب احترامها، لكنّها مرتبطة بشرط الاستطاعة»    افتتاح نقطة بيع من المنتج إلى المستهلك وسط العاصمة لعرض منتوجات فلاحية بأسعار الجملة وسط إقبال كبير من المواطنين    وزارة التجارة: تواصل المنحى التنازلي لأسعار الخضر والغلال    شركة "ستاغ" تشرع في تركيز العدّادات الذكية "سمارت قريد" في غضون شهر جوان القادم    مدنين: نشيد الارض احميني ولا تؤذيني تظاهرة بيئية تحسيسية جمعت بين متعة الفرجة وبلاغة الرسالة    سيدي بوزيد: تظاهرات متنوعة في إطار الدورة 32 من الأيام الوطنية للمطالعة والمعلومات    سيدي بوزيد.. اختتام الدورة الثالثة لمهرجان الابداعات التلمذية والتراث بالوسط المدرسي    أولا وأخيرا: نطق بلسان الحذاء    الدورة 33 لشهر التراث: تنظيم ندوة علمية بعنوان "تجارب إدارة التراث الثقافي وتثمينه في البلدان العربيّة"    مفتي الجمهورية : "أضحية العيد سنة مؤكدة لكنها مرتبطة بشرط الاستطاعة"    نحو 6000 عملية في جراحة السمنة يتم اجراؤها سنويا في تونس..    عاجل: سليم الرياحي على موعد مع التونسيين    لتعديل الأخطاء الشائعة في اللغة العربية على لسان العامة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الجزائر بين الحَجر السياسي واستحقاقات المستقبل(الجزء الأول والثاني)
نشر في الفجر نيوز يوم 28 - 03 - 2009


(الجزء الأول)
كانت الجزائرخلال التسعينيات تنزف دماءًا و يتطاير غبار أرضها خوفًا وألمًا، وكان الحق في الحياة حلمًا يراود أبناءها عندما استفحل الهرج والخوف، لكنه كان حلمَ المرحلة، مثلما كان الإستقلال حلم مرحلة حرب التحرير، و كان التطور و تحقيق التنمية حلم مرحلة ما بعد الإستقلال. و لنا أن نتسائل اليوم، و الأمد يبتعد بنا أكثر فأكثر عن يوم الإستقلال، ما هو حلم الجزائر الآن كأمة لها تاريخ و لها كل القدرات المادية و البشرية لتحقيق الكثير؟ هل سنكتفي بالتلذذ بنعمة الأمن و نغفل عن تحديات المستقبل كما فعلنا لعشر سنوات؟ و بذلك ندس رؤوسنا في الرمال إزاء الإنسداد الذي تعيشه البلاد، و نتركها نهبًا مباحًا لمن ينتصر في لعبة مراكز القوة، و نُسلم شعبنا لوصاية أبدية لا تنتهى لا بكهولة هذا الجيل و لا بشيخوخته؟ أم أننا سنتحمل مشقة الفهم ثم مسؤولية الكلمة للوصول لإدراك جماعي لحساسية الموقف، و ضرورة تبني مشروع وطني يخرجنا من الدائرة المغلقة التي ما نكاد نخرج منها حتى نعود إليها ثانيةً؟ حتى نستقبل آفاقًا جديدةً تَعدُ بشيئ غير الإستمرارية في طريق الأمس.
و لكي نعرف أين نتجه اليوم، علينا أولاً أن نتلمس طريقنا من خلال التجربة المرة التي عشناها بالأمس، و إلا ما معنى الضريبة الباهضة التي دفعها شعبنا، والمخاض السياسي و الأمنى الصعب الذي كاد أن يقضي على كل معنى للحياة أوالوطن؟ إن علينا أن نتمعن في تجربة ثلاثين سنة من التسيير الإشتراكي و الدكتاتورية، و خلاصة عشر سنوات من الدماء و الأشلاء، ثم نتسائل بعدها، هل نحن بالذكاء الذي يمكننا من توظيف هذا التراكم المر لرسم خارطة طريق تجنبنا إعادة استنساخ الماضي والوقوع في نفس الجُحر مرات أخرى؟ أم أن قرائتنا للأحداث ستكون انتقائية و متأثرة بالحالة النفسية و الإجتماعية و المصلحية الآنية؟ هذه هي الأسئلة التي ينبغي الإجابة عليها لنتمكن من الحكم على التوجهات السياسية للبلاد في هذه المرحلة.
1.بداية الأزمة:
برزت الأزمة الجزائرية في منتصف الثمانينيات كأزمة اقتصادية أدت إلى ظهور حدة الإختلال الإجتماعي و السياسي الحاصل في البلاد. فتراجُع عائدات النفط، كمورد وحيد للعملة الصعبة، كشف المستور من الفشل الذريع للسياسات الإقتصادية المنتهجة وعجز الإستثمارات الضخمة عن بناء إقتصاد بديل. و مع وصول أعداد كبيرة من الشباب الى سوق العمل، وإزدياد الطلب على الحاجيات الأساسية من سكن و عمل و مواد أخرى، إنفجر الوضع، و تم الإعتراف بحالة الأزمة الشاملة في البلاد، والتي تحملها الحزب الحاكم خاصة و نظام الحكم المتبع بشكل عام. لقد أجمعت الطبقة السياسية حينها، معارضةً و سلطةً، على الخلاصة التالية:
سياسيا: أن النظام الأحادي المركزي و قمع الحريات السياسية كان السبب المباشر في إنتهاج سياسات خاطئة، دون نقاش داخلي جاد و حر، ثم فرضها كخيار وطني وحيد، مما يجعل أصحاب القرار يتحملون المسؤولية كاملة و لوحدهم عن الكارثة.
إقتصاديًا: أن الإعتماد على النفط كمورد إقتصادي و حيد سيجعل المستقبل في الجزائر غامضا و مؤهلا للإنزلاق في كل لحضة، و أن أي سياسة إقتصادية مستقبلية يجب أن تضع الأُسس لإقتصاد متنوع و حر. وبالإضافة إلى التبعية المفرطة للنفط، أثبتت تلك الأزمة و تطور الإقتصاد العالمي فشل الإقتصاد المخطط أو ما يعرف بالإشتراكية في تحقيق المردودية والتنافسية اللازمة للتنمية. فكثيرًا ما تحولت المؤسسات الإقتصادية العمومية إلي مراكز نفوذ سياسي، و أدوات لتطبيق السياسات الإجتماعية و توزيع الثروة، بدل خلق الثروة و الربحية الإقتصادية، و كنتيجة لذلك أيضا ظهرت الممارسات الغير مهنية و فساد تقاليد العمل و تدني التسيير الإقتصادي المسؤول إلى مستوى اللامبالات.
إجتماعيًا: لقد تميزت مرحلة إقتصاد الريع بظهور جماعات المصالح في مختلف مواقع السلطة، كما أدى الإنكماش الإقتصادي إلى الإستأثار بالمنافع و الثروة من قبلهم، وهو الأمر الذي أدى الى إمتعاض شعبي عام و إلى رغبة في وقف إستغلال النفوذ و السلطة من قبل مجموعة معينة من المجتمع على حساب البقية. و هنا أيضا أصبحت واضحةً ضرورة ترسيخ مبدأ العدالة و قدسيتها، ليس فقط لأثرها الإجتماعي بل و أيضا لأهميتها في التنمية الإقتصادية والإستقرار السياسي.
2.عشرية الدماء:
لقد تظافرت عوامل عدة لإجهاض التجربة الديمقراطية في الجزائر، بعضها يعود لعدم وجود قيادة سياسية كفؤة لدى الإسلاميين، وإنعدام رؤية إستراتيجية قائمة على تحقيق المصلحة للمجتمع كأولوية على التمكين للإديولوجيا المجردة، و بعضها لتشبث أطراف في السلطة بالأساليب القديمة لممارسة الحكم، و التي تعتمد فرض أمر واقع على الجميع ثم إضفاء الشرعية عليه بكل الطرق. إن الوصاية على المجتمع، و اعتباره قاصراً عن تولي أموره، هي في الغالب ما أملى تلك المواقف و بررها. نتيجة لذلك، دخلت البلاد مرحلة عراك شهدت أبشع الجرائم و أخطر التجاوزات على إنسان الجزائر، لتتحول الأرواح البشرية لمجرد وسائل ضغط على الآخر. زاد على ذلك التدني العام للوازع الأخلاقي تحت تأثير الحرب الشرسة التي تجاوزت حد المعقول.
لقد كانت إستعادة الأمن أمرًا ملحًا إقتضى غض الطرف والسكوت على الكثير من تجاوزات السلطة حيال الحريات الأساسية في البلاد، و تأجيل الحديث عن الحقوق السياسية المصادرة، ومع ذلك فإنه ليس من المنطقي أبدًا إعتبارالأمن نقيضًا للحرية، أو مقايضة الديمقراطية و دولة المؤسسات والقانون بمتطلب الأمن كما فعل رجال و أحزاب السلطة لاحقًا. لقد أدت مرحلة اللادولة، أو ضعف الدولة، خلال ذلك لظهور و إستشراء مظاهر خطيرة جدا من الفساد الإداري، قادها نفس الرجال الذين استنجدت الدولة بخدماتهم، نظرًا لحالة الشغور العام التي سادت بعد أن أعلن الحزب الحاكم بقيادة عبد الحميد مهري ابتعاده عن أساليب الإنقلابات في الحكم، وتمسكه بالشرعية الشعبية كمصدر وحيد للسلطة، و هو ما فتح الأبواب لمجموعات الإنتهازيين للتنافس على مواقع المسؤولية في مستويات مختلفة من إدارة الشأن العام.
مباشرةً بعد إلغاء الإنتخابات الديمقراطية وإندلاع الحرب، بدأت الترتيبات لصياغة نظام سياسي و دستوري جديد يضمن عدم تكرار تجربة الإنفتاح، التي تؤدي بالسلطة الفعلية لفقد القدرة على التحكم في تطورات المشهد السياسي، أو إلى انكماش نفوذها في دواليب و كواليس صناعة القرار، أو بمعنى آخر، تضمن التحكم في مستوى و مقدار التمثيل الشعبي في هرم السلطة. فكانت التعديلات الدستورية التي بادر بتبنيها الرئيس السابق زروال بمثابة صمام الأمان الذي يدعم سلطة الرئيس و صلاحياته، على اعتبار أن التزكية لمنصب الرئيس من الصلاحيات التي اختص الجيش نفسه بها. لقد كان ذلك تراجعًا فعليًا عن الوصفة التي تبناها الوسط السياسي في الجزائر عقب أحداث أكتوبر. و كنتيجة ترتبت عن أول تجربة ديمقراطية في البلاد، أصبح البرلمان لا يقتصر على الإنتخاب فقط، بل وأيضا على التعيين الرئاسي لترجيح سلطة الرئيس في البرلمان، كما أصبح الحزب الحاكم حزبين، هما التجمع الديمقراطي و جبهة التحرير الوطني، يستعمل أحدها للضغط على الآخر، كلما تطلب الأمر ذلك، حتى لا تتكرر تجربة العزلة السياسية التي سببها إنسحاب جبهة التحرير، عقب الانقلاب الأبيض على سلطة الرئيس الشاذلي، إضافة لوضع ترتيبات و شروط جديدة لإعتماد الأحزاب في البلاد. لقد كان ذلك أول خط في رسم معالم الممكن السياسي، الذي وإن شكل نكبة ديمقراطية في البلاد إلا أنه حافظ على مبدأ التداول دستورياً على السلطة إلى حد ما. و على كل حال فانشغال الأمن جعل الشارع لا بأبه بشيء سوى الحق في الحياة.
3.عشرية التطويع السياسي:
وضعت الحرب الأهلية أوزارها في الجزائر مع تراجع الجماعات الإسلامية المحاربة تدريجيا وتشتتها لصالح الجيش، الذي فرض عليهم خطة الإستسلام، التي لخصها مشروع المصالحة الوطنية لاحقاً، مما مهد الطريق لمرحلة سياسية جديدة، كانت بمثابة مساحة كبيرة للأمل. هذا الوضع إستدعى نفسًا جديداً ووجهًا من خارج المرحلة المتعفنة، لإعادة تجميع الإرادة الشعبية حول إختيارات مسبقةُ الإنتقاء.
مع تراجع الهاجس الأمني، كان من المفترض أن تعود السلطة إلي معالجة أسباب التدهور التي كانت موجودةً قبل مرحلة الحرب وأدت إليها واستفحلت خلالها أكثر فأكثر، وهي محاربة الفساد الإداري و الرشوة و البيروقراطية، و التمكين للرقابة الشعبية من خلال مؤسسات قوية سيدة و مستقلة، و باعتماد مبدأ التداول على السلطة و فصل السلطات، لأنها الحائل الحقيقي دون تحقيق أي تنمية بشرية أو إقتصادية في البلاد. لكن السلطة كانت لها أولويات أخرى و مختلفة تماماً، تلخصت في الحيلولة دون وصول الغير مرغوب فيهم إلى سدة الحكم، وعدى ذلك فهو هين. و هو موقف يلخص رؤية السلطة للشعب، فهو ليس إلا وسيلة تجند بالطرق التي تخدم مصالحها ليس إلا. أما موضوع التنمية و العدالة للجميع، و ما يترتب عليها من إصلاحات حقيقية، فهو أمر مَنع النقاش فيه، وغطت عليه حرارة التصفيق للرأي الواحد.
إن فكرة الرجل الجامع، الذي يتحدث عن هموم الشعب و يحافظ على مصالح السلطة الفعلية، و المتمثلة في العودة إلى ما قبل أكتوبر، كانت هي الوصفة المرغوب فيها، والتي كان لا بد لها من قائد يرسخها. عاد بوتفليقة للمشهد السياسي الجزائري، بعد أن عقد الجيش اتفاق الإستسلام مع الفصائل المقاتلة في الجبال، وسقط الهمُ الأمني إلى حد ما. و رغم توقع ازدياد القيود على الحريات في عهده و تقزيم الأخر المخالف، لما أعلنه من تصورات و آراء حول مستقبل البلاد لدى ترشحه للرئاسة، و هي مواقف و آراء تَعد إجمالاً بالتراجع عن الخيار الديمقراطي و الشفافية في تسيير الشأن العام، لكن كان هنالك انطباع بأن شيئًا ما سيحدث في عهده، لتقويم المسار الوطني و التكفل بالسرطان الخطير الذي سرى في أوصال الدولة و أجهزتها، و التصدي لتدهور البلاد في كل المجالات. و على قدر حماسه لتطويق الساحة السياسية و تحييد أطرافها الواحد بعد الأخر بالترغيب و بالإقصاء، على قدر ما كان فاتر العزيمة عندما يتعلق الأمر بمحاربة الفساد واستغلال النفوذ. لقد أصبح جليًا للعيان التدهور الذي يُعيق حركة البلاد نتيجة ذلك، كما بدا واضحًا سيطرة المافيا السياسية الإقتصادية، ليس فقط على حركة الأموال و السوق في الجزائر، بل و على مراكز القرار أيضًا. إننا لو حاولنا تقييم حصيلة عشر سنوات من حكم بوتفليقة لأمكن إيجاز ذلك في المحاور التالية:
في السياسة: رجعت البلاد إلى أسلوب النظام الأحادي المركزي، و تقييد الحريات السياسية، و منع أي نقاش داخلي جاد و حر حول مصير البلاد و قضاياها الكبرى. فقد تراجع الحديث عن دولة القانون و المؤسسات، وعن ترسيخ الممارسة الديمقراطية التعددية، التي خاض باسمها النظام حربًا شرسة على الإسلاميين "المتربصين بها". لقد تم تقزيم المؤسسات الدستورية و تحجيمها الى مستوى "فروع رئاسة الجمهورية"، بدل أن تكون المراقب و الموازن لها، خدمة للمصالح العليا للبلاد. فتحولت المؤسسات الشعبية، بما فيها السلطة التشريعية، الى سلطة شكلية لا أثر لها في صناعة القرار، بل لا ضرورة فعلية لها، و تحولت العدالة، التي تمتعت بفترة استقلالية قصيرة، إلى إدارة من إدارات السلطة التنفيذية.
لقد روعي في إعادة ترتيب البيت السياسي الجزائري، تتفيه هذه المؤسسات إلى درجة إحداث اليأس من جدواها، وهو ما انعكس في حالة النفور من السياسة، و العزوف عن الممارسة السياسية التي ميزت السنوات الأخيرة، خاصة مع إصرار السلطة على منع تأسيس أحزاب جديدة تجدد الخطاب و تعيد النقاش الحقيقي الذي ينبغي تناوله إلى الطاولة. هذه كلها في الحقيقة أعراض الأنظمة الديكتاتورية، التي تذوب فيها المؤسسات والإرادات في مؤسسة واحدة مهيمنة لا تسمح بالتعدد. إن وصولنا إلى هذا الحد كان نتيجة منطقية للضغط المتواصل على الأحزاب السياسية، باستعمال الإنقلابات و الإحراج و التضييق و تزوير الإنتخابات، مما خلق جوا من فقدان الثقة في العملية السياسية، و الرهبة من ممارسة السياسة.
لقد أدى انتصار الجيش في الحرب و استعادة السلم، إلى فرض واقع جديد، و قواعد كثيرة غير مصرح بها، جعلت من الحق السياسي منحة تمنح للأوفياء فقط. لقد تم تضييق منافذ التعبير الحر و الحق في المعارضة كمكسب وطني، بإعادة تأميم منابر الإعلام العمومي و منع التعددية الإعلامية، للحيلولة دون بروز معارضة قوية للسلطة الحاكمة.
الواقع السياسي اليوم أشبه بعهد الحزب الواحد الذي لاتمثل فيه الإنتخابات سوى مهرجان إحتفالي يرسخ أقدام السلطة الفعلية في الواقع الإجتماعي و السياسي الجزائري، بعيدا عن مصالح الشعب وعن مبدأ التداول على السلطة. قد يتسائل البعض، هل يوجد في الجزائر اليوم بديل عن بو تفليقة؟ و السؤال الأولى بالإجابة هو، هل يمكن ظهور أي نوع من القيادات في ظل إنعدام الحراك السياسي المولد لها، و في ظل الإحتكار المطلق للسياسة وأدواتها، وخنق التنافسية السياسية، و التعتيم القاتل على برامج وآراء المنافسين؟
إن الوضع الحالي لا يدمر أحلام هذا الجيل فحسب، بل يرهن أحلام الأجيال القادمة أيضًا. فالممارسة السياسية الحرة هي الوحيدة القادرة على بعث نقاش سياسي عميق للخيارات و الأفكار و أفاق المستقبل، و هي القادرة أيضًا على إفراز أجيال جديدة من القيادات، و ترقية مفاهيمنا الحالية للمواطنة و السياسة و القيادة الرشيدة.
الجزائر بين الحَجْر السياسي واستحقاقات المستقبل


(الجزء الثاني)
بقلم: سمير ناصر
في الإقتصاد: لقد كان من المفترض أن تدني مستوى المداخيل و ثقل المديونية هما السبب المباشر في كل مأسي الجزائر سابقًا، واليوم مع توفر الأمن و الموارد المالية، و لعشر سنوات متتالية، لم يكن ينقص البلاد سوى خطة تنمية فعالة لتحصين الجزائر إقتصاديا و إجتماعيًا. و مع ذلك فقد ضلت الحكومة الجزائرية، تحت سلطة بوتفليقة، تكتفي بتسيير الملفات، في انتظار مستثمر أجنبي قد يأتي و قد لا يأتي ليجلب العمار و الرفاه لابناء وطنهم. ومن المفارقات أن قوانين الاستثمار ما فتئت تزداد تشددا وتقييدا على المستثمرين الأجانب، مقارنة بجيراننا في تونس و المغرب، و هنا نتسائل أيُ برنامج هذا الذي يمتنع عن إستعمال المال المحلي، و يعيق قدوم المال الأجنبي لتحقيق التنمية، سواء بالقوانين أو بالتهاون في ترقية و سط استثماري مشجع.
إن المهمة الأولى و المسؤولية الأخلاقية لأي حاكم لجزائر ما بعد المأساة، هي و ضع الشروط الضامنة لعدم تكرار التجربة المرة بمنع أسبابها، و التي منها الإعتماد الكلي على النفط، و سوء تسيير المؤسسات الإقتصادية العمومية. و مع أن ارتفاع أسعار البترول غير المسبوق مثل فرصة تاريخية لإعادة التفكير في تركيبة الإقتصاد الجزائري، و إعادة بناءه على أسس جديدة، إلا أن شيئا لم يحدث البتة، و كأن البلاد عاجزة عن المبادرة الفعالة لبعث الإستثمار في مجالات الإقتصاد المتنوعة، و خاصة منها الجالبة لمناصب العمل. لقد إكتفى برنامج الرئيس ببناء التجهيزات، من طرق و مساكن و بنى تحتية، و التي و إن كانت مهمةً و حيويةً إلا أنها مشاريع غير منتجة للثروة، و لا لمناصب شغل قارة، و لا يمكن الإكتفاء بها على حساب الإستثمار الصناعي و الفلاحي و التكنولوجي، و الدخول في مشاريع بصيغ جديدة، لإنعاش سوق العمل و تنويع الإنتاج، دون تعريضها لسوء التسيير.
لقد مرت اليوم عشر سنوات من حكم بوتفليقة، و ما زال الغموض يلف إستراتيجية التنمية و أهدافها، و ما تزال حصيلته تقيمُ بعدد الكلومترات و المساكن التي أنجزت و التي ستنجز، و هي كلها مقتنيات لا تتطلب ذكاءًا خارقًا و لا عبقرية فذةً، بل كل ما تتطلبه هو توفر المال. أما التحدي الحقيقي و الذي فشل فيه، فهو تحقيق الإقلاع الإقتصادي، الذي كان و ما يزال مطلبًا تاريخيًا و مصيريًا ملحًا، أو على الأقل توفير الشروط الضرورية لتحقيقه. فاستمرار الإعتماد على النفط، و صرف عائداته هو استمرار للعجز الفكري للمسير و السياسي الجزائري. صحيح أنها ليست مهمة سهلة، لكنها النقطة المفصلية التى على الشعب الجزائري أن يقيم من خلالها زعماءه، و ليست عدد الكلومترات و المساكن التي تشترى بعائدات البترول، ولا قيمة احتياطي الصرف الذي صنعته كذلك عائدات البترول. و مع هذا فإننا نقر بترجيح فشل أي سياسة يمكن أن تعتمد في ظل الوضع العام السائد في الجزائر اليوم، لأنه و ببساطة لا يمكن توقع النجاح لإقتصاد في دولة تصنف بنوكها في أسفل السلم على المستوى الإفريقي، ويعمل فيها القضاة موظفون لدى الحكومة، و تسيطر على كل إداراتها و مؤسساتها، بدون استثناء، تخمة بيروقراطية تقتل يوميًا ديناميكية المجتمع و تقطع أوصاله، فضلًا عن أي مشروع إقتصادي، و تسيطر فيها فئة من النافذين في السلطة على مصادر المال و الثروة و على مراكز القرار، و تنتهج سياسة الفوضى المنظمة التي رمت بالبلاد في حالة من التيه، حلت فيه العلاقات الشخصية و الأمزجة محل القانون والأخلاق. في حين استسلم الشباب المسحوق لليأس القاتل و الإنتحار.
لقد استطاعت دولٌ النهوض و تحقيق التنمية المستدامة، بل و الخروج من دائرة التخلف، في فترة لا تتجاوز العشر سنوات، بينما ننظر باعجاب لمن يعطل طاقات المجتمع عن الإنطلاق و اعترف بفشله مرات عديدة. إن إعادة بناء الإقتصاد الجزائري يتطلب إعادة النظر في كل الأسس التي انبنى عليها، كما يتطلب حربًا ضروسًا ضد الفساد بكل و جوهه، و هي المهمة التي يبدو أن بوتفليقة عاجز عنها، أو معتذر عن التصدي لها. لقد كانت صرامته شديدة ضد منتقدي الفساد، كما حصل مع بوقرة سلطاني، لأن ذلك حسبه يُسيء لسمعة البلاد، في الوقت الذي يلاحظ البسطاء بحزن تفشي الفساد في أوصال و مفاصل الدولة، و مواجهته بسكوت من قبل السلطات. الجزائر اليوم تشهد عملية توزيع للثروة، هي في الحقيقة شكل من أشكال تقاسم غنيمة ما بعد الحرب، حيث تحولت الشرعية اليوم من شرعية الثورة و الثوار التي استمرت حتى التسعينيات إلى شرعية الأقوياء المنتصرين.
4. السياسوية و المغالطة السياسية:
السياسة التي يفترض فيها قيادة النشاط العام للمجتمع وتأطيره، ترجمت جزائريًا على أنها توظيف طاقات البلاد لضمان الإستمرارية في الحكم على حساب المستقبل و الحس المدني و الأخلاقي. السياسة التي جعلت الإقتصاد الوطني و المنظومة التربوية، و حتى الثقافة و الرياضة، ملكًا مشاعًا للأديولوجيا، في عهد الحزب الواحد، فجعلت المؤسسة الإقتصادية تحت سلطة الوزير و الوالي و المحافظ، و سياسات الحزب لإنجاح الإشتراكية و الجزأرة و العدالة الإجتماعية، على حساب صحة المؤسسة المالية، كما جعلتهم كذلك يضحون بالمدرسة في سبيل الشعارات الشعبوية، فأصبح المطرودون منها معلمون فيها تحت شعار جزأرة التعليم في الثمانينيات. نفس تلك الأساليب عادت إلى الساحة السياسية، فأصبحت السياسة و أهداف الساسة هي المحددة لشكل و نشاطات المجتمع. فالإقتصاد يوظف اليوم أيضًا كوسيلة لتحقيق أغراض سياسية، حيث بامكان الرئيس التدخل في تسيير البنوك و التحكم في قراراتها بعيدًا عن الجدوى و المعايير الإقتصادية، كقرار إلغاء ديون الفلاحين. هذه الأساليب تشكل عائقًا حقيقيًا دون ترسيخ تقاليد مالية و اقتصادية نحن في أمس الحاجة إليها لبعث الإقتصاد الوطني، بل و عكس ذلك ترسخ الإتكالية و إنعدام الجدية و المسؤولية لدى المتعاملين الإقتصاديين. إنه من الضروري دعم الفلاحة و باقي فروع الإقتصاد كما فعلت الحكومة سابقًا، ومن الضروري ضخ الكثير من المال في السوق الجزائرية، و لكن ليس بأساليب مسح الديون الغير مبررة إقتصاديا، في الوقت الذي تفرض فيه أقصى شروط الصرامة على تمويل مشاريع الشباب العاطل، بحجة أنتهاء عهد الرعاية و ضرورة تحملهم كل المسؤولية.
أما الأرقام فأصبحت فضفاضة متغيرة، و نسب نجاح البرامج في كل مجال تقدر بتطويع النسب، و ليس بمفعولها و أثرها المفترض. فنجاح التعليم بعدد مقاعد الدراسة التي ترفعها الوزارة كما تشاء بدل الإنجازات العلمية و مستويات التحصيل و التحكم في العلوم و التكنولوجيا، و قدر الإضافة التي يقدمها و الحلول التي ينتجها للمجتمع، في الوقت الذي أصبح من الواضح تدني مستوى التعليم عندنا مقارنة بدول أقل مالًا و إمكانيات. و كذلك نسب البطالة التي تجعل من المنح التي تصرفها الدولة للبطالين مناصب شغل. و كم كان مضحكًا مرةً، عندما صرح مدير بشركة نفطال أن مستوى شركته أحسن من كثير من الشركات الأوربية لأن نسبة مبيعاتها أكبر، متجاهلاً أن إرتفاع نسبة المبيعات سببه احتكار شركته للسوق الجزائرية. لقد تعلم الجميع في نفس المدرسة، مدرسة الحزب الواحد، التي ما زالت مسيطرة على مواقع كثيرة، و تحضى بالرعاية كأسلوب حكم بامتياز. إنهم يستعملون المغالطة ليبرروا بقائهم في السلطة سواءا كانت السلطة مكتب مدير أم مكتب وزير.
لقد نجح بوتفليقة نجاحًا مبهرًا في إرجاع الجزائر كما كانت، أي إلى ماقبل الأزمة... فهل هذا يعني أن ما ينتظر البلاد الآن هو...الأزمة؟ إن عدم الإستقرار لا يسببه تغير القيادة و تداول السلطة، بل الإختلال الرهيب في توازن السلطة، و إنعدام الرقابة. فلفائدة من شُل البرلمان؟ و لفائدة من قُتلت الحياة السياسة في البلاد؟ و لفائدة من تُحاصر وسائل التعبير؟ أكيد أنه ليس لصالح الجزائر و شبابها.
5. بين أحزاب التواطؤ الرئاسي و أحزاب الإنتخابات:
تراجُعُ الأداء السياسي لم يقتصر فقط على السلطة الحاكمة، بل تعداها إلى الأحزاب السياسية، حيث أصبحت الممارسة السياسية بالنسبة لبعض الأحزاب، تعني عقد شراكة مع السلطة يمكنها من البقاء و تمديد عمرها الإفتراضي، مقابل التواطؤ السياسي على مستقبل البلاد. هذه التشكيلات السياسية التي أصبحت تعرف بأحزاب التحالف الرئاسي، إختارت لعب دور الأداة السياسية بدل أن تكون الفاعل السياسي، و هو على قدر ما يبث الحزن و الألم، على قدر ما يبين مجالات الممكن السياسي في جزائر اليوم. لقد عادت الجزائر سياسيًا إلى ما قبل أكتوبر، وهو ما يضرب عرض الحائط بتجربة أكثر من أربعين سنة من الإستقلال.
إن التجربة السياسية الحديثة أثبتت بما لا يدع مجالاً للشك تجذر عقلية الشخصانية و الزعامة، ليس فقط لدى رجال السلطة، بل و حتى لدى من يعتبرون أنفسهم معارضة و بديلاً لها. فكثيرًا ما تنفجر الأحزاب عند أول موجة انتقاد لزعيمها، و قد يغادر الزعيم حزبة كل ما دبت فيه ثورة عليه ليؤسس حزبًا جديدًا خالصًا له. إن هذه العقلية لا تأهل هذه الأحزاب سوى للعب دور الدكتاتورالمرتقب بدلًا عن الحالي، فلا يمكنها أن تقدم أي خدمة للبلاد، و لا يمكنها أن تتطور إلا عبر ممارسة متواصلة و تنافسية في فضاء ديمقراطي حر و شفاف نفتقده اليوم. إن المحك الأول لتقييم هذه الأحزاب و الزعامات، هو مدى تجردها و رضوخها لإرادة الأغلبية، وقدرتها على إحتمال التداول و النقاش الحر، و ما لم تفعل ذلك فهي عقيمة لا تفرخ سوى المآسي. إن العقلية الجزائرية، كَمَا العربية، تؤمن بالزعيم المخلص و القائد المغوار، في هذا الزمن الذي ذاب قيه الشخص القائد، و تهاوى تحت ثقل المؤسسات و المختبرات و الكفائات العاملة في مجال إفراز الخيارات و صنع القرارات، و الأحزاب التي ينبغي لها أن تكون مدرسة لتعليم الأدوات الجديدة للسلوك و التفكير و التقييم، لم تقم بذلك و لا تستطيعه و هي على حالها هذه.
إننا إذا أحسنا الضن بالجميع نقول أنه حالة من عدم الإدراك، أما إذا قلنا الحقيقة، فهي حالة من إفتقاد قيم المسؤولية الأخلاقية لبعض الساسة الجزائريين. و لنا أن نتسائل اليوم، أين تلك الحماسة و العزيمة في المقارعة و المغالبة، التي كان يبديها السياسيون حينما كان الأمل في الوصول للسلطة قويًا و أبواب النقد مفتوحة؟ مالها فترت اليوم في الوقت الذي أصبح مستقبل الجزائر و أملها في التغيير متعلق بها؟ و لأن المهم في السياسة ليس القدرة على الوصول الى السلطة بقدر ما هو الشجاعة في التصدي و إحداث التغيير في السلطة، فاليوم و فقط اليوم أصبح للسياسة معنىً و أصبح للكلمة فائدة، و اليوم بالذات خرصت كل الألسنة.
6. مشروع حلم:
كما سيطرت الرداءة على الفعل السياسي، و على مستوى القيادات داخل و خارج السلطة، سيطرت الرداءة أيضًا، و أصبحت قانونًا في كل مناحى الأداء الجزائري. اليوم كل التقارير الدولية حول أوضاع الجزائر في كل المجالات، عدا مجال النفط و استيراد الأسلحة، لا تبشر بخير. جامعاتنا في ذيل ترتيب الجامعات، مؤسساتنا المالية من أكثر الأنظمة البنكية تخلفًا، إقتصادنا مريض الى حد السقم، و حتى مدننا أصبحت تصنف من أسوأ الأماكن للعيش، شبابنا استسلم لليأس و الإنحراف و الإنتحار في البحر و في الجبل. كل يوم يتسع الهامش أكثر فأكثر بيننا و بين العصرنة، و بيننا و بين الدول المتقدمة، نفس الهامش الذي أخذ يضيق أكثر فأكثر بالنسبة لدول كانت بالأمس القريب أسوأ حالاً منا. و لست بحاجة هنا الى أي تقرير دولي للدلالة على ذلك، فإننا نلاحظ يوميًا مستوى التخلف و الرداءة و إنعدام المهنية الذي تعاني منه كل أجهزة الدولة وأداراتها. و مع ذلك يتمسك الكثيرون بالعهدة الثالثة و ربما الرابعة في سبيل الإستمرارية، و لا أدري هنا ما المقصود بالإستمرارية؟ هل هي استمرارية بوتفليقة في الحكم؟ أم استمرارية الوضع الراهن الذي يمكنهم من السيطرة على دواليب السلطة و مواصلة النهب المنظم للبلاد و ثرواتها، و يسمح لسياسييهم الإقامة الطويلة على شاشات التلفزيون باسم الوطنية و الإستمرارية.
ربما يتسائل البعض فيقول: إذا كنا لا ندعم العهدة الثالثة، و لا نؤمن بالرجل الزعيم، و لا يعجبنا الوضع الحالي للبلاد، رغم التحسن الأمني و المعيشي، فماذا نريد؟ إن ما نريده هو قتل اليأس الذي استشرى، ليس فقط لدى عامة الشعب، بل وحتى عند صانعي القرار الذين لم يستطيعوا بعد تجاوز حالة العجز أمام مسألة التقدم و التنمية. إن التطور و اللحاق بالدول المتقدمة اليوم، أصبح أمرًا ممكنًا إذا طرحت الأسئلة الصحيحة، و فتح مجال الحوار الوطني للإجابة عليها. و قد نجحت دول مثل ماليزيا و الإمارات العربية و البرازيل في تحقيق تلك الوثبة، و لا أرى مانعًا اليوم يمنع الجزائر من الإنطلاق، سوى تلك العقلية القديمة المتحجرة التي تعيق البلاد. العقلية التي تركز الإهتمام على سياسة التحكم و الحكم أكثر من حل إشكالات التنمية الحقيقية و الملحة. و التي تتطلب حملة شرسة و منظمة لوقف التدهور بإصلاح الإدارة و محاربة الفساد، و تطوير مقومات الإقتصاد و محيطه العام، بالإضافة لبرنامج طموح و متحفز في مستوى بلد كالجزائر و شعب كشعبها.
إن ما نريده اليوم، هو العودة للأهداف التي خلصت اليها تجربة الإستقلال وصولاً الى أحداث أكتوبر، و ليس إلى جزائر ما قبل أكتوبر حيث نتواجد الآن. العودة إلى أهداف بناء دولة القانون السيد المهيمن على الجميع ، دولة المؤِسسات الدستورية السيدة و المستقلة، دولة لا مركزية القرار و الرقابة المتبادلة و توازن السلطات، دولة الديمقراطية التي تمكن السلطة من تصحيح أخطائها، و تحمل الشعب تبعية المشاركة في صياغة القرارات، من خلال إختياره الحر و الشفاف للسياسات و الرجال، دولة لا وصاية فيها لمجموعة على الأغلبية، دولة لا زعامة فيها سوى للعمل النافع و الجاد، و لا أحتكار فيها للسلطة على حساب المجتمع.
إن علينا ألا نقنع بأهداف تنتهي عند توفير لقمة عيش و مقعد للدراسة و سرير فى المستشفى، مع أن هذا أمر ضروري، لكن ما نريده هو أن نضع العربة بالطريقة الصحيحة على الطريق الصحيح للّحاق بالركب الحضاري، لأن إمكانياتنا الحالية تأهلنا لذلك و للأسف قياداتنا السياسية و طبيعة نظامنا السياسي تمنعنا منه.
الشهاب


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.